الكلام في الأحاديث المشابهة لحديث حاطب

8 ـ ومنه يظهر الحال في الحديث الآخر. وهو ما رواه أبو هريرة، قال: ((ثم إن رجلاً من الأنصار عمي، فبعث إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن تعال فاخطط في داري مسجداً، أتخذه مصلى. فجاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، واجتمع إليه قومه، وبقي رجل منهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): أين فلان، فغمزه بعض القوم: إنه، وإنه. فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): أليس قد شهد بدراً. قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنه كذا وكذا.

فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))(1).

فإن الحديث ـ مع الغض عن سنده ـ غير ظاهر في القطع لأهل بدر بالسلامة. كما أنه لا يناسب الآية الشريفة المتقدمة. وربما كان قد صدر قبل نزولها، فيجري فيه ما سبق.

9 ـ ومثله الحديث الآخر عن جابر: ((ثم إن عبداً لحاطب جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يشكو حاطباً. فقال: يا رسول الله إنه ليدخل حاطب النار. فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): كذبت، إنه لا يدخلها، إنه شهد بدراً والحديبية))(2).

حيث لا يمكن البناء على أن فضيلة بدر والحديبية توجب غفران جميع الذنوب حتى المهلكة. فضلاً عن أن يعلن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقطع بذلك، مع ما فيه من الإغراء بالقبيح.

فلابد من حمله على الإنكار على العبد في قطعه على حاطب بدخول النار، مع أنه قد شهد الواقعتين المذكورتين. حيث قد يوجب ذلك غفران الذنب الذي شكى منه العبد، وقطع من أجله بدخول حاطب النار.

 

تأويل حديث حاطب بما يناسب الحكمة والمنطق

10 ـ وربما تؤول مثل هذه الأحاديث ـ لو تمت أسانيدها ومتونها ـ تأويلاً يتناسب مع مقتضيات الحكمة، ومع ما يظهر من الكتاب العزيز والسنة الشريفة، من التركيز والتأكيد على التذكير والتحذير والتقريع، منعاً من تسويل النفس، والركون لجانب الرجاء، ركوناً يشجع على ارتكاب المحارم، وانتهاك حدود الله تعالى، وينتهي بالآخرة إلى الأمن من مكر الله تعالى، وما يترتب عليه من محاذير.

وحاصل هذا التأويل: أن المراد بيان أهمية الجهاد في بدر وعظيم فضيلته، وأنه قد يكون سبباً في غفران ذنوب أهل بدر التي سبقت الواقعة بملاك : ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ))(3)، وأنه يقال لهم: استأنفوا العمل بعد ذلك من خير أو شر، فقد كفيتم ما مضى، وغفر لكم، فاختاروا لأنفسكم فيما بعد ما شئتم.

نظير ما ورد في الحج من أنه يقال للحاج: استأنف العمل فقد غفر لك(4).

وفي حديث أبي هريرة عن النبي(صلى الله عليه وسلم): ((قال: من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))(5).

والغرض من بيان ذلك التنبيه إلى أن صاحب مثل هذه الفضيلـة حقيق بأن يعفو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عن مثل هذه الشطحة منه، استصلاحاً له، أو أن يغفر الله تعالى بعض ذنوبه، أو نحو ذلك، من دون إعلان القطع له بالسلامة.

 

تحوير كثير من الأحاديث عمداً أو جهلاً

وكثيراً ما تحوّر الأحاديث الشريفة عن معانيها المرادة منها، نتيجة الجهل بالقرائن المحيطة بالكلام، أو التضليل المتعمد.

نظير ما تضمنه حديث محمد بن مارد: ((قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): حديث روي لنا أنك قلت: إذا عرفت (يعني: إذا عرفت الإمام) فاعمل ما شئت.

فقال: قد قلت ذلك.

قال: قلت: وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر؟

فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون. والله ما انصفونا أن نكون أخذنا بالعمل، ووضع عنهم. إنما قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، فإنه يقبل منك))(6).

 

ورود القطع بالسلامة في كثير من الأمور غير واقعة بدر

11 ـ على أنه قد ورد القطع بالسلامة في كثير من العقائد الحقة وأعمال الخير، ففي حديث أبي ذر الغفاري(رضي الله عنه) عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ((فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟!‍ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق،  قلت: وإن زنى

وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق. على رغم أنف أبي ذر))(7). ونحوه كثير(8).

وفي حديث عمر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): ((ما منكم من أحد يتوضأ، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء))(9).

وفي حديث عبادة بن الصامت: ((أشهد أني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول: خمس صلوات افترضهن الله. من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن، كان له على الله عهد أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه))(10). ونحوه غيره(11).

وفي حديث أبي هريرة: ((أن أعرابياً  أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: تعبدالله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا...))(12).

وعنه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ((قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))(13).

 وعن أم سلمة(رضي الله عنها) عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ((قال: من أهل بحج أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة))(14).

ولا يمكن البناء على ظاهرها، لأنها لا تناسب أدلة بقية الواجبات والمحرمات، وأدلة الوعيد من الكتاب المجيد والسنة الشريفة. فلابد من تأويلها، ولا سيما بالإضافة إلى الاستقامة وحسن الخاتمة، حيث لا ريب في كونهما شرطاً في النجاة والفوز بالنعيم الخالد. وما يجري فيها يجري في أحاديث أهل بدر المتقدمة. كما لا يخفى.

ــــــــــــــــــــ

(1) صحيح ابن حبان ج:11 ص:123 حديث:4798 باب فرض الجهاد: غزوة بدر: ذكر الخبر الدال على أن ذنوب أهل بدر التي عملوها بعد يوم بدر غفرها الله لهم بفضله وطلحة والزبير منهم.

