لابد من تحديد نظام الحكم عند الشيعة والسنة:
نعم هنا أمر يحسن التنبيه له، وهو أن المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السنة فيها لا ينبغي أن تعرض على أساس المقارنة في استحقاق الإمامة بين شخصين أو أشخاص محدودين، كالإمام علي (عليه السلام) وأبي بكر، أو أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جانب، والصحابة أو المهاجرين أو قريش عموماً في جانب.
لأن الإسلام هو الدين الخاتم للأديان والباقي في الأرض ما بقيت الدنيا. والمفروض أن يكون هو الحاكم في الأرض ما بقي وبقيت. فلابد في تشريع الإسلام لنظام الحكم من أن يكون النظام الذي شرعه صالـحاً لحكم الأرض باستمرار، ولا يختص بأفراد أو جماعة مخصوصين، وينتهي بانتهائهم.
وعلى ذلك لابد من عرض المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السنة فيها على أساس المقارنة بين نظامين صالحين لتنفيذ التشريع الإسلامي في الأرض باستمرار، ما دام فيها إنسان يريد الله تعالى منه أن يكون مسلماً.
وبعد تعيين نظام الحكم في الإسلام، وإقامة الأدلة الشرعية عليه، يكتسب الحاكم على أساسه شرعية الحكم والإمامة، ويفقد الخارج عنه الشرعية مهما كان شأنه. وإلى ذلك يرجع قول أمير المؤمنين الإمام علي(صلوات الله عليه): ((اعرف الحق تعرف أهله))(1).
أما مع عدم تعيين نظام الحكم المشرّع في الإسلام فلا معنى للحديث عن شرعية حكم الحاكم وإمامته، وعدم شرعية غيره، مهما كان شأنهما.
وبعد ذلك نقول: نظام الحكم في الإسلام عند الشيعة يبتني على أن تعيين الإمام إنما يكون بجعل من الله تعالى، من دون حاجة إلى مشاورة أحد أو بيعته أو إقراره، وأن الله جل شأنه لابد أن يعرّف الناس بشخص الإمام الذي جعله بحجة كافية واضحة، من طريق نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الناطق عنه والمبلغ لشريعته، أو من طريق الإمام المنصوب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن ذلك الإمام ينطق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبي ينطق عن الله تعالى.
وعلى ذلك يذهب الشيعة إلى أن الأئمة الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتمّ تبليغه بهم، هم اثنا عشر، وأنهم من أهل بيته، وأن أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)، ثم الحسن السبط الزكي (عليه السلام) ، ثم الحسين السبط الشهيد (عليه السلام)، ثم تسعة من ولد الحسين متعاقبين ولداً عن والد، تاسعهم قائمهم، وهو الإمام محمد بن الحسن المهدي الغائب المنتظر (عجل الله تعالى فرجه). وهم وحدهم يملكون شرعية الإمامة والخلافة، دون غيرهم مهما بلغ شأنهم. وللشيعة على ذلك أدلتهم التي عولوا عليها، والتي يحتجون بها، ويحاولون إقناع غيرهم بمؤداها.
أما مذهب السنة في الإمامة فلا يخلو عن غموض، ولا يتيسر لنا تحديده، ليكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة فيها، كما يشهد بذلك النظر إلى واقع خلافتهم، وما فرضوه على أنفسهم من شرعية كل ما حصل. غير أنه ربما يحاول بعضهم دعوى ابتناء نظام الخلافة عندهم على اختيار الأمة. ولو تم ذلك فهو لا يصلح لأن يكون
نظاماً متكاملاً إلا بعد أن يحدد فيه بصورة دقيقة:
________
1- تفسير القرطبي ج:1 ص:340 في تفسير قوله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل) من سورة البقرة الآية(42). فيض القدير شرح الجامع الصغير ج:1 ص:28،272 في شرح الحديث المرقم (288) (اختلاف أمتي رحمة)، ج:4 ص:23 في شرح الحديث المرقم (4409) (رب حامل فقه غير فقيه). أبجد العلوم ج:1 ص:126 الإعلام الثامن في آداب المتعلم والمعلم في الجمل السابعة.
(أولاً): من له حق الترشيح للإمامة والخلافة من حيثية النسب، والسن، والمقام الديني والاجتماعي، وغير ذلك.
