في فاطمة من خلال تطلعه إلى آفاق المستقبل الذي سيكون لولد فاطمة فكان يكرمها ويحترمها ويقول لها مرحباً بأم أبيها .
* ولعل وجه تكنيتها بأمّ أبيها هو أنه صلى الله عليه وآله وسلم يعاملها عليها السلام معاملة الولد أمه . وانها تعامله معاملة الأم ولدها كما ان التاريخ يؤيد ذلك والأخبار تعضده ، ففي الأخبار الكثيرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقبل يدها ويخصها بالزيارة عند كل عودة منه إلى المدينة المشرفة ويودعها منطلقاً عنها في كل أسفاره ورحلاته ، وكأنه يتزود من هذا المدينة المشرفة ويودعها منطلقاً عنها في كل أسفاره ورحلاته . وكأنه يتزود من هذا النبع الصافي عاطفة لسفره كما يتزود الولد المؤدب من أمه ، ونلاحظ من جهةٍ أخرى ان فاطمة الزهراء عليها السلام تحتضنه وتضمد جروحه وتخفف من آلامه كالأم المشفقة لولدها ، وبالجملة كل ما يجده الولد في امه من العطف والرقة والشفقة والأنس فهو صلى الله عليه وآله وسلم يجده في فاطمة وكأنها أمه (1) .
* ونقل المولى الأنصاري ( ره ) : إنّ النكتة في هذه التكنية إنما هي محض إظهار المحبة ، فإن الإنسان إذا أحبّ ولده أو غيره وأراد أن يظهر في حقّه غاية المحبّة قال : « يا أمّاه » في خطاب المؤنّث ، ويا « أياه » في خطاب المذكّر ، تنزيلاً لهما بمنزلة الأمّ والأب في المحبّة والحرمة على ما هو معروف في العرف والعادة (2) .
أو أنّ الله عزّ وجلّ لمّا شرّف وكرّم أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتكنيتهنّ بأمّهات المؤمنين صرن في معرض أن يخطر ببالهنّ أنّهن أفضل النساء حتى من بضعة المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولأجل ذلك كنّاها أبوها بأمّ أبيها صوناً لهذه الخواطر والوساوس ، يعني يا نساء النبي إن كنتنّ أمّهات المؤمنين ، ففاطمة عليها السلام أمّ النبيّ ، أمّ المصطفى ، أمّ الرسول ، أمّ أبيها .
ويمكن أن يراد بهذه التكينة معنىً أدق وأعمق من الأول والثاني وإن كان الأول هو الأظهر ، وهو : أنّ أمّ كلّ شيء أصله ومجتمعه كما صرّح به أهل اللغة كأم القوم وأمّ الكتاب وأم النجوم وأم الطرق وأم القرى وهي مكّة شرّفها الله تعالى ، وأم الرأس وأم الدماغ و ... فعليه يمكن أن يقال : إنّه صلى الله عليه وآله وسلم أراد منها أنّ ابنتي فاطمة هي أصل شجرة
____________
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى : 204 .
(2) اللمعة البيضاء : 50 .

( 274 )

الرسالة وعنصر النبوّة ، كما قال الباقر عليه السلام : الشجرة الطيّبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفرعها عليّ عليه السلام وعنصر الشجرة فاطمة عليها السلام وثمرتها أولادها ، وأغصانها وأوراقها شيعتها (1) . وكما أنّه لولا العنصر يبست الشجرة وذهبت نضرتها ، فكذلك لولا فاطمة لما اخضرّت شجرة الإسلام ، فإنّ الشجرة تسمو وتنمو بتغذيتها من أصلها . وشجرة الشريعة الحنيفيّة قد سمعت ونمت بمجاهداتها ودفاعها من إمامها وبعلها الشريف المظلوم ومجاهدات أولادها وتضحيّاتهم ، لا سيّما شبليها الكريمين ، فإنّ الحسن عليه السلام بصلحه أبقى شجرة الإسلام ومنعها من الاصطدام والحسين عليه السلام بإبائه عن البيعة وبذل مهجته الشريفة سقاها وربّاها ، ولولا صلح الحسن وقيام الحسين عليها السلام ليبست شجرة الإسلام وما قام لها عود ولا اخضرّ لها عمود . ولا يخفى أنّ أصل الحسن والحسين عليهما السلام أمّهما فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولولاها لم يكن أبوها وبعلها وبنوها عليهم السلام كما تقدم في صدر الكتاب .
ولتمام البحث فاستمع لم يتلى من بعض الأخبار في هذا المعنى : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا شجرة ، وفاطمة أصلها ، وعليّ لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها (2) .
وعن المفضّل بن محمد الجعفيّ قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( حبة أنبتت سبع سنابل ) (3) قال : الحبّة فاطمة عليها السلام ، والسبع السنابل سبعة من ولدها ، سابعها قائمهم ... (4) .
وقال بعض أهل التحقيق : سرّ التعبير عنها عليها السلام بالحبّة يحتمل وجهين :
الأول : إمّا كناية عن أنها هي المقصود أولاً وبالذات ، وإما أن تكون مجرى هذه الأمانات الإلهيّة ومظاهر التوحيد الحقيقيّ صلوات الله عليها ، ووجه التشبيه أنّ من لم يكن من الزرّاع عنده حبّه فهو آيس من تحصيل الزراعة ، فأصل النظر عنه دائماً إلى الحبّة فقطّ وإلا فالنتيجة منها غير حاصلة ، وكذلك وجود الزهراء صلوات الله عليها
____________
(1) مجمع البحرين : مادة شجر .
(2) ميزان الأعتدال : 1 | 234 ، على ما في إحقاق الحق : 9 | 152 .
(3) البقرة : 261 .
(4) تفسير نور الثقلين : 1 | 282 .

