(الأمر الثالث): تقول في سؤالك: ((مع أن السنة النبوية اقتضت أن لا نفعل ذلك... وأن نَكِل حال هذا الصحابي ومنزلته عند الله تعالى إلى الله عزوجل، لأنه وحده المختص بهم، كما هو الحاصل في قصة حاطب بن أبي بلتعة، حيث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) احتج على من أنكر على حاطب بقوله: لعلّ الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم فإنني قد غفرت لكم)).
ونقول: هذا الحديث وإن رواه الجمهور بطرق متعددة ـ يأتي بعضها ـ حتى صار كأنه من المسلمات عندهم. ونحن فعلاَ لا نريد إنكاره، إلا أننا مع ذلك نتحفظ في أمره، ولا يسعنا الجزم بصدقه، ولا بالمعنى الذي يحاول الجمهور حمله عليه، وهو القطع بالسلامة لأهل بدر.
محاولة إضفاء طابع القدسية على الصحابة في قبال أهل البيت(عليه السلام)
ومقدمة للحديث في ذلك يحسن منا التنبيه على أمر مهم جداً ينفع في المقام وغيره. وهو أن المعلوم للباحث المنصف أن جمهور السنة ـ برواتهم وعلمائهم في الحديث والفقه، وبسلطانهم المناوئ لأهل البيت (صلوات الله عليهم) من الصدر الأول ـ يحاول إضفاء طابع القدسية على الصحابة، في قبال قدسية أهل البيت (عليه السلام) التي فرضها الكتاب المجيد، الذي ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) (1)، وأكدتها السنة الشريفة المستفيضة،والتي رواها حتى من لا يلتزم خط أهل البيت (صلوات الله عليهم).
وإنما فعلوا ذلك ليجعلوهم في قبال أهل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويكونوا هم الوجهة التي يتوجه لها المسلمون، لينشغلوا بهم، ويغفلوا عن مقام أهل البيت(صلوات الله عليهم). وكلما تعاقبت العصور، وظهرت دعوة الشيعة، وأخذوا يشيدون بمقام أهل البيت (عليهم السلام)، ويؤكدون عليه قولاً وعملاً، زاد تشبث الجمهور بالصحابة وبإضفاء طابع القدسية عليهم, حتى صار ديناً يتدينون به.
كل ذلك من أجل أن يتكئوا على الصحابة، وينتسبوا لهم، كما انتسب الشيعة لأهل البيت(عليهم السلام) . ويبرروا بذلك إعراضهم عن أهل البيت (عليهم السلام). ولا أقل من عدم تمييزهم لأهل البيت (عليهم السلام) في التعظيم والتقديس.
موقف الجمهور من إلحاق أهل البيت في الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
ويكفي من الشواهد العملية لذلك أن الجمهور رووا في كيفية الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلحاق أهل بيته به(صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي حديث كعب بن عجرة: ((قيل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد))(2)،ونحوه غيره.
بل ورد النهي عن الصلاة البتراء(3)، وهي الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون إلحاق آله به.
ومع ذلك نرى جمهور السنة إما أن يفردوا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة أو يلحقوا به آله وأصحابه معاً. وما ذلك إلا لضيقهم من تمييز آل البيت (صلوات الله عليهم) بالتكريم والتقديس.
ومن الطريف ما ذكره الطحطاوي في توجيه ما عليه الجمهور، حيث قال: ((والظاهر أن ذكر الآل والأصحاب مندوب. أما الأصحاب فظاهر، لأنهم سلفنا، وقد أمرنا بالترضي عنهم، ونهينا عن لعنهم. وأما الآل فلقوله (صلى الله عليه وسلم): لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء. قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول الله؟ قال: تقولون: اللهم صل على محمد، وتمسكون. بل قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. ذكره الفاسي وغيره))(4).
