3 ـ وأما قولـه(صلى الله عليه وآله وسلم): ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم)). فهو لا يتضمن القطع لهم بالسلامة، بل رجاءها. ورجاء السلامة لا يمنع من الطعن عليهم بما يستحقون نتيجة أعمالهم. فإن المتجاهر بالفسق ـ الذي لا إشكال في جواز ذمّه والطعن عليه ـ لا يقطع عليه بالهلاك، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو الغفور الرحيم.
4 ـ أما حمل الحديث على القطع بالسلامة فهو تكلف لا شاهد له. ولا يدعو له إلا تسالم الجمهور من السنة على استقامة الصحابة وسلامتهم، التي هي محل الكلام هنا. فلا معنى لأن يستدل عليهما بالحديث المذكور.
بل كيف يمكن أن يعلن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حياتهم القطع بسلامتهم..
(أولاً): لما في ذلك من الإغراء بالقبيح، نظير ما تقدم في الحديث عن آية السابقين الأولين.
وإذا أردت أن تستوضح ذلك فانظر إلى ما رواه البخاري بسنده عن فلان، قال: ((تنازع أبو عبد الرحمن وحبان بن عطية، فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت ما الذي جرأ صاحبك على الدماء. يعني علياً. قال: ما هو، لا أبا لك؟ قال: شيء سمعته يقوله. قال: ما هو؟ قال: بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس... فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه... قال: صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً. قال: فعاد عمر، فقال: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين. دعني فلأضرب عنقه. قال: أو ليس هو من أهل بدر؟ وما يدريك، لعل الله اطلع عليهم، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد أوجبت لكم الجنة، فاغرورقت عيناه، فقال: الله ورسوله أعلم))(1).
فإنا وإن كنا نعتقد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يرق الدماء إلا بحق، بل كان يرى وجوب الدخول في تلك الحروب، كما صرح بذلك كثيراً(2)، لأنهم مفسدون، وبغاة يجب قتالهم بحكم الكتاب المجيد ولعهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) له بذلك. وقد ورد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(3). إلا أن المحاورة المذكورة تكشف عن أن الناس ترى أن هذا الحديث ـ وإن كان بلسان الرجاء والاحتمال ـ يعرض الأمة لإراقة الدماء الكثيرة.
وإذا كان أمير المؤمنين(صلى الله عليه وآله وسلم) منزهاً عن ذلك ـ لما سبق، ولعصمته عندنا ـ فما هو المؤمّن من غيره من ذوي النزعات البشرية المتعارفة، خصوصاً إذا سولت لهم أنفسهم، ومنَّتهم أن ذلك وعد قاطع، لا يقبل الشك.
(وثانياً): لأن ذلك لا يتناسب مع موقف بعض أهل بدر في الواقعة وموقف القرآن الكريم منهم، وتعريضه بمواقف بعضهم وتأنيبه عليها، كما تقدم في جواب السؤال الثاني من الأسئلة السابقة عند الكلام في موقف الكتاب المجيد من الصحابة. فلاحظ.
(وثالثاً): لأن ذلك لا يتناسب مع مواقف الصحابة أنفسهم من أهل بدر، كما يتضح باستعراض التاريخ، وقد تقدم في جواب السؤال الثاني من الأسئلة المتقدمة ما يشهد به.
لابد من تقييد الحديث بغير الذنوب الموبقة
5 ـ ولو فرض ظهور الحديث بدواً في القطع لهم بالسلامة، فلابد من تقييده بغير الذنوب الموبقة المهلكة، كالارتداد، والنفاق، والرد لحكم الله تعالى، والبدعة في الدين، ونحوها. حيث لا يظن بأحد البناء على أن مثل هذه الذنوب مغفورة لأهل بدر. وإنما يقطع الجمهور لهم بالسلامة إما لدعوى عدم صدور مثل هذه الذنوب منهم، أو لأنه يختم لهم بالتوبة. وكلا الأمرين لا يدل عليه الحديث، وإنما المدعى دلالته على مغفرة ذنوبهم حين وقوعها، بل قبله.