( 275 )

هي المصدر والأصل لهذه الأنوار الإلهية ، رزقنا الله حبّها وشفاعتها .
الثاني : أنّ الزراعة أصلاً وحقيقة هي تلك الجبّة مع إضافات أخريأ عملت فيها ، فتصور بصرة أخرى ، وإنما الفرق بينهما الإجمال والتفصيل ، وإلا هي هي مادة وأصلاً . فعلى هذا تكون الأنوار المقدّسة هي المتشعبّة والمشتقّة من هذه الحبّة الإلهية (1) ...
* إن النبي كان يكشف عن مكانة فاطمة في الإسلام ، في كل كلمة يقولها لفاطمة ، وكل صنيع يصنعه لها . وهنا أراد النبي الكريم ، أن يبيّن عظمة فاطمة الزهراء ، وأنها تختلف عن نسائه اختلافاً كبيراً ، أي أن مكانة الزهراء تفوق مكانة نساء النبي لأنها تختلف عن نسائه اختلافاً كبيراً ، أي أن مكانة الزهراء تفوق مكانة نساء النبي لأنها معصومة .. وهنّ لسنن بمعصومات .. ولأنها مطهرة من الرجس ، وهن لسن مطهرات من الرجس .. ففاطمة زعيمة آية التطهير ، بينما لم تدخل واحدة من نساء النبي في آية التطهير ، حتى أم سلمة على جلالة قدرها ، لما اقتربت من الكساء والنبي يقرأ قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (2) .
وكان تحت الكساء يومها محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ أقول : لما اقتربت أم سلمة من طرف الكساء ، وقالت : وأنا منهم يا رسول الله ـ روحي فداك ـ ؟ قال : لا .. لست منهم ، ولنك على خير ، أو إلى خير .
وفي يوم المباهلة نجد النبي لم يخرج معه من النساء سوى فاطمة في حين أن آية المباهلة واضحة بقولها : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) .
أقول : ولما خرج النبي إلى مباهلة النصارى ، لم يخرج معه سوى الحسن والحسين وفاطمة وعلي عليهم السلام فالحسن والحسين يمثلان الأبناء ، وفاطمة تمثل النساء ، وعلي يمثل نفس النبي ، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل على أن فاطمة سيدة النساء ، ولو كانت واحدة من نساء النبي في مستوى فاطمة لأخرجها معه ، ولكنه ـ أي الرسول ـ لم يجد
____________
(1) القطرة للسيد أحمد المستنبط : 158 .
(2) اعلموا أني فاطمة : 2 | 723 ـ 731 .

( 276 )

في نسائه ، ولا في بني هاشم ولا في نساء الخلافة ، واحدة تقوم مقام الزهراء ، فاطمة بنت محمد ـ صلوات الله وسلامه عليها . والذين يحاولون إدخال زوجات النبي في أهل البيت ، عليهم أن يتفكروا في أمر آية المباهلة لتستبين لهم جادة الحق والصواب كالشمس الصافية المشرقة .
ولتأصيل هذا المعنى ، وتأكيده اقرأوا معي إذا شئتم أول سورة التحريم ، وهو قوله تعالى : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ) (1) ، والتعبير واضح جداً .
فحينما يقول : تبتغي مرضاة أزواجك ، فإن معنى ذلك أن رضى زوجات النبي لا قيمة له أمام رضا الله سبحانه وتعالى لأن رضا أزواج النبي خاضع للهوى ، وليس لموازين الإيمان ، وهذا ليس انتقاصاً لنساء النبي وإنما هو الواقع ، والحقيقة فنساء النبي لسن معصومات وما فيهن واحدة يمكن أنت تصل إلى مستوى فاطمة ، لذلك يقول القرآن في استنكار شديد ( يا أيها النبي لم تحرم ما الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ) .
علماً بأن النبي لا يحرّم ما أحل الله له في التشريع الإسلامي الحنيف ، وإنما كانت القضية ، مسألة خاصة تتعلق بشيء من السمن والعسل أهدي إلى زوجة النبي زينت بنت جحش ، وحدث أن كان النبي عندها ، فقدمت له من ذلك الطعام شيئاً يسيراً فأكله النبي ، غير أن غيرة عائشة وبعض نسائه أدت إلى أن تقوم اثنتان من نساء النبي ـ كما ورد في سورة التحريم ـ وهما عائشة وحفصة ، أن تقوما بمظاهرة ضد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبدأت المظاهرة بقول عائشة وحفصة للنبي إننا نشم من فمك رائحة كريهة ، فتعجب النبي أن تكون رائحة فمه كريهه وهو الذي كانت حبات عرقه تتضوع عطراً ، بل كان جسمه يفوح بعطر الجنة كما جاء ذلك في سيرته الذاتية ، وأحواله الشخصية .. ولكن لا بأس ، إذا كان هذا الطعام الذي أكلته ـ هكذا قال النبي ـ فيه رائحة غير جيدة فقد حرمته على نفسي أي أن النبي حرّم ذلك الطعام الذي هو
____________
(1) التحريم : 1 .
( 277 )

