س5 ـ الاستدلال عند الشيعة بوجوب نصب الإمام استدلال باللطف الإلهي، وهو يوجب وجود العدل بين الناس من خلال الإمام، لكنه ألا يعارضه الآن خلوّ الناس من إمام عادل، فيسقط الاستدلال باللطف الإلهي؟
ج: لابد أولاً من شرح قاعدة اللطف الإلهي التي يستدل بها الشيعة على وجوب نصب الإمام على الله تعالى، وبيان المراد منها، ثم النظر في انتقاضها وعدمه.
وحينئذٍ فمرجع قاعدة اللطف إلى أن عموم البشر حيث كانوا في نقص ذاتي، جاهلين بما يصلحهم، غير معصومين من الفساد والشرّ والظلم، بل تتنازع فيهم دواعي الصلاح والفساد، والخير والشرّ، والظلم والعدل، فهم في حاجة إلى إمام معصوم يجمعهم على الصلاح والخير والعدل، ويبعدهم عن الفساد والشرّ والظلم. فمقتضى حكمة الله تعالى ورحمته أن يلطف بهم، ويزيح العلة من قبله عنهم، بأن يجعل لهم إماماً معصوماً، ويعرفهم به بحجة كافية ودليل واضح.
ولعله إلى ذلك يشير قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ)(1).
وحيث كانت حاجتهم لذلك مستمرة في جميع الأوقات تبعاً لدوام نقصهم وحاجتهم، فلابد من وجود إمام معصوم في كل زمان يزيح العلة. ولا يكفي إرسال النبي في وقته بعد أن لم يكن خالداً، لأنه إنما يكون إماماً لعصره، ولا تزاح به العلة بعد ذلك. لما هو المعلوم من حصول الخلاف بعده، وشيوع الشرّ والفساد وخروج الأمة ـ ولو ببعض فئاتها ـ عن حظيرة الطاعة لله تعالى، وضياع معالم الحق عليها. هذا هو مفاد قاعدة اللطف الإلهي.
وهي لا تقتضي وجوب تحقق العدل فعلاً بسيطرة الإمام، وقبضه على زمام الأمور، وقسر الناس على الانصياع له والرضوخ لحكمه. فإن ذلك لم يحصل إلا في فترات زمنية قصيرة. وربما لم يكن في تلك الفترات بنحو شامل.
بل المراد منها وجوب إزاحة علتهم من قبل الله تعالى تشريعاً بنصب الإمام لهم، وتعريفهم به بما تتم به الحجة عليهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)(2). ثم لهم بعد ذلك الاختيار.
فإن شكروا النعمة وأطاعوه صلح أمرهم وعمهم الخير والعدل، كما قال عز من قائل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ $ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ)(3).
وإن كفروا النعمة وخالفوه ذاقوا وبال أمرهم، وعمهم الفساد والظلم، كما قال سبحانه وتعالى: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ …)(4). وليس لهم على الله حجة، بعد أن لطف بهم وهداهم سواء السبيل، بل يتحملون وحدهم مسؤولية تفريطهم في أمر الله تعالى، ومجانبتهم للإمام الذي نصبه لهم، وإعراضهم عنه.
ولو تركهم الله تعالى في هذا الحال ووكلهم إلى أنفسهم من دون أن يجعل لهم إماماً يملك مقومات هدايتهم، ويقوى على القيام بإدارة شؤونهم لكان قد فرط في حقهم، ولم يلطف بهم، ولم يكن تشريعه وافياً بصلاحهم وهدايتهم. ولكان لهم الحجة بذلك عليه، جل شأنه، وعلا علواً كبيراً.
________
1- سورة الإنعام الآية: 91.
2- سورة الأنفال الآية: 42.
3- سورة المائدة الآية: 65 ـ 66.
4- سورة النساء الآية: 79.
نظير ما تضمنه قوله تعالى: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ $ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ $ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ …)(1).
فقاعدة اللطف بالإضافة إلى الإمامة كقاعدة اللطف بالإضافة إلى تشريع سائر الأحكام في حق الناس من الواجبات والمحرمات والآداب. فإن القاعدة المذكورة تقضي بأن الناس لما كانوا قاصرين ـ بسبب جهلهم وفقرهم ـ فالواجب على الله تعالى ـ بمقتضى حكمته ـ أن يلطف بهم ويشرع لهم من الأحكام ما يصلح به أمرهم في معاشهم، ومعادهم، وفي علاقتهم مع الله سبحانه، ومعاشرتهم فيما بينهم. من دون أن تقضي بوجوب تهيئة الظروف المناسبة لتطبيقهم تلك الأحكام، وحملهم على ذلك من أجل أن يفوزوا فعلاً بالخير والصلاح، ويبعدوا عن الشر والفساد.
