الاحتجاج والمناشدة بحديث الغدير:

الثالث: الاحتجاج والمناشدة بحديث الغدير من الإمام أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه) وأهل بيته (عليه السلام) وشيعته. والحديث في ذلك طويل جداً، لكثرة الوقائع التي تضمنته. وقد استوفى الكلام في كثير منها الشيخ الأميني (قدس سره) (1). إلا أن أهم المناشدات مناشدة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بالحديث في الكوفة في الرحبة..

 

مناشدة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بحديث الغدير في رحبة الكوفة

فقد روى أحمد بن حنبل، عن حسين بن محمد وأبي نعيم المعنى، قالا: حدثنا فطر، عن أبي الطفيل، قال: ((جمع عليّ (رضي الله عنه) الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام.

فقام ثلاثون من الناس، وقال أبو نعيم: فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده، فقال للناس: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فهذا مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

فخرجت وكأن في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم، فقلت له: إني سمعت علياً (رضي الله تعالى عنه) يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر؟ قد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك له))(2).

_________

 

1- الغدير في الكتاب والسنة والأدب ج:1 ص:159 ـ 213.

2- مسند أحمد ج:4 ص:370  في (حديث زيد بن أرقم  (رضي الله عنه)).


 

قال الهيثمي بعد أن ذكره:((رجاله رجال الصحيح،غير فطر بن خليفة، وهو ثقة))(1).

وقد اشتهرت هذه المناشدة، وتعددت طرقها، وإن اختلفت في خصوصياتها، كما هو المتوقع في كل قضية ذات تفاصيل. وقد ذكرها جماعة من أهل الحديث في كتبهم، نذكر منهم..

1 ـ الحافظ أبا عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي(2).

2 ـ الحافظ أبا الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي(3).

3 ـ أبا بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي(4).

4  ـ أبا المحاسن يوسف بن موسى الحنفي(5).

5 ـ الحافظ ضياء الدين أبا عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي المقدسي(6).

6 ـ الحافظ أبا بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني(7).

7 ـ الحافظ أبا يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي التميمي(8).

8 ـ إمام الحنابلة أبا عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني(9).

9 ـ الحافظ أبا القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني(10).

10 ـ علي بن محمد الحميري، المتوفى سنة (323هـ)(11).

11 ـ الحافظ أبا نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، المتوفى سنة (430هـ)(12).

12 ـ علي بن برهان الدين الشافعي الحلبي(13).

وهناك حادثة أخرى ـ رواها جماعة بصور مختلفة ـ قد تكون هي الدافع للمناشدة السابقة، وقد تكون حادثة أخرى

أوجبت مناشدة أخرى.

 

____________

1- مجمع الزوائد ج:9 ص:104 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) في باب قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت مولاه فعلي مولاه.

2- السنن الكبرى للنسائي ج:5 ص:131 كتاب الخصائص: باب قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت وليّه فعلي وليّه، ص: 134 كتاب الخصائص:الترغيب في موالاة علي (رضي الله عنه)والترهيب في معاداته. ورواه أيضاً في كتابه خصائص علي ص: 95، 96 قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت وليه فهذا وليه، ص:100 الترغيب في موالاته والترهيب عن معاداته، ص: 103، 104 دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن أحبه ودعاؤه على من أبغضه.

3- مجمع الزوائد ج:9 ص: (104، 105، 106، 107، 108) كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) في باب قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت مولاه فعلي مولاه.

4- مصنف ابن أبي شيبة ج:6 ص:368 كتاب الفضائل: فضائل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

5- معتصر المختصر ج:2 ص: 301 كتاب جامع مما ليس في الموطأ: في مناقب علي (رضي الله عنه).

6- الأحاديث المختارة ج:2 ص: 105، 106 فيما رواه سعيد بن وهب الهمداني عن علي(عليه السلام).

7- السنة لابن أبي عاصم ج:2 ص:607 باب من كنت مولاه فعلي مولاه.

8- مسند أبي يعلى ج:1 ص:429 في مسند علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

9- مسند أحمد ج:1 ص: (84، 118) في مسند علي بن أبي طالب .

10- المعجم الصغير ج:1 ص:119 باب الألف من اسمه أحمد. المعجم الكبير ج:5 ص:171 فيما رواه (زيد بن وهب عن زيد بن أرقم)، ص:175 فيما رواه (أبو سلمان المؤذن عن زيد بن أرقم).

11- جزء الحميري ص:33.

12- حلية الأولياء ج:5 ص:26 في ترجمة طلحة بن مصرف.

13- السيرة الحلبية ج:3 ص:308 في حجة الوداع.