عند زوجته زينب بنت جحش ولم يحرم كل أنواع العسل ... ولذلك قلت لكم ـ آنفاً ـ إن التحريم كان خاصاً به ولم يكن عاماً وشاملاً ، لأن النبي لا يحرم ما أحل الله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . ومحل الشاهد هنا ، هو قول الحق سبحانه : ( يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ) . وهذا يدل بوضوح ، على أن رضا أزواج النبي لا وزن ولا قيمة له أمام رضا الله سبحانه وتعالى .
هذا بالنسبة لرضا أزواج النبي ونسائه .. أما بالنسبة لفاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ فالأمر يختلف اختلافاً جذرياً . يقول النبي : « إن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها » .
ويقول : يا فاطمة إن الله ليرضى لرضاك ويغضب لغضبك .
ويقول في حديث ثالث : « رضا فاطمة من رضاي وسخطها من سخطي » . والويل لمن غضبت عليه فغضبها يعني غضب الله ، وإذا غضب الله على أحد أحل به نقمته ، وجنّبه رحمته .
يقول : الله عزّ وجلّ : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) (1) .
ونحن نعرف أن فاطمة ماتت وهي غاضبة وواجدة على أبي بكر وعمر ، كما جاء في صحيح البخاري ، فما أدري كيف تكون المعادلة .. إذا كان غضب فاطمة ، هو غضب الله ، وأن الله ليرضى لرضا فاطمة ، ويغضب لغضبها ، ثم تموت الزهراء ، وهي واجدة ـ غاضبة ـ على أبي بكر وعمر ، فالقرآن يقول بصراحة : إن الذي يحلل عليه غضب الله يكون من الهالكين : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) .
والعجيب أن هذه الأحاديث كلها موجودة في صحيح البخاري وفي كتب الصحاح الأخرى ، وكلها تؤكد أن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها .. وأن فاطمة ماتت وهي واجدة على أبي بكر و عمر ... ماتت ولم تكلمهما كلمة واحدة ... ماتت ودفنت في الليل ولم يحضر أبو بكر ولا عمر تجهيزها ولا الصلاة عليها .. وهذه قضية معروفة
____________
(1) طه : 81 .
( 278 )

لدى المسلمين كافة . أما لماذا يرضى الله لرضا فاطمة ويغضب لغضبها ، فواضح جداً وذلك أنها طاهرة نقية ، معصومة لا تتعامل مع الخطأ في قول ولا فعل وهي التي كانت تقول : « أيها الناس إعلموا أني فاطمة ، وأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أقول : حقاً عوداً وبدءاً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً .. » فلا غلط في قولها .. ولا شطط في فعلها على الإطلاق .
* حادثتان تكشفان حقيقة حديث النبي :
والذي يهمني هنا هو ذكر حادثتين اثنتين فقط ، لأنهما تسلطان الضوء على الحديث الذي نحن بصدده ، إضافة إلى كون الحادثتين اللتين سأذكرهما ، تعكسان صورة واضحة وجلية تكشف لنا عن حقيقة حديث مرحباً بأم أبيها .
الحادثة الأولى هي المؤاخاة ، فقد آخى النبي بين كل أصحابه لينزع الغل من بعض القلوب ، ويجعلهم صفاً واحداً في مواجهة العدو ، كأنهم بنيان مرصوص .. فقال : هذا أخو هذا ، وفلان أخو فلان ، حتى لم يبق أحد سوى علي ظل واقفاً إلى جواز النبي فأخذ النبي بعضده وقال له : أنت أخي أو قال : « وهذا أخي .. » .. وهنا تجدر الملاحظة بدقة متناهية ، حيث أن النبي اختار علياً من دون أصحابه ليكون أخاً له دون غيره .
إذن اجعلوا هذه الحادثة ، عالقة في أذهانكم ثم تعالوا معي إلى الحادثة الثانية : وهي لما نزلت آية الحجاب : ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهم من رواء حجاب ) (1) .
قال طلحة : أيريد محمد أن يمنعنا من النظر إلى بنات عمنا ، أما والله لئن مات محمد لنتزوجن نساءه ، ونجول بين خلاخيلهن ... !! ...
حقاً إنه عجب يثير الهم يجلب الحزن ، أن نسمع مثل هذا الكلام من طلحة وهو من العشرة المبشرين بالجنة ( .... ) ولا أعتقد أن بوابة الجنة سوف تنخلع أمامه ليدخل الجنة من أعرض الأبواب . هذا الذي لا يتورع من إظهار الهوى والغرام لزوجات النبي وهن أمهات المؤمنين . ولم يحفظ حرمة رسول الله . ولكن ما علينا بطلحة ، لنتركه يعيش مع غرامه الباطل فإن عذاب جهنم كان غراماً . ولنرجع إلى الحادثة الثانية ،
____________
(1) الأحزاب : 53 .
( 279 )

