الإجماع العملي من الشيعة والسنة على عدم تحريف القرآن:
2 ـ أجمع المسلمون من الشيعة والسنة عملاً على أن ما بين دفتي المصحف هو تمام القرآن الشريف. كما يشهد بذلك المصاحف المنتشرة في جميع بلاد الإسلام، والمتداولة بين المسلمين قاطبة. وهم يرون ختم القرآن إنما يكون بختم تلك المصاحف، وبقراءة تمام ما فيها. كما يرون أن قراءة كل سورة إنما تكون بقراءة السورة المرسومة في تلك المصاحف، لا يزيدون عليها كلمة، ولا ينقصون منها كلمة. وذلك واضح من سيرتهم، ومن كلمات فقهائهم.
فحين يذكر الفقهاء استحباب قراءة بعض السور في الصلاة أو غيرها، يريدون بها قراءة
السورة على الوجه المرسوم في تلك المصاحف، من دون زيادة ولا نقيصة. ولذا لا ينبهون
على لزوم إضافة كلمة إليها أو إنقاص كلمة منها، مع أنه لو كان فيها ما ليس قرآناً
للزمهم التنبيه إلى حذفه في الصلاة، لأن كلام الآدميين ـ غير الذكر والقرآن ـ مبطل
للصلاة، وإن كان قد سقط منها شيء من القرآن للزمهم التنبيه إلى تداركه وقراءته
تتميماً للسورة. خصوصاً في
الفريضة عند الإمامية، لأن المعروف من مذهبهم لزوم قراءة سورة تامة مع الفاتحة.
فسكوتهم عن ذلك شاهد بتسالمهم على أن المرسوم من تلك السور في تلك المصاحف هو تمام السور القرآنية المعهودة.
نعم يظهر الاختلاف بين الشيعة والسنة في البسملة، فالشيعة يصرحون أن البسملة جزء من كل سورة عدا سورة التوبة. وعلى ذلك عملهم في تلاوتهم وصلاتهم. واختلف السنة في ذلك، ولذا نرى منهم من لايقرؤها. وأما ما عدا البسملة فلا خلاف فيه عملاً.
وهذا الإجماع العملي من أقوى الشواهد على موقف المسلمين عموماً ـ شيعة وسنة ـ من القرآن المجيد. ولا يقف في مقابله شيء، لأنه يكشف عن أن كون القرآن الشريف تمام ما في المصحف الموجود حقيقة واقعة قد فرضت نفسها بسبب وضوحها وقوتها، وقد أقرّ بها المسلمون وعملوا عليها، ولم تقوَ الشبهات مهما كانت على زعزعتها أو التشكيك فيها.
الذين صرحوا بعدم التحريف من علماء الشيعة
3 ـ أما الذين صرحوا بأن القرآن المجيد تمام ما بين دفتي المصحف الشريف من علماء الشيعة فهم أكابر علمائهم، وفي جميع العصور. وليس الأمر مقصوراً على الشيخ الطوسي، بل سبقه ولحقه جماعة كثيرون. فقد صرح بذلك..
أ ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (قدس سره) المتقدم ذكره. وهو من قدماء علماء الشيعة، وزعيم مدرسة قم، وشيخ أهل الحديث.
قال في كتابه (الاعتقادات) المتقدم ذكره عند بيان المصادر الشيعية: ((اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة. وعندنا أن (الضحى) و(ألم نشرح) سورة واحدة، و(لإيلاف) و(ألم تر كيف) سورة واحدة.
ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب.
وما روي من ثواب قراءة كل سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كله، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة، والنهي عن القران بين سورتين في ركعة فريضة، تصديق لما قلناه في أمر القرآن، وأن مبلغه ما في أيدي الناس. وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة، وأنه لا يجوز أن يختم في أقل من ثلاثة أيام، تصديق لما قلناه أيضاً.
بل نقول: إنه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن، ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشر ألف آية.
وذلك مثل قول جبرئيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن الله تعالى يقول لك: يا محمد، دار خلقي. ومثل قوله: اتق شحناء الناس وعداوتهم. ومثل قوله: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه. وشرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه كفّ الأذى عن الناس.
ومثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما زال جبرئيل يوصيني بالسواك حتى خفت أن أدرد وأحفر، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وما زال يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها، وما زال يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنه سيضرب له أجلاً يعتق به.
ومثل قول جبرئيل (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين فرغ من غزوة الخندق: يا محمد إن الله يأمرك أن لا تصلي العصر إلا ببني قريظة. ومثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرني ربي بمداراة الناس ـ كما أمرني بأداء الفرائض ـ بمقدار عقولهم.
ومثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن جبرئيل أتاني من قبل ربي بأمر قرت به عيني، وفرح به صدري وقلبي، يقول: إن علياً أمير المؤمنين، وقائد الغرّ المحجلين.
ومثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): نزل عليَّ جبرئيل فقال: يا محمد إن الله تعالى قد زوج فاطمة علياً من فوق عرشه، وأشهد على ذلك خيار ملائكته. فزوجها منه في الأرض، وأشهد على ذلك خيار أمتك. ومثل هذا كثير، كله وحي ليس بقرآن، ولو كان قرآناً لكان مقروناً به، وموصلاً إليه غير مفصول عنه، كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جمعه، فلما جاءهم به قال: هذا كتاب ربكم كما أنزل على نبيكم، لم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف. فقالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك. فانصرف وهو يقول: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ))(1).
وإنما ذكرناه بطوله لامتيازه بأمرين:
(الأول): ما تضمنه من الاستدلال على ما ادعاه بما يناسب ما سبق منا في تقريب الإجماع العملي من المسلمين على عدم التحريف، وهو ترتيب الشيعة أثر القرآن التام على ما في المصحف، في ختمه، وقراءة سوره، وغير ذلك.
(الثاني): تأويل الروايات الموهمة للتحريف والنقص بأن المراد بها الوحي الذي ليس بقرآن. ومن المهم جداً صدور مثل هذا التأويل من الصدوق (قدس سره)، الذي هو من قدماء الأصحاب المقاربين لعصور الأئمة (صلوات الله عليهم)، ومن شيوخ أهل الحديث كما سبق. حيث يناسب ذلك كون هذا التأويل معروفاً بين الشيعة في عصورهم الأولى ومقبولاً عندهم، وعند أهل الحديث منهم بالخصوص. وليس هو من تخرصات المتأخرين. ولعل هذا هو الوجه في رواية القدماء لتلك الروايات من دون أن يكونوا قائلين بالتحريف والنقص.
ب ـ الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (قدس سره) المتقدم ذكره. وهو من قدماء الأصحاب أيضاً، وزعيم مدرسة بغداد وشيخ أهل الاجتهاد والنظر. قال في كتابه (أوائل المقالات) المتقدم ذكره: ((وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص من كلمة، ولا من آية، ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله… وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل. والله أسأل توفيقه للصواب.
______
1- الاعتقادات ص:83 ـ 86.
وأما الزيادة فيه فمقطوع على فسادها من وجه، ويجوز صحتها من وجه. فالوجه الذي أقطع على فساده أن يمكن لأحد من الخلق زيادة مقدار سورة فيه على حدّ يلتبس به عند أحد من الفصحاء. والوجه المجوز فهو أن يزاد فيه الكلمة والكلمتان والحرف والحرفان وما أشبه ذلك مما لا يبلغ حدّ الإعجاز، ويكون ملتبساً عند أكثر الفصحاء بكلم القرآن. غير أنه لابد متى وقع ذلك من أن يدل الله عليه ويوضح لعباده عن الحق فيه. ولست أقطع على كون ذلك. بل أميل إلى عدمه وسلامة القرآن عنه)).
قال: ((ومعي بذلك حديث عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام)))(1). وله كلمات أخرى في كتب أخرى.
ج ـ السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي (قدس سره) المتقدم ذكره. وقد خلف شيخه المفيد في زعامة مدرسة بغداد، ومشيخة أهل النظر والاجتهاد. قال في مجمع البيان بعد كلامه الآتي في نفي التحريف: ((وهو الذي نصره المرتضى (قدس الله روحه) واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات. وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة. فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية. وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته. فكيف يجوز أن يكون مغيراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟
وقال أيضاً (قدس الله روحه): إن العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتى لو أن مُدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز، وعلم أنه ملحق، وليس من أصل الكتاب. وكذلك القول في كتاب المزني. ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.