 

ومن جملة صورها ما رواها أحمد بسنده عن رياح بن الحارث قال: ((جاء رهط إلى علي بالرحبة. فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟

قالوا: سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فإن هذا مولاه. قال رياح: فلما مضوا تبعتهم، فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار، فيهم أبو أيوب الأنصاري))(1).

وما ذكره ابن الأثير عن كتاب الموالاة لابن عقدة بإسناده عن أبي مريم زر بن حبيش قال: ((خرج علي من القصر فاستقبله ركبان متقلدي السيوف، فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين. السلام عليك يا مولانا ورحمة الله وبركاته.

فقال علي: من ههنا من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقام اثنا عشر، منهم قيس بن ثابت بن شماس، وهاشم بن عتبة، وحبيب بن بديل بن ورقاء، فشهدوا أنهم سمعوا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه))(2).

 

دعاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على من لم يشهد بحديث الغدير

ومن توابع هذه المناشدة أو المناشدتين امتناع بعض الصحابة الحضور من الشهادة بما سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغدير خم في حق أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودعاؤه (صلوات الله عليه) على من امتنع، واستجابة دعائه فيه.

فقد أخرج أحمد بن حنبل عن أحمد بن عمر الوكيعي: ((ثنا زيد ابن الحباب. ثنا الوليد بن عقبة بن نزار العبسي. حدثنا سماك بن عبيد ابن الوليد العبسي. قال: دخلت على عبد الرحمن بن أبي ليلى، فحدثني أنه شهد علياً (رضي الله عنه) في الرحبة، قال: أنشد الله رجلاً سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وشهده يوم غدير خم إلا قام، ولا يقوم إلا من قد رآه.

فقام اثنى عشر رجلاً فقالوا: قد رأيناه وسمعناه، حيث أخذ بيده يقول: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأخذل من خذله، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم، فأصابتهم دعوته))(3).

وقد ذكر دعوته على من لم يشهد واستجابتها جماعة من أهل الحديث غير أحمد في كتبهم. نذكر منهم..

1 ـ الحافظ أبا الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي(4).

2 ـ الحافظ أبا القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني(5).

3 ـ الحافظ أبا نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني(6).

4 ـ علي بن برهان الدين الشافعي الحلبي(7).

 

____________

1- مسند أحمد ج:5 ص:419 في (حديث أبي أيوب الأنصاري (رضي الله عنه))، واللفظ له. مجمع الزوائد ج:9 ص:103 ـ 104 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب(عليه السلام) في باب قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت مولاه فعلي مولاه. المعجم الكبير ج:4 ص:173 فيما رواه (رياح بن الحارث عن أبي أيوب).

2- أسد الغابة ج:1 ص:368 ـ 369 في ترجمة حبيب بن بديل بن ورقاء.

3- مسند أحمد ج:1 ص:119 مسند علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

4- مجمع الزوائد ج:9 ص:106 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب(عليه السلام) في باب قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت مولاه فعلي مولاه.

5- المعجم الكبير ج:5 ص:171 فيما رواه (زيد بن وهب عن زيد بن أرقم)، ص:175 فيما رواه (أبو سلمان المؤذن عن زيد بن أرقم).

6- حلية الأولياء ج:5 ص:27 في ترجمة طلحة بن مصرف.

7- السيرة الحلبية ج:3 ص:308 في حجة الوداع.

 

أثر المناشدة بحديث الغدير في ظهوره وانتشاره

والظاهر أن لهذه المناشدة وما تبعها ـ خصوصاً استجابة الدعوة ـ أثراً بالغاً في ظهور واقعة الغدير، وإحيائها، وبروز أهميتها، بعد أن جهلها عامة المسلمين، كما جهلوا كثيراً من فضائل أمير المؤمنين وأهل البيت (صلوات الله عليهم). بل كثيراً من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مختلف المجالات، نتيجة التحجير على السنة النبوية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، في محاولة لقصر الحديث بها على ما يلائم وضع السلطة الحاكمة، ويسير في فلكها.

 

محاولة التحجير على السنة الشريفة وإخفائها

ويبدو أن محاولة التحجير على السنة الشريفة وإخفائها وتضييعها بدأت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كثر المعتنقون للإسلام من قريش رغبة أو رهبة، وحين رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتجاه لا يخدم مصالـحهم الشخصية وأنانيتهم. ولاسيما مع ما تحمله صدورهم من أحقاد وضغائن، عليه وعلى أهل بيته، وعلى الخلص من أصحابه، الذين يتبعونه في معايير الـحب والبغض، والولاء والمباينة.