وهي حين نزلت آيات الحجاب ، وظهر من بعض المنافقين مثل الكلام الذي قد مرّ نزلت آية تقول : ( ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ) (1) .
ثم جاء آية ثانية تتحدث عن مكانة زوجات النبي وأنهن بمثابة الأمهات لكم أيها المؤمنون قالت الآية : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) (2) .
وهذا يعني أن عائشة أم المؤمنين وأن زينب بنت جحش أم المؤمنين ، ومارية القبطية أم المؤمنين ، وحفصة أم المؤمنين ، وخديجة الكبرى أم المؤمنين .. فأثارت هذه الآية سؤالاً عريضاً على الشفاه السؤال هو : إذا كانت كل واحدة من زوجات النبي أماً للمؤمنين .. فاطمة أم من ؟ وهنا جاء الجواب على لسان الرسول الأمين الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى حيث قال « فاطمة أم أبيها ... » ومن ذلك الحين أصبحت فاطمة أم أبيها ، وصار الرسول يناديها بأم أبيها ، فيقول : مرحباً بأم أبيها .
وأورد صاحب كتاب « رياحين الشريعة » جملة من الألقاب والكنى للسيّدة الكبيرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى بعلها وبنيها ، وهي : ابنة الصفوة ، إحدى الكبر ، أرومة العناصر ، أعزّ البريّة ؛ أمّ الأئمّة المعصومين ، أمّ الأبرار ، أمّ الأبرار ، أمّ الأخيار ، أمّ الأزهار ، أمّ الأطهار ؛
أمّ الأنوار ، أمّ البدريّين ، أمّ البررة ، أمّ البريّة ، أمّ البلجة ، أمّ التقى ، أمّ الحسن :
أمّ الحسين ، أمّ الخيرة ، أمّ الرأفة ، أمّ الرواق الحسيبة ، أمّ الريحانتين ، أمّ السبطين ؛
أمّ العطيّة ، أمّ العلا ، أمّ العلوم ، أم الفضائل ، أمّ الكتاب ، أمّ المحسن ، أمّ المؤمنين ؛
أمّ الموانح ، أم النجباء ، أمّ النقى ، أمّ النورين ، أمة الله ، آية الله ، آية الله العظمى .
باكية العين ، البتول ، برزخ النبوّة والولاية ، بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بقيّة النبوّة ، بهجة الفؤاد ، بهجة بيضاء بضّة ، تفّاحة الفردوس ، التقيّة ؛ ثالثة الشمس والقمر ، ثمرة النبوّة ، جرثومة المفاخر ، جمال الآباء ، الجميلة الجلية ، حاملة البلوى ، الحانية ، الحبّة النابتة حبّها خير العمل ، حبيبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، حجاب الله المرخى ، حجّة الله الكبرى ،
____________
(1) الأحزاب : 53 .
(2) الأحزاب : 6 .

( 280 )

الحرّة ، الحصان ، حظيرة القدس ، الحوراء خامسة أهل العبا ، الخيرة من الخير ، درّة التوحيد ، الدرّة المنضدة ، الدعوة المستجابة ، الذروة الشامخة ، ذريعة الشيعة ، الراضية ، ربيبة مكّة ، الرشيدة ، ركن الدين ، روح بين جنبي المصطفى ، ريحانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . زجاجة الوحي ، الزكيّة زوجة وليّ الله الأعظم ، الزهراء ، زين الفواطم ، ستر الله الكبرى ، سفينة النجاة ، سلالة الرضوان ، سلالة الفخر ، سماء الكواكب الدريّة ، السيّدة ، سيّدة بنات آدم عليه السلام ، سيّدة الأوّلين والآخرين ، سيّدة نساء الجنّة ، سيّدة نساء هذه الأمّة ، سيدة النسوان ، شرف الأبناء ، شفيعة الأمّة ، الشفيعة يوم القيامة ، الشمس المضيئة ، الشهيدة ، الصائمة في النهار ، الصابرة في المحن ، صاحبة الأحزان الطويلة ، صاحبة الجنّة السامية ، صاحبة المصحف ، الصادقة في السرّ والعلن ، الصدف الفخّار ، الصدّيقة ، الصدّيقة الكبرى ، صفوة الشرف ، صلوة الوسطى ؛ امن الشفاعة ، الطاهرة ، الطاهرة في الأفعال ، الطاهرة الميلاد ، ظلّ الله الممدود ، العابدة التقيّة ، العارفة بالأشياء ، العالمة بما كان وما يكون ، عالية الهمّة ، عديلة مريم الكبرى ، العذراء ، عروة الوثقى ، العفيفة ، عقيلة الرسالة ، عيبة العلم ، عين الحجّة ، عين الحياة الغرّة الغرّاء ، الفاضلة الفضلى ، فخر الأئمّة ، فلذّة كبد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، القائمة في الليل ، القانتة ، القانعة ، والقدوة المسدّدة ، قرار القلب ، قرّة عين الخلائق ، قلادة الوجود ، الكئيبة ، الكريمة في النفقة ، كلمة الله التامّة ، كلمة التقوى الكلمة الطيّبة ، الكوثر ، الكوكب الدرّي . لية القدر ، المباركة ، مبشّرة الأولياء ، المتعوبة في الدنيا ، المتهجّدة ، محترقة القلب ، المحدّثة ، المرضيّة ، مريم الكبرى ، المزوّجه في الملأ الأعلى ، مشكوة الأنوار ، المضطهدة ، المظلومة ، معدن الحكمة ، المعروفة في السماء ، معصّبة الرأس ، المعصومة ، المغصوبة حقّها ، مقتولة الجنين ، مكسورة الضلع ، الممتحنة ، الممنوعة إرثها ، المنصورة ، المنعوتة في الإنجيل ، المنهدّة الركن ، الموصوفة بالبرّ والتبجيل ، موطن الرحمة ، مهجة العالم ، مهجة قلب المصطفى ، الميمونة ، ناحلة الجسم ، الناطقة بالشهادتين عند الولادة ، النبيلة ، نجمة إكليل النبوّة ، نخبة أبيها ، النعمة الجليلة ، نور الأنوار ، النوريّة ، والدة الحجج ، والدة الحسن والحسين عليه السلام ، الوالهة الثكلى ، الوحيدة الفريدة ، وديعة الرسول ، وعاء المعرفة ، وليّة الله العظمى ، الوليدة في الإسلام ، ينابيع الحكمة ، ينبوع العلم .