بل ليس عليه سبحانه إلا تشريع الأحكام لصالحهم، مع بقاء الاختيار لهم، كما قال عز من قائل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(2).
فمن أطاع الله تعالى، وعمل بتلك الأحكام، فاز وسعد، ومن عصى وأعرض عنها شقي، وكان من الخاسرين. وليس له على الله عز وجل حجة في ذلك.
_______
1- سورة الإنعام الآية: 155 ـ 157.
2- سورة الإنسان الآية: 3.
لا تنتقض قاعدة اللطف على مذهب الإمامية:
وبعد أن أوضحنا المراد بقاعد اللطف فهي لم تنتقض في هذا الزمان على مذهب الإمامية، لأنهم يقولون بإمامة الإمام الثاني عشر، وهو الحجة بن الحسن (صلوات الله عليه وعلى آبائه)، وبأنه موجود فعلاً يقوم بوظيفته، حسبما تسمح له ظروفه، وتسعه قدرته. بل من جملة أدلتهم على وجوده قاعدة اللطف المذكورة.
ولا ينافي إمامته عدم تسنمه فعلاً السلطة وإدارة أمور الناس، وعدم نشره للعدل في الأرض، لأن ذلك إنما حصل بسبب الناس أنفسهم، لا لقصور فيه وفي إمامته، ولا في جعل الله تعالى وتشريعه. فحاله (صلوات الله عليه) في ذلك حال آبائه (صلوات الله عليهم) الذين حال الظالمون وأتباعهم دون تسنمهم السلطة، وقبضهم على زمام الأمور، ونشرهم العدل بين الناس. وحال أكثر الأنبياء (صلوات الله عليهم). بل حتى نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه لم يتسن له أن ينشر العدل بنحو يعمّ الناس كلهم.
وليست غيبة الإمام المهدي (صلوات الله عليه) واعتزاله السلطة أمراً مأخوذاً في إمامته، ليلزم قصور إمامته عن أداء وظيفة الإمام، التي تقتضيها قاعدة اللطف التي تقدم شرحها. بل هي حالة استثنائية فرضتها الظروف التي أحاطت به (صلوات الله عليه)، نتيجة فساد المجتمع وقيام دول الجور، وتقصير الناس في أداء وظيفتهم إزاء الحق الذي أراده الله تعالى وفرضه.
فهي نظير سجن آبائه الأئمة أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم، وأبي الحسن علي بن محمد الهادي، وأبي محمد الحسن بن علي العسكري (صلوات الله عليهم).
وليس الفرق بينهم وبينه إلا أنهم سجنوا قسراً عليهم من قِبَل الظالمين، وغاب هو (صلوات الله عليه) باختياره فراراً بنفسه خوفاً من الظالمين، ولعدم ملائمة الوضع العام لظهوره، ونحو ذلك من المصالـح التي يعلمها الله تعالى. من دون أن
يرجع ذلك إلى قصور في إمامته.
ومتى ارتفعت تلك الأسباب ظهر (صلوات الله عليه) ولم يبخل بنفسه على الناس، ولم تقصر إمامته ووظيفته التي شرعها الله تعالى في حقه عن تسنمه السلطة عليهم، وإدارته لأمورهم ونشر العدل بينهم.
والحاصل: أنه لا قصور في تشريع إمامته وإمامة آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) عما تقتضيه قاعدة اللطف المتقدمة، وإنما لم ينتشر العدل فعلاً في المجتمع لعدم تطبيق ذلك التشريع، وحصول الموانع منه نتيجة تقصير الناس وحيلولتهم دون تطبيقه. وقد سبق أن قاعدة اللطف لا تقتضي رفع الموانع المذكورة.
إذا عرفت هذا فقولك: ((ألا يعارضه الآن خلوّ الناس من إمام عادل؟)) إن أردت به عدم وجود إمام الآن من قِبَل الله تعالى. فالإمام موجود على قول الإمامية، ولم يخل منه هذا الزمان، ولا غيره من الأزمنة، لتنتـقض قاعدة اللطف وتبطل. وإن أردت به عدم ظهور الإمام وعدم تسنمه السلطة وإقامته للعدل، فهو لا ينافي قاعدة اللطف، لما سبق من أنها إنما تقتضي إمامة الإمام الصالـح لإقامة العدل، لا تسنمه السلطة وإقامته العدل فعلاً. ومن ثم لا يسقط استدلال الشيعة على الإمامة بقاعدة اللطف.