ففي حديث عبد الله بن عمرو: ((كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا، فامسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق))(1).

وربما يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرّض بهذه المحاولة حينما قال فيما روي عنه: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه))(2).

وقويت هذه المحاولة حينما نشط الحزب القرشي في مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة الكتاب الذي أراد أن يعصم به أمته من الضلال، وقد سبق في جواب السؤال الثاني قول عمر: ((حسبنا كتاب الله)).

وبدأ التنفيذ العملي لذلك حينما فاز الحزب القرشي بالاستيلاء على الحكم بعد التحاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى.

فقد أحرق أبو بكر خمسمائة حديث كان قد كتبها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1). وقد خطب بمنع الحديث عن النبي

________

1- مسند أحمد ج:2 ص: 162 مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، واللفظ له، ص:192 مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه). سنن أبي داود ج:3 ص:318 أول كتاب العلم: باب كتاب العلم. سنن الدارمي ج:1 ص:136 باب من رخص في كتابة العلم. المستدرك على الصحيحين ج:1 ص:187 كتاب العلم. تحفة الأحوذي ج:7 ص:357 في شرح أحاديث باب ما جاء في الرخصة. المدخل إلى السنن الكبرى ج:2 ص:415 باب من رخص في كتابة العلم…. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج:2 ص:36 الكتابة عن المحدث في المذاكرة.

2- السنن الكبرى للبيهقي ج:7 ص:76 كتاب النكاح: جماع أبواب ما خص به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيح لغيره باب الدليل على أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقتدى به فيما خص به ويقتدى به فيما سواه، واللفظ له. سنن أبي داود ج:4 ص:200 كتاب السنة: باب في لزوم السنة. سنن ابن ماجة ج:1 ص:6 باب تعظيم حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والتغليظ على من عارضه. سنن الترمذي ج:5 ص:37 كتاب العلم عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). المستدرك على الصحيحين ج:1 ص:190 كتاب العلم. صحيح ابن حبان ج:1 ص:191 ذكر الخبر المصرح بأن سنن المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) كلها عن الله لا من تلقاء نفسه. وقريب منه ما في تذكرة الحفاظ ج:3 ص:1190 في ترجمة أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي.

1- تذكرة الحفاظ ج:1 ص:5 في الطبقة الأولى من الكتاب في ترجمة أبي بكر (رضي الله عنه). الرياض النضرة ج:2 ص:144 في ذكر ورعه(أبي بكر (رضي الله عنه). كنـز العمال ج:10 ص:285 باب في آداب العلم والعلماء: فصل في رواية الحديث.

 

 (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: ((إنكم تحدثون عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً. فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه)) (1).

كما أن عمر طلب من الصحابة أن يأتوه بما كانوا قد كتبوه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فظنوا أنه يريد جمع حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وبعد أن اجتمع عنده ما اجتمع في مدة شهر أحرق ذلك كله(2).

وقد شيع عمر قرظة ومن معه لما أرادوا الخروج إلى العراق، فقال لهم: ((أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مشيت معنا، قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث، فتشغلوهم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). امضوا، وأنا شريككم)).

فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا. قال: نهانا عمر. وفي رواية قال: ((لا أحدث حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أبداً))(3).

وقد حبس بعض الصحابة من أجل أنهم أكثروا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، منهم أبو ذر، وعبد الله بن مسعود(4).

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: ((والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجمعهم من الآفاق: عبد الله وحذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآفاق؟! فقالوا: أتنهانا؟ قال: لا. أقيموا عندي. لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم))(5)… إلى غير ذلك مما لايسعنا تفصيل الكلام فيه.

وبطبيعة الحال أن يكون حظّ حديث الغدير الأوفى من ذلك، لأنه يمثل الاتجاه المعاكس للسلطة، ولطموح قريش، فقلما كان يذكر، وإذا ذكر ذكر عابراً، من دون توضيح وتفصيل يوفيه حقه.

وجاءت مناشدة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي سبق الحديث عنها لتلفت الناس له، وتنبههم إلى أهميته. ولذا يبدو من حديث أبي الطفيل المتقدم وغيره صدمة بعض السامعين به واستغرابهم منه في بدو الأمر.

كما أن الكثرة الكاثرة حيث طرق الحديث تنتهي إلى المناشدة المذكورة، حيث يناسب ذلك ما ذكرنا من أن لها الأثر البالغ في نشر الحديث وظهوره واشتهاره. فهي نقطة تحول في تاريخه.