( 281 )

البحث الحادي عشر
فلسفة تسبيح
فاطمة الزهراء عليها السلام



( 282 )


( 283 )

الشيخ صالح كواز الحلي
الواثــــبين لظـــلم آل مـــحمد * ومـــحمد مـــلقى بــلا تكـــفين
والقــــائلين لفــــاطم آذيـــتنا * فـــي طـــول نـوح دائـم وحـنين
والقــاطعين اراكــة كـي مــاتقيل * بــــظل اوراق لهـــا وغـــصون
ومجمعي حطب عــلى البــيت الـذي * لم يــجتمع لـولاه شـــــمل الديــن
والداخـــلين عــلى البــتولة بـيتها * والمســـقطين لهـــا أعـــز جـنين
والقــــائدين امـــامهم بـــنجاده * والطـــهر تــدعو خــلفهم بــرنين
خلو ابن عمي او لاكـــشف للــدعا * رأســي وأشكــــو للالـه شــجّوني
مــا كــان نـاقة صـالح وفـصيلها * بـــالفضل عــــند الله إلاّ دونـــي
ورنت إلى القــبر الشــريف بــمقلة * عـــبرى وقــلب مكــمد مــحزون
قـــالت واظـفار المــصاب بـقلبها * غــوثاه قــل عــلى العــداة مـعيني
أبــتاه هــذا الســامري وعــجله * تــبعا ومــال النــاس عـن هـارون
أي الرزايــــا اتــقي بـــتجلدي * هو في النوائب مذ حــييت قـــــريني
فقدي ابي ام غــصب بـعلي حـــقه * ام كسـر ضلعي ام ســــقوط جــنيني
ام اخذهم ارثــي وفــاضل نــحلتي * ام جـــهلهم حــقي وقــد عــرفوني
قهروا يـتيميك الحســـين وصــنوه * وسئلتهم حــقي وقــد نـــهروني (1)

____________
(1) هذه القصيدة العصماء للشاعر المرحوم الشيخ صالح الكواز الحلي .
( 284 )


( 285 )

البحث الحادي عشر
فلسفة تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام

من الشعائر الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم هي شعيرة التسبيح ، تلكم الشعيرة التي تزيد في إيمان الإنسان وتضيف عليه هالة من النورانية عبر أداء هذه الركيزة الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة فقد جاء في قوله تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ليؤكد على هذه الحقيقة الخالدة التي أثبتها الله تبارك وتعالى لجميع الأشياء ، فالكون يسبح والنجوم تسبح في مداراتها الغارقة في أعماق الفضاء والشجر والنباتات والحيوانات بكل صنوفها تشترك في هذا الموكب الرهيب الذي يثير الدهشة ويجتذب القلوب ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) (1) .
وأيضاً قوله تعالى : ( فسبح باسم ربك العظيم ) .. أي نزّه الله سبحانه عن السوء ، والشرك وعظمه بحسن الثناء عليه ، ومعناه أيضاً نزه اسمه عما لا يليق به ... فلا تضف إليه صفة نقص أو عملاً قبيحاً .. ومعناه أيضاً قولوا سبحان ربي العظيم .. والعظيم في صفة الله تعالى معناه كل شيء سواه يقصر عنه فإنه القادر العالم الغني الذي لا يساويه شيء ولا يخفى عليه شيء جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه .
وورد في التفسير المروي في هذه الآية المباركة : أي فبرئ الله تعالى مما يقولون في وصفه ، ونزهه عما لا يليق بصفاته ، وقيل معناه قل سبحان ( لله ) ربي العظيم ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الآية قال « اجعلوها في ركوعكم » وراجع في ذلك تفسير مجمع البيان ليتضح لك الحال والبيان .
ولقد ورد في القرآن الكريم عدة ألفاظ للتسبيح فتارة يأتي على نحو صيغة الأمر تسبح وتارة أخرى بصيغة الماضي أو الحاضر .. يسبح .. تسبّح .. وسبحان الله .. وهذا
____________
(1) النور : 41 .
( 286 )