وذكر أيضاً (رضي الله عنه): إن القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن. واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان يعرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة ـ مثل عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما ـ ختموا القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدة ختمات. وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث. وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته))(2).
وقد اعترف بذلك ابن حزم، حيث قال: ((ومن قول الإمامية كلها قديماً وحديثاً أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه، ونقص منه كثير، وبدل منه كثير، حاشا علي بن الحسن (الحسين .ظ) بن موسى ابن محمد بن إبراهيم بن موسى بن
_______
1- أوائل المقالات ص:81 ـ 82 في القول في تأليف القرآن
2- مجمع البيان ج:1 ص:15
جعفر بن محمد بن علي بن الحسن (الحسين .ظ) بن علي بن أبي طالب. وكان إمامياً يظاهر بالاعتزال مع ذلك. فإنه كان ينكر هذا القول، ويكفر من قاله. وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي، وأبو القاسم الرازي))(1).
ومن الملفت للنظر ما نسبه ابن حزم للسيد المرتضى (قدس سره) من تكفير من يقول بتحريف القرآن، إذ هل من المعقول أن يصدق ابن حزم في نسبة القول بالتحريف لعموم الشيعة، ويقدم السيد المرتضى (قدس سره) ـ وهو من أعلام الشيعة الذابين عنهم ـ على تكفير القائل بالتحريف؟!
د ـ الشيخ أبو جعفر الطوسي (قدس سره) المتقدم ذكره منك في السؤال، ومنا عند ذكر المصادر الشيعية. وهو يجمع في عصره بين مشيخة أهل الحديث ومشيخة أهل الاجتهاد والنظر. وقد صرح بعدم التحريف في مقدمة تفسيره الجليل (التبيان).
قال (قدس سره): ((وأما الكلام في زيادته ونقصانه فما لا يليق به (يعني: بكتاب التبيان) أيضاً. لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه. وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا. وهو الذي نصره المرتضى (رحمه الله). وهو الظاهر في الروايات. غير أنه رويت روايات كثيرة ـ من جهة الخاصة والعامة ـ بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً. والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها… وروايتنا متناصرة بالحثّ على قراءته، والتمسك بما فيه، وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رواية لا يدفعها أحد أنه قال: ((إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)). وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر، لأنه لا يجوز أن يأمر بالتمسك بما لا نقدر على التمسك به…))(2).
هـ ـ الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي(قدس سره) المتوفى سنة (548هـ) قال في مقدمة تفسيره الشهير (مجمع البيان): ((ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير. فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه. وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييراً ونقصاناً.
والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه. وهو الذي نصره المرتضى (قدس الله روحه)، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات…))(3) . ثم ذكر حديث السيد المرتضى (قدس سره) المتقدم.
و ـ العلامة الحلي جمال الدين الحسن بن علي بن المطهر (قدس سره) المتقدم ذكره عند التعرض للمصادر الشيعية، والذي هو رئيس الشيعة في عصره، حيث سأله السيد المهنا: ((ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز، هل يصح عند أصحابنا أنه نقص منه شيء أو زيد فيه أو غُيِّر ترتيبه، أم لم يصح عندهم شيء من ذلك؟. أفدنا أفادك الله من فضله، وعاملك بما هو أهله)).
فكان جواب العلامة(قدس سره): ((الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنه لم يزد ولم ينقص. ونعوذ بالله تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول (عليه السلام) المنقولة بالتواتر))(4).
________
1- الفصل في الملل والنحل ج:4 ص:182.
2- تفسير التبيان ج:1 ص: 3ـ 4.
3- مجمع البيان ج:1 ص:15.
4- أجوبة المسائل المهناوية المسألة: 13 ص: 121 نقلاً عن كتاب التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف ص:15.