(وثانياً): متى تسقط أهلية الشخص المنتخب للخلافة؟، والأسباب التي تقضي بانعزاله منها، كالجور في الحكم، أو مطلق الفسق، والخَرَفِ أو المرض، والعجز المطلق أو الضعف، وغير ذلك. مع تحديد ذلك بدقة رافعة للاختلاف، تجنباً عن مثل ما حصل في أمر عثمان، حيث طلب الذين ثاروا عليه أن يتخلى عن الخلافة، لعدم أهليته، وامتنع هو من ذلك، لدعوى أنه لا ينزع عنه لباساً ألبسه الله تعالى إياه. وكما وقع بعد ذلك في العهد الأموي والعباسي والعثماني.
(وثالثاً): من له حق الاختيار والانتخاب، من حيثية النسب، والسنّ، والمقام الديني والاجتماعي، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك؟
(ورابعاً): كيف نحرز الأمور المذكورة؟، وهي تحقق شروط الترشيح في الشخص، وتحقق شروط الانتخاب فيمن يتصدى له، وبقاء أهلية الخليفة أو سقوطه عنها. وعلى أي طريق نعتمد في إثبات هذه الأمور؟.
(وخامساً): صلاحيات الإمام والخليفة. إذ بعد ان خالف السنة الشيعة، فذهبوا إلى عدم عصمة الخليفة، وأنه يعمل باجتهاده، لا بعهد من الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلابد من تحديد صلاحياته، فإن الواقع العملي للخلفاء عند السنة في غاية الاختلاف والاضطراب.
ففي الوقت الذي يصر فيه السنة على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعهد بالخلافة لشخص خاص، وأنه ترك المسلمين يختارون لأنفسهم، نرى أبا بكر قد عهد بالخلافة لعمر، ثم عهد عمر بضوابط اختيار الخليفة بعد أن قصر المرشحين لها على نفر خاص، ثم بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عثمان باختيار وجوه المهاجرين والأنصار واندفاع عامة المسلمين من دون عهد من عثمان. ثم بويع الإمام الحسن (عليه السلام) بنص أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه، أو باختيار الناس ـ على الخلاف ـ واستغل معاوية خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم، ليعلن أنه الخليفة الشرعي.
وبعد ذلك كان الغالب ثبوت الخلافة للاحق بنص السابق، إلا أن تتدخل القوة، فتفرز خليفة لا نص عليه. وربما نص السابق على أكثر من واحد ممن بعده على التعاقب، كما فعله مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، وغيرهما في جميع دول الإسلام.
كما ربما خلع الخليفة، أو ولي العهد، وعين غيره بالقوة، في تفاصيل يطول شرحها، ذكرها المؤرخون.
بل ربما زاد الأمر على ذلك، فلم يكتف الخليفة بالنص على من بعده، وإنما تعداه لجعل نصيب في الحكم لفئة من الناس، فقد حاول أبو بكر أن يضعف جانب أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويجعل العباس بن عبد المطلب لجانبه، فعرض عليه أن يجعل له ولولده في الخلافة نصيباً. إلا أن العباس رفض ذلك، فقال: ((وأما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض…))(1). هذا كله في أمر الخلافة، وأما بقية أمور الدين والتشريع فقد تدخل الخلفاء فيها، حيث يأتي في جواب السؤال السابع التحجير على السنة النبوية في عهد أبي بكر وعمر، ومنع الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا في حدود ضيقة،
_____
1- شرح نهج البلاغة ج:1 ص:221، واللفظ له. الإمامة والسياسة ج:1 ص:18 كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه). تاريخ اليعقوبي ج:2 ص:125 ـ 126 خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر.
وكذلك الحال في عهد معاوية حيث قال: ((يا ناس أقلوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر…))(1).
وفرض عمر آراءه في الدين على المسلمين،كتحريم المتعتين ـ متعة الحج ومتعة النساء ـ وإمضاء الطلاق الثلاث، وغير ذلك مما هو مسطور مشهور.
وكان لاتجاهات الحكام الأثر المهم في توجيه وجهة الجمهور في الحديث والعقائد والفقه، وقد عرض المنصور العباسي على مالك بن أنس أن يكتب في الفقه كتاباً يحمل الناس عليه. وأراد المأمون أن يعلن عن تحليل المتعة لولا أنه خاف هياج العامة، وقد حمل الناس على القول بخلق القرآن ونفى رؤية الله عزَّ وجلّ في الآخرة، وروج آراء المعتزلة، وبقي الأمر على ذلك، حتى غيره المتوكل، وأمر بنشر أحاديث الرؤية، وظهر القول بعدم خلق القرآن، ونشط الاتجاه المضاد للمعتزلة.