يعني أن التسبيح له صفة الإستمرارية في كل شيء وكما قلنا فالكون يسبح .. الخ .
وإذا تفحصنا القرآن الكريم نجد زخماً كبير من الآيات المباركة تصل العشرات تؤكد على مسألة التسبيح ومنها : ( سبّح لله ما في السموات والأرض ) (1) . ( يسبح له ما في السموات وما في الأرض ) (2) . ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) (3) . ( صبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) (4) .
إذن رحلة التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح أعظم وأفضل ما يكون عليه الإيمان ، وقد ذكرنا هذه المقدمة لتكون لنا عوناً على استيعاب الموضوع الذي نحن فيه ـ تسبيح الزهراء عليها السلام ـ ومن الطبيعي جداً نرجع إلى المصدر الأول للمسلمين الذي هو القرآن الكريم لنرى كيف أكد على هذا التسبيح ، وبعد ننطلق ونسبح في فضاء تسيبح الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام .
فالقرآن الكريم قال ان الكل يسبح ولكن لا نعرف نحن القاصرون عن إدراك الكثير من الحقائق التي تخصنا نحن كبشر في حياتنا ، وإلا فالكل يسبح ولكن نحن لا نعرف لغة هذا التسبيح الذي يخص الكائنات الأخرى سواء النباتية أو الحيوانية وأو الجمادية أو الأفلاك المتحركة ، فإن لهذه الوجودات لغات خارجة عن تصوراتنا وعن حدود معرفتنا ، وليس لنا القابلية في معرفة هوية هذا التسبيح الخاص بها ، إلا من وفقه الله تعالى في مجاهدة نفسه ووصل إلى مرحلة الكشف والشهود لكثير من الحقائق الكونية .. وهذا ما نجده متحقق في كثير من الأنبياء عليهم السلام كما في قصة سليمان عليه السلام الذي أعطاه الله تبارك وتعالى معرفة لغة الحيوانات ( وعلمنا منطق الطير ) ويقول الله تعالى في ذلك : ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها ) (5) .
____________
(1) الحديد : 1 .
(2) الحشر : 24 .
(3) ق : 31 .
(4) الأعلى : 1 .
(5) النمل : 18 ـ 19 .

( 287 )

فسليمان يعرف لغة الغير من الحيوانات كالنمل والطير وإلا لو كان لا يعرف لغة النمل لما تبسم ضاحكاً من قولها ، وعلى هذا الأساس فإن لكل شيء في هذا الكون لغة ومنطق ولكننا لا نفقه لغته ولا نعرف منطقه ولا ندرك ذلك إلا لمن أعطاه الله تبارك وتعالى نور البصيرة في كل شيء ( ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور ) .
إذن فكل شيء له لغة وله منطق غير أننا لا نفقه تلك اللغات اللهم إلا أن يكون الإنسان نبياً أو وصي نبي أو أحد الأئمة الهداة الذين علمهم الله منطق كل شيء وكما ورد ذلك في كتاب مدينة المعاجز الذي يعطيك عشرات الشواهد على ذلك .. أما نحن فلاحظّ لنا من ذلك على الإطلاق ، وفي حديث أن الحصى كانت تسبح في كف النبي والصحيح هو أن النبي كا يسمع صوت الحصى حينما تسبح الله وتقدسه ... وإلا فالحصى هي مسبحة لله تعالى في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي يد غيره من البشر غاية ما في الأمر أن الأنبياء لهم القدرة على سماع هذا التسبيح بشكل واضح وملموس . وبعد أن وقفنا بعض الشيء مع معالم التسبيح في القرآن الكريم نأتي الآن إلى نورانية تسبيح فاطمة عليها السلام الذي يعبتر من الشعائر الدينية لدى الشيعة والسنّة والذي يعتزون به كأفضل الأعمال عقيب الصلاة المفروضة .
ولقد جاء الحث عليه من قبل الأئمة عليهم السلام في كثير من الأحاديث التي وصلت إلينا عبر الرواة والمحدثين ومنها ما جاء عن لسان أبي جعفر عليه السلام قال :
« ما عبدالله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة عليها السلام ، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام » (1) .
وعنه عليه السلام قال : « من سبّح تسبيح الزهراء عليها السلام ثم استغفر غفر له وهي مائة باللسان ، وألف في الميزان ، وتطرد الشيطان ، وترضي الرحمان » (2) .
وجاء عن هارون المكفوف ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « يا أبا هارون ! إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة فالزمه ، فإنه لم يلزمه عبد فشقي » (3) .
____________
(1) الكافي : 3 | 343 | ح 14 ، الوسائل : 4 | 1024 | ح 1 ، التهذيب : 2 | 105 .
(2) ثواب الأعمال : 196 | ح 2 ، الوسائل : 4 | 1023 ح 3 .
(3) أمالي الصدوق : 464 ح 16 ، ثواب الأعمال : 195 ، الكافي : 3 | 343 ح 13 .

( 288 )

وأيضاً عن الصادق عليه السلام قال : « من سبح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يثني رجله بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له ويبدأ بالتكبير » ثم قال أبو عبدالله عليه السلام لحمزة بن حمران : « حسبك بها يا حمزة » (1) .