وبعد تقييد الحديث بغير الذنوب المهلكة لا يصلـح دليلاً على عدم وقوع مثل هذه الذنوب، ولا على حصول التوبة منها. إلا أن يثبت ذلك من دليل آخر.
6 ـ على أن قوله تعالى المتقدم: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))(4) دال على أن عمل حاطب المذكور معرض له للهلاك إذا لم يتب منه.
لظهوره في أن من يرجو الله واليوم الآخر لابد له من أن يتأسى بإبراهيم (عليه السلام) ومن معه في البراءة من الكفار ومباينتهم، وأن عدم التأسي بهم من شأن من لا يرجو الله واليوم الآخر، الذي لا إشكال في هلاكه. بل في قوله تعالى: ((وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) من التهديد ما لا يخفى.
كما أن قوله سبحانه: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))(5) ظاهر في ردّ اعتذار حاطب ورفضه، والتشديد في الإنكار عليه وتهديده، وهو لا يناسب القطع بالمغفرة له. بل ولا بيان الرجاء لها ـ الذي تضمنه الحديث ـ مع صدور الذنب المذكور منه.
7 ـ وحيث كانت الآيات المذكورة قد نزلت بعد كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتقدم، فلابد من حمل الكلام المذكور، إما على جهل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأهمية الذنب الذي صدر من حاطب ـ وحاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك ـ وأن الله سبحانه رفع بالآيات الشريفة الوهم الذي حصل.
وإما على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يكبح جماح عمر واندفاعه، ويكفه عن التدخل في شؤونه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما يسببه له من إحراج، فصدمه بذلك، وهو عالم بشدة جريمة عمل حاطب، وتعرضه به للخطر.فاختر أي الأمرين شئت.أما نحن فنرى في الآيات الكريمة مبرراً منطقياً للتشكيك في متن الحديث، واحتمال التحريف المتعمد أو غير المتعمد فيه، إن تم سنداً، ودلالة.
ــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري ج:6 ص:2542 ـ 2543 كتاب استتابة المرتدين المعاندين وقتالهم: باب ما جاء في المتأولين حديث:6540.
(2) يحسن هنا أن نثبت ما رواه نصر بن مزاحم وغيره في أحداث واقعة صفين بعد أن اشتدت الحرب وأنهكت الطرفين، قال: ((وخرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين: يا أبا الحسن ياعلي ابرز إلي، قال: فخرج إليه علي حتى إذا اختلف أعناق دابتيهما بين الصفين، فقال: ياعلي إن لك قدماً في الإسلام وهجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك، فقال له علي: وماذاك ؟ قال ترجع إلى عراقك فنخلي بينك وبين العراق ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا. فقال له علي: لقد عرفت إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه) إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لايأمرون بالمعروف ولاينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم))/ وقعة صفين ص:474، واللفظ له. شرح نهج البلاغة ج:2 ص:207 ـ 208. الأخبار الطوال ص:187 ـ 188. ينابيع المودة ج:2 ص:8 ـ 9. وقريب منه في حلية الأولياء ج:1 ص:85 في ترجمة علي بن أبي طالب، والاستيعاب ج:1 ص:411 في ترجمة حوشب بن طخية الحميري، وتاريخ دمشق ج:37 ص:291 في ترجمة عبدالواحد، وأسد الغابة ج:2 ص:63 في ترجمة حوشب بن طخية.
(3) المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:150 كتاب معرفة الصحابة: ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه). مجمع الزوائد ج:5 ص:186 كتاب الخلافة: باب الخلفاء الأربعة، ج:7 ص:238 كتاب الفتن: باب فيما كان بينهم في صفين. مسند أبي يعلى ج:1 ص:379 في مسند علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). مسند البزار ج:2 ص:215 فيما روى علقمة بن قيس عن علي، ج:3ص:27 فيما روى علي بن ربيعة الأسدي عن علي بن أبي طالب. مسند الشاشي ج:2 ص:342 فيما روى علقمة بن قيس عن عبدالله بن مسعود. المعجم الكبير ج:10 ص:91 فيما رواه علقمة بن قيس عن عبدالله بن مسعود.
(4) سورة الممتحنة الآية: 6.
(5) سورة الممتحنة الآية: 3.