فانظر إليه كيف استدل على استحباب إلحاق الصحابة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر الصلاة، ومشاركتهم للآل في هذه الكرامة، بأنهم سلفنا، وقد أمرنا بالترضي عنهم، ونهينا عن لعنهم. مع أن ما ذكره من الوجه ـ لو تم ـ إنما يصلح دليلاً على استحباب الترضي عن الصحابة، وحرمة لعنهم، كما هو الحال في كل مؤمن، ولا ينهض دليلاً على المدعى ، وهو استحباب إلحاقهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة عليه، كالآل. ولا سيما مع اقتصار الأحاديث الشارحة للصلاة عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) والناهية عن الصلاة البتراء على آله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من دون ذكر للصحابة فيها.
وأطرف من ذلك أن الطحطاوي ضاق ذرعاً بحديث الصلاة البتراء الذي ذكره، لما فيه من تمييز أهل البيت (صلوات الله عليهم) بكرامة لا يشركهم فيها غيرهم، فصرف الحديث عنهم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأمة أجمع حتى الفساق منهم.
قال بعد الكلام السابق بلا فصل: ((والمراد بالآل هنا سائر أمة الإجابة مطلقاً. وقوله(صلى الله عليه وسلم): آل محمد كل تقي. حمل على التقوى من الشرك . لأن المقام للدعاء))(5).
ولنا أن نسأل الطحطاوي عن أنه إذا كان المراد بالآل ذلك، فلماذا إذاً إلحاق الصحابة بهم؟
ولماذا احتاج للاستدلال على إلحاقهم بما سبق؟ أو ليسوا هم من أمة الإجابة؟
ثم لماذا يصر بعد ذلك هو والجمهور على الصلاة البتراء، ولا يلحقون الآل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة مقتصرين عليهم، كما تضمنه الحديث الذي ذكره؟! أليس ذلك من أجل أن يتجنبوا تمييز أهل البيت (صلوات الله عليهم) بكرامة تثقل عليهم؟
كل ذلك لأنهم فهموا من الآل خصوص أهل البيت (صلوات الله عليهم)، لا سائر أمة الإجابة، حتى الفساق منهم.
ونعود فنقول: الحديث عن أسباب تشبث الجمهور بالصحابة وإضفاء طابع القدسية عليهم والدواعي التي أدت إلى ذلك طويل متشعب. لا يسعنا استيعابه في هذه العجالة. وقد أفاض فيه علماء الشيعة وكتابهم, فليرجع إليه من يهمه الوصول للحقيقة.
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة فصلت الآية: 42.
(2) صحيح البخاري ج:4 ص:1802 كتاب التفسير: باب إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا...، واللفظ له، ج:3 ص:1233 كتاب الأنبياء: باب يزفون النسلان في المشي، ج:5 ص:2338 كتاب الدعوات: باب الصلاةعلى النبي(. صحيح مسلم ج:1 ص:305 كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي( بعد التشهد. السنن الكبرى للنسائي ج:1 ص:381،382 كتاب صفة الصلاة: الأمر بالصلاة على النبي(، ج:6 كتاب عمل اليوم والليلة ص:17 كيف المسألة وثواب من سأل له ذلك، ص:97 كيف الرد. صحيح ابن حبان ج:3 ص:193 باب الأدعية: ذكر الأخبار المفسرة لقوله جل وعلا: ((ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما))، ج:5باب صفة الصلاة ص:286 ذكر وصف الصلاة على المصطفى( الذي يتعقب السلام الذي وصفنا، ص:289 ذكر البيان بأن النبي( إنما سئل عن الصلاة عليه في الصلاة عند ذكرهم إياه في التشهد، ص:295 ذكر الأمر بالصلاة على المصطفى( وذكر كيفيتها. وغيرها من المصادر الكثيرة.
(3) جواهر العقدين القسم الثاني ج:1 ص:49 في الثاني ذكر أمره( بالصلاة عليهم في امتثال ما شرعه الله من الصلاة عليهم ووجه الدلالة على إيجاب ذلك في الصلاة. حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ج:1 ص:8. الصواعق المحرقة ج:2 ص:430 الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبوي: الفصل الأول في الآيات الواردة فيهم. ينابيع المودة ج:1 ص:37،ج:2 ص:434.
(4) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ج:1 ص:8.
(5) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ج:1 ص:8.