تشريع التسبيح

من منّا لا يعرف كفاح فاطمة عليها السلام وكيف كانت حياتها تجري في بيت زوجها علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ فالتاريخ يحدثنا أنها كانت قليلة الهجوع في لليل ، وكانت تستغفر الله في الأسحار ، فتقف في محرابها للصلاة حتى تورمت قدماها من كثرة العبادة والدعاء ... وكانت تذوب رقة وخشوعاً في صلاتها وعند دعائها ، ولدى قراءتها القرآن الكريم ... فإذا مرت بآية فيها وعد أو وعيد رددتها في بكاء وحزن ودموع ...
هذا كان بعض شأنها في الليل ... أما في النهار ، فقد كانت فاطمة تطحن بالرحى حتى أثّرت الرحى بيدها ، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها ، وكنست البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأو قدت تحت القدر حتى طبع الدخان أثره على ملابسها وترك لونه على ثيابها وقت العمل بالطبع (2) وبلغ بها الحال أن دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات صباح ، وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل ، وطفلها يبكى إلى جانبها ، فبكي النبي ، وقال « تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة » (3) .
وذات مرة ، وقفت فاطمة الزهراء عليها السلام بين يدي أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر اليها ، وقد بدت آثار التعب على وجهها ، من شدة الجوع والكفاح ، فوضع يده الكريمة على صدرها ، ورمق السماء بطرفه ، وراح يدعو لها ، والدموع تترقرق في عينيه ، وهو يقول : « يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا ، لحلاوة الآخرة » . وقد تكرر هذا الموقف من رسول الله
____________
(1) قرب الإسناد : 165 .
(2) صفوة الصفوة : 2 | 6 و كتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : 63 .
(3) أعلام النساء لعمر كحالة 3 | 216 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : 63 .

( 289 )

لفاطمة ، وفي كل مرة يكرر عليها هذه العبارة : يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ... وفي ذلك درس عظيم لكل فتاة تبحث عن النجاح في الحياة .. فيه درس عظيم لكل امرأة تفتش عن السمو .. تفتش عن التكامل في الإسلام .
يقول جابر بن عبدالله الأنصاري رحمه الله : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة ، وعليها كساء من أجلة الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا بنتاه تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ، فقالت : الحمد لله على نعمائه ، والشكر لله على آلائه (1) .
إن فاطمة الزهراء من خلال سيرتها الذاتية هذه تعطي الفتاة المسلمة أعظم درس في الحياة ، يؤدي بها إلى سلوك الصراط المستقيم لتعيش في ظلال رحمة الله سبحانه .
أجل .. إن فاطمة تعلم المرأة كيف تصبح فتاةً مسؤولية ... ، تتحمل مسؤولية الأسرة ، والمجتمع في ثقة وشجاعة .
ونعلم من سيرة الزهراء أنها لما أرهق بدنها الكدح والنضال ، وأتعبها الطحن بالرحي ، جاءت أباها تمشي على استحياء ، تطلب منه خادمةً تساعدها على تخفيف أعباء المنزل ، وثقل الحياة العائلية التي كانت تكابدها ليلاً نهاراً ، علّها تخفّف عنها بعض همومها . وقفت بين يدي أبيها رسول الله ، مطرقةّ برأسها حياة بعد أن سلمت عليه ، فرد عليها السلام ، وكان من عادته أنه إذا أقبلت عليه فاطمة ، كان يقوم إجلالاً لها ويقبل يدها ثم يجلسها في مجلسه ، فجلست وهي مطرقة برأسها إلى الأرض ، وما كادت تجلس في مكانها ، حتى سألها الرسول الأعظم قائلاً : ما جاء بك ... وما حاجتك أي بنية ؟ فغلبها الحياء ولم تتمكن من سؤال النبي ، فقالت : جئت لأسلم عليك .. وبعد لحظات قامت فودعها النبي ، ورجعت إلى دارها دون أن تحقق هدفها الرامي إلى طلب فتاة لخدمة المنزل .
وبعد هذا اللقاء بأيام وجدت فاطمة نفسها لا تستطيع مواصلة العمل دون وجود فتاة إلى جانبها في البيت ، فقررت أن تشكو حالها إلى أبيها الحبيب المصطفى لعله هذه
____________
(1) سفينة البحار : 1 | 571 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : 65 .
( 290 )

المرة يلبي نداءها ، ويستجيب لدعوتها ، خصوصاً وقد انتصر المسلمون في معارك الجهاد ، فاحرزوا غنائم كثيرة وأموالاً عظيمة .. فقامت فاطمة الزهراء عليها السلام من ساعتها ، وأتت أباها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلبت منه خادمة ، فقال لها : يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم وم الدنيا وما فيها .
قالت : وما ذلك يا رسول الله ؟
قال : « تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة ، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، ثم تخنمين ذلك بلا إله إلاّ الله ، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها » (1) .
وإليك قضيته كما نقله كتاب من لا يحضره الفقيه :
روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل من بني سعدٍ : ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) ؟ إنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها (2) ، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأو قدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها (3) فأصابها من ذلك ضرّ شديد ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل .
فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حداثاً ، فاستحيت فانصرفت ، فعلم صلى الله عليه وآله وسلم أنها قد جاءت لحاجة ، فغدا علينا ونحن في لحافنا ، فقال : السلام عليكم ، فسكتنا واستحيينا لمكاننا ، ثم قال : السلام عليكم ، فسكتنا ، ثمّ قال : السلام عليكم ، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف ـ وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً ، فإن اذن له وإلا انصرف ـ فقلنا : وعليك السلام يا رسول الله ادخل ، فدخل وجلس عند رؤؤسنا ، ثمّ قال : يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمّد ؟ فخشيت إن لم نجبه أن يقوم ، فأخرجت رأسي فقلت : أنا والله اخبرك يا رسول الله ، إنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها ، وجرّت
____________
(1) شرح خطبة الزهراء للشيخ نزيه : 29 .
(2) مجلة يداها أي ظهر فيها المجل وهو ماء يكون بين الجلد واللحم من كثرة العلم الشاق . والمجلة القشرة الرقيقة التي يجتمع فيها ماء من أثر العمل الشاق .
(3) الدكنة : لون يضرب إلى السواد .