وجاء جماعة كثيرة بعدهم من أعلام الطائفة فأكدوا هذه الحقيقة، كالمحقق الكركي صاحب جامع المقاصد المتقدم ذكره في المصادر الشيعية، والمحقق الأردبيلي المتوفى سنة (993هـ)، والشيخ البهائي المتوفى سنة (1031هـ)، والفيض الكاشاني المتوفى سنة (1090هـ)، والمحدث الحرّ العاملي المتوفى سنة (1104هـ) صاحب وسائل الشيعة المتقدم ذكره في المصادر الشيعية، وكاشف الغطاء المتوفى سنة (1228هـ)، وجماعة آخرين يضيق المقام عن استقصائهم، خصوصاً في عصرنا وما يقرب منه.
وقد أطال أستاذنا مرجع الطائفة المرحوم السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) في تفنيد دعوى التحريف في مقدمة كتابه (البيان في تفسير القرآن).
وقد كتب جماعة في ذلك كتباً مستقلة منشورة مشهورة. قد تعرضوا فيها لكثير من الشواهد على نفي التحريف، ومناقشة الأخبار التي سيقت شاهداً على وقوعه، ووجوه تأويلها. ولايسعنا ذكر كلماتهم، واستقصاء بياناتهم. ويكفينا ماسبق التعرض له من كلمات أعلام الطائفة وأعيان علمائها وشيوخها.
وربما لا يوجد في علماء السنة من صرح بعدم التحريف بهذا العدد الكثير، ولا من أتعب نفسه في الاستدلال عليه، بالنحو الذي جروا عليه من التحقيق والتفصيل. وإنما يعرف رأيهم من الإجماع العملي، الذي يشتركون فيه مع الشيعة، كما سبق.
4 ـ كل ما في الأمر أخبار رويت من طرقنا، وروي أكثر منها بكثير من طرق السنة، كما يشهد به الرجوع لمصادر الطرفين. وهذه الأخبار لا تقوى على زعزعة واقع القرآن الشريف أو التشكيك فيه، كما يتضح مما تقدم ويأتي. فلابد إما من تأويلها أو التوقف عنها، لمصادمتها للبديهة.
وليس كل من روى تلك الأخبار أو بعضها يرى التحريف، إذ قد يكون روايته لها لمجرد جمع الأخبار،مع قناعته بعدم ظهورها في التحريف، أو بلزوم تأويلها ـ كما سبق من الصدوق (قدس سره)ـ لمصادمتها للبديهة، أو لمعارضتها بغيرها.
نعم يظهر من بعضهم ـ منا ومن السنة ـ البناء بسببها على التحريف. بل صرح بعضهم بذلك، كما أشار إليه السيد المرتضى (قدس سره) في كلامه المتقدم. وذلك لظنهم صحة تلك الأخبار، وغفلتهم عن أنها لا تنهض برفع اليد عن هذه البديهة التي أشرنا إليها.
وهم قليلون في الشيعة، ولا يمثلونهم. ولاسيما بعد الإجماع العملي من الشيعة على عدم التحريف الذي سبق التنبيه له، وبعد التصريح بذلك ممن سبق من أكابر علمائهم وشيوخهم الذين يمثلون وجهتهم العامة.
الموقف المناسب من القائلين بالتحريف
نعم لا يحسن الإغراق في النيل ممن يذهب للتحريف، فإنهم وإن وقعوا في خطأ فادح، إلا أنه خطأ علمي يبتني على الغفلة لا يسقط الحرمة، ولا يوجب كفراً. خصوصاً بعد اتفاقهم مع عامة المسلمين على عدم الزيادة وعدم التحريف فيما هو موجود في المصحف الشريف ـ لتواتره أو بلوغه درجة الإعجاز ـ لما سبق من دعوى الإجماع على عدم الزيادة.
ولذا لم يبلغ الاختلاف ـ بين الشيعة وقسم من السنة من جانب مع القسم الثاني من السنة ـ في جزئية البسملة حدّ الطعن، فضلاً عن التكفير وإسقاط الحرمة. فلا القائل بجزئيتها يكفر القائل بعدم الجزئية، لأنه ينقص من القرآن، ولا القائل بعدم الجزئية يكفر القائل بالجزئية، لأنه يزيد في القرآن.
كما أنه نسب لابن مسعود إنكار جزئية المعوذتين من القرآن الشريف، ولم نعهد أن أحداً شنع عليه أو حكم بكفره لو صدقت النسبة المذكورة.