وفي سنة أربعمائة وثمان للهجرة استتاب القادر الحنفية والمعتزلة والشيعة وغيرهم من ذوي المقالات المخالفة لمذهبه من مذاهبهم، ونهى عن المناظرة في شيء منها.
ثم انتهى الأمر إلى أن حصر الظاهر بيبرس القضاء بالمذاهب الأربعة التي عليها مدار فقه السنة حتى اليوم.
ثم جعل العثمانيون المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي في الدولة... إلى غير ذلك مما لا ضابط له، وكانت المواقف المتناقضة دينياً ـ نتيجة ذلك ـ تتعاقب على الجمهور. ومن المعلوم عدم شرعية ذلك وأن الدين لا يتبدل بتبدل السلطة.
وإنما حصل ذلك بسبب عدم تحديد صلاحيات الخليفة. ولا يكمل نظام الخلافة إلا بتحديدها، وتحديد ما سبق، كما هو ظاهر.
وحيث لا يتيسر لنا فعلاً معرفة مذهب السنة في ذلك، فلابد من إيكاله إليهم.
فإذا تم لهم تحديد ذلك كله، وأقاموا عليه الأدلة الشرعية حسب قناعاتهم، بحيث يكون هو المعيار عندهم في شرعية ما وقع ويقع من دعوى الإمامة والخلافة، أمكن المقارنة بين نظام الحكم عند الشيعة ونظام الحكم عند السنة، والموازنة بينهما بلحاظ أدلتهما، والنظر في الترجيح بين أدلة الشيعة على النظام الذي يذهبون إليه، وأدلة السنة على النظام الذي يذهبون إليه، ثم الأخذ بالأقوى من الدليلين، والذي يصلح أن يكون حجة بين يدي الله تعالى يوم يعرضون عليه (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون)(2).
أما مع عدم التحديد الشرعي من تلك الجهات فالنظام ناقص لا يصلح أن يكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة والموازنة بينهما، ويمتنع تشريعه إسلامياً:
(أولاً): لاستلزامه نقص الدين، وعدم تحديد موضوع الحكم الشرعي من قبل الشارع الأقدس، فإن للإمامة أحكاماً شرعية ـ كوجوب وجود الإمام، ووجوب طاعته، ووجوب قتال الخارجين عليه ـ فإذا لم يتم بدقة تحديد نظام الإمامة يلزم جعل الشارع لأحكام الإمامة من دون تحديد موضوعها. وهو نقص في الدين والتشريع، ينزه عنه الإسلام العظيم.
_________
1- كنز العمال ج:10ص:291 حديث:29473، واللفظ له. المعجم الكبير ج:19ص:370 فيما رواه عبد الله بن عامر اليحصبي القارئ عن معاوية.
2- سورة النحل الآية: 111.
بل هو مناف لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(1) ، وغيره مما دل على كمال الدين.
(وثانياً): لأن الفراغ التشريعي في نظام السلطة سبب لإثارة المشاكل والفتنة، واختلال النظام، حيث يتم به المجال للادعاءات المتناقضة، والأهواء المتباينة، وما يترتب على ذلك من انتهاك الحرمات، وانتشار الفساد، وتلف النفوس والأموال. وإن كان ذلك كله قد حصل ـ مع الأسف ـ بأفظع صوره وأشنعها في الواقع الإسلامي.
وهل يمكن أن يشرّع الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظام الحكم، ويجعل فيه منصب الخلافة، ثم لا يجعل الضوابط لتعيين الخليفة؟! وها نحن نرى المسؤولين عن تشريع القوانين الوضعية يبذلون عناية خاصة لتشريع قوانين نظام السلطة من أجل تجنب سلبيات الفراغ التشريعي فيها، فكيف يهملها الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنهما أحرى بالاهتمام بتجنب السلبيات المذكورة؟!
ولاسيما وأن للسلطة والخلافة في التشريع الإسلامي مقاماً رفيعاً وقدسية بالغة، حتى أجمع المسلمون على وجوب معرفة الإمام وبيعته، وأن من مات بدون ذلك مات ميتة جاهلية ـ كما يأتي ـ وعلى وجوب طاعة الإمام، وحرمة الخروج عليه، وأن الخارج عليه باغ لا حرمة له، ويجب على المسلمين قتاله.
______
1- سورة المائدة الآية: 3.