ولاسيما بعد أن قام لمعارضة اتجاه السلطة كيان محترم في الوجود الموالي لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، حيث بدا منهم الاهتمام بوضوح بحديث الغدير وغيره من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتضمنة لمناقب أهل البيت (صلوات الله

_________

1- تذكرة الحفاظ ج:1 ص:2 ـ3 في الطبقة الأولى من الكتاب في ترجمة أبي بكر (رضي الله عنه).

2- الطبقات الكبرى ج:5 ص:188 في الحديث عن القاسم بن محمد بن أبي بكر. سير أعلام النبلاء ج:5 ص:59 في ترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر.

3- معتصر المختصر ج:2 ص:381 كتاب جامع مما ليس في الموطأ في حبس عمر مكثر الحديث، واللفظ له. تذكرة الحفاظ ج:1 ص:7 في ترجمة عمر بن الخطاب. المستدرك على الصحيحين ج:1 ص:183 كتاب العلم.

4- تذكرة الحفاظ ج:1 ص:7 في ترجمة عمر بن الخطاب. معتصر المختصر ج:2 ص:380 كتاب جامع مما ليس في الموطأ في حبس عمر مكثر الحديث.

5- تاريخ دمشق ج:40 ص:500 ـ 501 في ترجمة عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو، واللفظ له. كنز العمال ج:10 ص:293 حديث:29479.

 

عليهم) وفضائلهم، وجدّوا في نشرها، ومدارستها، وتوضيح المراد منها، وترتيب الآثار عليها، والاحتجاج بها. وقام الجدل حولها بسبب ذلك.

ومن الطريف في ذلك ما رواه الشيخ المفيد (قدس سره) في أماليه قال: ((أخبرني أبو بكر محمد بن عمر الجعابي، قال: حدثنا أبو العباس أحمد ابن محمد بن سعيد (يعني ابن عقدة)، قال حدثنا علي بن الحسين (الحسن.ظ) التيملي، قال: وجدت في كتاب أبي: حدثنا محمد بن مسلم الأشجعي، عن محمد بن نوفل بن عائذ الصيرفي، قال: كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي، فدخل علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت، فذكرنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودار بيننا كلام في غدير خم، فقال أبو حنيفة: قد قلت لأصحابنا: لا تقروا لهم بحديث غدير خم، فيخصموكم.

فتغير وجه الهيثم بن حبيب الصيرفي، وقال: لمَ لا تقرون به؟ أما هو عندك يا نعمان؟ قال: هو عندي، وقد رويته. قال: فلمَ لا تقرون به وقد حدثنا به حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم: أن علياً(عليه السلام) نشد الله في الرحبة من سمعه.

فقال أبو حنيفة: أفلا ترون أنه قد جرى في ذلك خوض حتى نشد علي الناس لذلك. فقال الهيثم: فنحن نكذب علياً أو نرد قوله؟ فقال أبو حنيفة: ما نكذب علياً، ولا نرد قولاً قاله، ولكنك تعلم أن الناس قد غلا منهم قوم.

فقال الهيثم: يقوله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخطب به، ونشفق نحن منه ونتقيه، بغلو غال، أو قول قائل!!…))(1).

وكأن ما في نفس أبي حنيفة هو الذي حمل البخاري على تجنب رواية حديث الغدير في صحيحه وإهماله رأساً، وهو الذي دعا مسلم أن يقتصر في صحيحه على الشاذ من طرق الحديث، الذي تقدم منا ذكره عند الكلام في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي يتضمن بتر الخطبة المذكورة، والاقتصار منها على حديث الثقلين، وإهمال الكثرة الكاثرة من طرقه المتضمنة لحديث الولاية، والذي هو الغرض المهم من الخطبة في تلك الواقعة، كما سبق.

بل لعل لحديث المناشدة المتقدم ونحوه ـ مما ألفت الناس لأهمية أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الأثر في انفتاح الناس على جميع أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واهتمامهم بها، ومدارستهم لها. فكان لتحمل الحديث، والتحدث به، وتقصّي معانيه ومغازيه، سوق رائج بين أهل المعرفة. وإن كان التستر بذلك وإظهاره يختلفان باختلاف الظروف، تبعاً لاختلاف مواقف السلطة، شدة وعنفاً، أو انفتاحاً ومرونة.

هذا ما وسعنا من الكلام حول واقعة الغدير، التي تقول: إن السنة لا يروونها ولو بخبر آحاد ضعيف. على أنا قد أهملنا كثيراً مما يتعلق بالواقعة المذكورة، لضيق المجال عن ذلك، ووفاء ما ذكرنا بالمطلوب. ومن الله سبحانه وتعالى نستمد التوفيق والتسديد.

 

_______

1- أمالي الشيخ المفيد ص:23 ـ 24 المجلس الثالث.