أما إذا ثبت أن الحديث قد تضمن الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) على المسلمين، وأنه(عليه السلام) أولى بهم من أنفسهم، فذلك مساوق لإمامته وخلافته ووجوب طاعته عليهم، لعدم صلوح الولاية المذكورة إلا للإمام، وعدم تمامية الإمامة إلا بالولاية ووجوب الطاعة.
ولم تثبت إمامة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين في حياته إلا ممادل ـ من الآيات والأحاديث ـ على وجوب طاعته (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم، وأنه(صلى الله عليه وآله وسلم) وليهم، وأولى بهم من أنفسهم، كما لعله ظاهر. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
س 1 ـ ما هو موقف الشيعة من هذه القضية القرآنية وهي:
أن القرآن الكريم عند تعرضه لحال الأمة المحمدية ودرجتها ومنزلتها عند الله قد قسمها إلى قسمين:
قسم محدود بزمن. وهؤلاء أطلق الله عليهم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وعامة ما يرد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من ذكر للصحابة ـ بلفظ الصحابة أو أمثالها ـ يُعنى به السابقون الأول.وهذا القسم قد رضي ربنا عزوجل عنهم، دون أن يشترط فيهم الاتباع بإحسان، بخلاف القسم الثاني، وهو:
القسم الثاني الذي اشترط فيهم الاتباع بإحسان. مع العلم بأن كثيراً ممن يطلق عليه لفظ الصحابة مذكور في الشطر الثاني من الآية، حيث قال عز من قائل: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) التوبة/100.
فإن نقل عن أحد من السابقين الأول ـ مهاجراً كان أم أنصارياً ـ قضية فيها إثم أو معصية ، أو خلاف أو شقاق، أيصح لنا نحن المتأخرين أن نطلق ألسنتنا في هذا الصحابي؟! مع أن السنة النبوية اقتضت أن لا نفعل ذلك، وأن لا نقتدي بهذا العمل الظاهر فساده، وأن نَكِل حال هذا الصحابي ومنزلته عند الله تعالى إلى الله عزوجل، لأنه وحده المختص بهم. كما هو الحاصل في قضية حاطب بن أبي بلتعة، حيث إن رسول الله(صلى الله عليه و سلم) احتج على من أنكر على حاطب بقوله: ((لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم، فإنني قد غفرت لكم)).
ج: يحسن التعرض في جواب ذلك لأمور..
(الأمر الأول): أنه لم يتعرض القرآن الكريم للسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان إلا في قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))(1).
ولا يخفى أن الآية الشريفة قد تضمنت أمرين:
(أولهما): الإخبار عن رضا الله تعالى عن السابقين الأولين.
(ثانيهما): وعد الله لهم بالجنة، والحكم لهم بالفوز العظيم.
أما الإخبار بالرضا فهو لا يدل إلا على أنه تعالى راضٍ عنهم حينما أخبر بذلك، وهو وقت نزول الآية الشريفة، ولا يكشف عن استمرار رضا الله تعالى عنهم إلى حين موتهم، بحيث يلقاهم راضياً عنهم. لوضوح أن رضا المولى عن عبده تابع لطاعة العبد له, ولو بتوبته من ذنبه, وهو يختلف باختلاف حالات العبد، واختلاف أعماله. فالله سبحانه وتعالى قد يرضى عن عبده في يوم، لطاعته له، ثم يغضب عليه بعد ذلك، لمعصيته له، ثم يعود فيرضى عنه إذا تاب وأطاعه، ثم يغضب عليه إذا عصاه... وهكذا. وليس من شأن الرضا البقاء، بحيث لا يزول.ومن ثم لا مجال للاستدلال بالرضا عنهم على نجاتهم.
وأما الوعد لهم بالجنة، والحكم لهم بالفوز العظيم، فقد يستدل به في المقام على المدعى. وهو ما سوف نتحدث عنه.
إذا عرفت هذا فلابد (أولاً): من تحديد المدعى، ثم النظر في أن الآية الشريفة هل تدل عليه أو لا؟. ويمكن توجيه المدعى بوجهين: الكلام في أن السابقين الأولين مقطوع لهم بالسلامة والفوز بالجنة
(الوجه الأول): أن السابقين الأولين مقطوع لهم بالسلامة والنجاة في الآخرة، والفوز بالجنة، إما لكونهم معصومين من الذنوب، أو لأنه يختم لهم بالتوبة المقبولة، أو لأن الله تعالى يتفضل عليهم بالعفو والمغفرة، وإن ماتوا على الذنوب والمعاصي. وقد يستدل على ذلك بالآية الكريمة، لأنها قد تضمنت تعقيب الرضا عنهم بإعداد الجنات لهم، وبفوزهم، المناسب للقطع بسلامتهم. لكنه يندفع بأن ذلك لا يختص بالسابقين الأولين، بل كما ورد ذلك فيهم، ورد نظيره في غيرهم.
قال تعالى: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ))(2).
وقال سبحانه: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ))(3).
ونحوهما غيرهما مما تضمن الوعد لكل مهاجر ولو من غير السابقين. بل يظهر منها العموم لكل مهاجر من بلاد الكفر لبلاد الإسلام، ولو بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقال عزوجل: ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ))(4) ومقتضاه عموم السلامة والفوز لجميع المهاجرين والأنصار.
كما أنه قد استفاضت الآيات الكريمة في الوعد بالفوز لعامة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، كقوله عز من قائل: ((وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ))(5).
وقوله عزوجل: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ))(6). وقوله جل شأنه: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ* ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))(7). ونحوها كثير جداً.
ــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة الآية: 100.
(2) سورة آل عمران الآية: 195.
(3) سورة الحج الآية: 58 ـ 59.
(4) سورة الأنفال الآية: 74.
(5) سورة البقرة الآية: 25.
(6) سورة العنكبوت الآية: 58.
(7) سورة الشورى الآية: 22 ـ 23.