كل ذلك لأن أمثال هذه الخلافات لا تسقط الحرمة، ولا توجب الكفر. وكل ما ينبغي في المقام دفع شبهتهم، وإيضاح خطئهم، حذراً من وقوع الآخرين فيه، مع كمال التثبت والتورع. فإن الإسلام دين الله تعالى الذي شرعه لعباده، فلابد أن تؤخذ حدوده وحدود الكفر منه جل شأنه، ولا يحل لأحد أن يتسرع ويطلق الكفر على الآخرين جزافاً لمجرد مخالفتهم له في قناعاته، مهما كانت تلك القناعات، إلا أن يبلغ الأمر بالآخرين إلى إنكار أصول الإسلام وحدوده التي جعلها الله تعالى.والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتسديد.
5 ـ من الظاهر أن القرآن المجيد يثبت نفسه بنفسه، وأنه ليس من إنشاء البشر، كما قال عز من قائل: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله)(1). وهو من أجل ذلك في غنى عن التواتر، وإن كان متواتراً. ولذا صار معجزة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشاهداً بصدقه، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انفرد بنسبته لله تعالى، ولم يشهد له بذلك أحد. فلولا أنه يثبت نفسه بنفسه، وأنه في غنى عن التواتر، لم يصلح لذلك. وإلى ذلك تشير جميع الآيات المتضمنة للتحدي، كقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)(2)، وغيره.
وحينئذٍ فالأخبار الموهمة للتحريف إن تضمنت الزيادة في الموجود بين الدفتين أو التغيير فيه، بحيث لا يكون بعض ما بين الدفتين من القرآن الحقيقي، فواقع ما في المصحف الشريف يردها، لتعذر مجاراته، بنحو يقطع معه بأنه من كلام الله تعالى المنزل، وليس من صنع البشر، محرفاً عما أنزله الله تعالى. على أن ذلك قد تقدم حكاية الإجماع على نفيه حتى من القائلين بالتحريف.
وإن تضمنت تلك الأخبار النقيصة في الموجود بين الدفتين، وأنه لا يشتمل على جميع القرآن، وأن بعض القرآن قد ضاع، فيردها ما سبق من السيد المرتضى(قدس سره) من أن اهتمام المسلمين بالقرآن وحفظه وضبطه يمنع من ضياعه.
ويؤكده واقع الحال، حيث لم ينقل ولو شاذاً ما يصلح أن يكون قرآناً. وما أكثر استشهاد المسلمين من الصدر الأول بالقرآن الشريف في مقام الاحتجاج وغيره، ولم يرد في كلامهم ـ ولو صدفة ـ الاستدلال أو الاستشهاد بشيء يصلح أن يكون قرآناً في أسلوبه وبيانه غير ما هو موجود في المصحف الشريف.
فمثلاً قد خطبت الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) خطبتين قد رصعتهما بكثير من آيات القرآن الكريم، ولكن لم يصادف أن وقع فيهما شيء من غير ما في المصحف الشريف الموجود اليوم، مع أن ذلك قد حصل منها (صلوات الله عليها) بعد أيام من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقبل حصول الأسباب المزعومة لضياع شيء من القرآن واختفائه.
وأما ما تضمنته الروايات المشار إليها آنفاً الموهمة للتحريف من بعض العبارات أو الكلمات. فهو مما يقطع بعدم كونه قرآناً، لهبوط مستواه، وضعف بيانه، وركة أسلوبه. وكفى بذلك حجة على عدم التحريف، أكمل بها الله تعالى إعجاز القرآن المجيد، وأتمّ بها حجته.
ويتعين من أجل ذلك تأويل تلك الروايات. ولو تعذر تأويل بعضها فلابد من طرحه، لأنه لا ينهض في قبال ما سبق. وليس معنى ذلك الجزم بكذبه، بل اللازم ردّ علمه إلى الله تعالى وإلى قائله، فإنه من المشكل الذي أمرنا أئمتنا (صلوات الله عليهم) بالوقوف عنده، وردّ علمه إلى أهله، لأن الظروف المحيطة قد تفرض على الإنسان إظهارما لا يريد. كما أنه ربما يكون مكذوباً على من نسب له. وعلمه عند الله تعالى.
________
1- سورة يونس الآية: 37.
2- سورة الإسراء الآية: 88.