( 291 )

بالرحى حتى مجلت يداها ، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّما أنت فيه من هذا العمل .
قال : أفلا اعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم ؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدةً . فأخرجت فاطمة رأسها وقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، رضيت عن الله وعن رسوله (1) .
وعادت فاطمة إلى دارها تحمل معها أعظم هدية ربّانية ، وأكبر عطاء تربوي فكري . تلكم كانت قصة حديث تسبيح فاطمة الذي أطلقوا عليه اسم تسبيح الزهراء ، وشاع صيته في الآفاق وأصبح المسلمون يرددونه في أعماق كل صلاة في خشوع ودموع . ولكن هل انتهت قصة هذا التسبيح العظيم ـ تسبيح الزهراء ـ ؟ كلا .. بالطبع إن تسبيح الزهراء ـ سلام الله عليها يعتبر شعيرة عظيمة ، من شعائر الله التي هي من تقوى القلوب . ونحن نعرف أن فاطمة لها أسلوب خاص ، وسيرة ذاتية تتعامل بها مع شعائر الله .. إن مفهوم الشعائر عند فاطمة يختلف عن مفهوم الآخرين للشعائر .. ولكي تأتي الصورة ـ صورة البحث ـ أكثر وضوحاً ، فإنه لا بد من الدخول في الموضوع من أبوابه العريضة ، ولكن باختصار شديد مع الوضوح الكاملي في الفكرة والتعبير .
إن الصفة الملازمة لفاطمة الزهراء ـ هي أنها تستطيع أن تصور الإسلام في كل خطوة تخطوها ، وفي كل شيء تلمسه بيدها الطاهرة وهي ـ أي هذه الصفة ـ وإن كانت موجودة في كل أهل البيت ـ عليهم السلام ـ إلا أنها تتألق في شخص الصديقة فاطمة الزهراء ، بشكل يشد القلوب ، ويبهر الألباب .
إن فاطمة تصوّر الإسلام بكل أبعاده حيث تجلس إلى الرحى تطحن فيها القمح والشعير ـ لتسد أود أبنائها وبعلها ومن يلوذ بها في ظل أهل البيت . وإن فاطمة تصور
____________
(1) من لا يحضره الفقية : 1 | 320 ـ 321 .
( 292 )

الإسلام بكل أبعاده ، حين تخرج مع أبيها رسول الله في ساحات القتال والجهاد ، تضمّد جراحه وجراح بعلها الوصي ، وتمسح عنهما الآلام والأحزان ، كانت تصور الإسلام ، عندما تستقبل بطل الإسلام علياً أمير المؤمنين ، وهو عائد من الحرب ، فيدفع السيف لها قائلاً :
أفاطم هاك السيف غير ذمـيم * فــلست بـرعديدٍ ولا بـملميم
أجل .. إنها تصور الإسلام عندما ما تخلع ثوبها ليلة الزفاف وتدفعه لفتاة فقيرة تبدو عليها رقة الحال ، ويسألها أبوها عن ثوبها الجديد ، فتجيبه بقولها : أبتاه يا رسول الله لقد طرقت عليّ الباب فتاة فقيرة تطلب ثوباً فأخذت ثوبي القديم القديم لأدفعه لها .. ولكنني تذكرت قوله تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (1) .
وأنا أحب الثوب الجديد فآثرتها به على نفسي فخلعت ثوبي الجديد وأعطيته لها !
أية عظمة هذه ، وأية نفس كبيرة تطالعنا بها حياة فاطمة ، وسيرتها العذبة التي تتضوع عطر الجنة ؟! إن فاطمة تخطوها .. وبكل كلمة تقولها .. إن ذلك يظهر بوضوح في خطبتها المشهورة المليئة بالفكر ، والعطاء ، والمبادرة ، ان شعائر الإسلام تتحول إلى سلوك عندها فإذا أنت أمام شعائر تفور بالحركة ، والعطاء ، وتتفجر بالصور الساخنة ، والمعاني الحية وتتحول في النهاية إلى واقع معيوش أساسه الإيمان وركائزه الفضائل وهيا كله التسامح والرحمة .
ليس عند فاطمة شعائر جامدة ، ولا عبادة راكدة ، ولا طقوس فارغة من المحتوى ، بل الشعيرة الدينية عند فاطمة متدفقة بالعطاء ، مليئة بالمبادرة والانطلاق الصائب نحو الهدف والغاية إن الشعيرة الدينية ـ أية شعيرة ـ من دون فاطمة ، تغدو شعيرة جامدة باهتة ، تجري في رتابة مملّة ، فإذا لمستها فاطمة الزهراء ، لمسة واحدة ، اهتزت ، وربت وأعطت ثمارها ، ان لمسة واحدة من فاطمة للشعائر ، تكفي لتحويله إلى سلوك عملي يمشي في الناس مشية لنور .. وذلك أن فاطمة لا تتامل مع الشعارات الفارغة ، ولا
____________
(1) آل عمران : 92 .