(2) صحيح ابن حبان ج:11 ص:122 حديث: 4799 باب فرض الجهاد: غزوة بدر: ذكر نفي دخول النار نعوذ بالله منها عمن شهد بدراً والحديبية.

(3) سورة هود الآية: 114.

(4) راجع وسائل الشيعة ج:8 باب: 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.

(5) صحيح البخاري ج:2 ص:553 كتاب الحج: باب فضل الحج المبرور، واللفظ له. صحيح مسلم ج:2 ص:984 كتاب الحج: باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة. صحيح ابن خزيمة ج:4 ص:131 كتاب المناسك: باب فضل الحج الذي لا رفث فيه ولا فسوق فيه وتكفير الذنوب والخطايا به. صحيح ابن حبان ج:9 ص:7  كتاب الحج: باب فضل الحج والعمرة: ذكر

مغفرة الله جل وعلا ما تقدم من ذنوب العبد بالحج الذي لا رفث فيه ولا فسوق. مسند ابن الجعد ص:141 في بقية حديث شعبة عن منصور. وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(6) وسائل الشيعة ج:1 ص:87 باب: 28 من أبواب مقدمة العبادات حديث:2.

(7) صحيح البخاري ج:5 ص:2193 كتاب اللباس: باب الثياب البيض.

(8) صحيح البخاري ج:1 ص:417 كتاب الجنائز: باب في الجنائز، ج:5 ص:2312 كتاب الاستئذان: باب من أجاب بلبيك وسعديك، ص:2366 كتاب الرقاق: باب ماقدم من ماله فهو له. صحيح مسلم ج:1 ص:94،95 كتاب الإيمان: باب من مات لايشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات مشركاً دخل النار، ج:2 ص:687،688 كتاب الزكاة : باب الترغيب في الصدقة. سنن الترمذي ج:5 ص:27 كتاب الإيمان: باب ماجاء في افتراق هذه الأمة. السنن الكبرى للنسائي ج:6 ص:276 كتاب عمل اليوم والليلة: باب مايقول عند الموت. مسند أحمد ج:5 ص:166 حديث أبي ذر الغفاري(رضي الله عنه). مسند أبي عوانة ج:1 ص:28 كتاب الإيمان: بيان الأعمال والفرائض التي إذا أداها بالقول والعمل دخل الجنة والدليل على أنه لاينفعه الإقرار حتى يستيقن قلبه ويريد به وجه الله بما يحرم به على النار. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(9) السنن الكبرى للبيهقي ج:1 ص:78 كتاب الطهارة: جماع أبواب سنة الوضوء وفرضه: باب مايقول بعد الفراغ من الوضوء، واللفظ له. صحيح البخاري ج:3 ص:1267 كتاب الأنبياء: باب قوله :((يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة...)). صحيح مسلم ج:1 ص:209 كتاب الطهارة: باب الذكر المستحب عقب الوضوء. صحيح ابن خزيمة ج:1 ص:110 كتاب الوضوء: جماع أبواب فضول التطهير والاستحباب من غير إيجاب: باب فضل التهليل والشهادة للنبي(صلى الله عليه وسلم)  بالرسالة والعبودية وأن لا يطرى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم.... وغيرها من المصادر الكثيرة.

(10) السنن الكبرى للبيهقي ج:3 ص:366 جماع أبواب تارك الصلاة: باب ما يستدل به على أن المراد بهذا الكفر كفر يباح به دمه لا كفر يخرج به عن الإيمان بالله ورسوله إذا لم يجحد وجوب الصلاة.

(11) سنن أبي داود ج:1 ص:115 كتاب الصلاة: باب في المحافظة على وقت الصلوات. مسند أحمد ج:5 ص:317 حديث عبادة بن الصامت(رضي الله عنه). الأحاديث المختارة ج:8 ص:320 من اسمه عبد الرحمن: عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي. المعجم الأوسط ج:9 ص:126 باب الهاء: ذكر من اسمه هاشم. الترغيب والترهيب ج:1 ص:148، 155،157. تعظيم قدر الصلاة ج:2 ص:953. وغيرها من المصادر.

(12) صحيح البخاري ج:2 ص:506 كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة، واللفظ له. صحيح مسلم ج:1 ص:44 كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة. مسند أحمد ج:2 ص:342 مسند أبي هريرة. جامع العلوم والحكم ص:207. الإيمان لابن مندة ج:1 ص:269 ذكر بيعة النبي(صلى الله عليه وسلم) أصحابه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. الترغيب والترهيب ج:1 ص:302.

(13) صحيح البخاري ج:2 ص:629 أبواب العمرة : باب وجوب العمرة وفضلها، واللفظ له. صحيح مسلم ج:2 ص:983 كتاب الحج: باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة. صحيح ابن خزيمة ج:4 ص:131 كتاب المناسك: باب الأمر بالمتابعة بين الحج والعمرة والبيان أن الفعل قد يضاف إلى الفعل لا أن الفعل يفعل فعلا كما ادعى بعض أهل الجهل. السنن الكبرى للبيهقي ج:5 ص:261 كتاب الحج: باب فضل الحج والعمرة. سنن ابن ماجة ج:2 ص:964 باب فضل الحج والعمرة. موطأ مالك ج:1 ص:346 كتاب الحج: باب جامع ما جاء في العمرة. مسند أحمد ج:3 ص:447 حديث عامر بن ربيعة. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(14) سنن الدارقطني ج:2 ص:283 كتاب الحج، واللفظ له. السنن الكبرى للبيهقي ج:5 ص:30 كتاب الحج: باب فضل من أهل من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. سنن أبي داود ج:2 ص:143 أول كتاب المناسك: باب في المواقيت. المعجم الأوسط ج:6 ص:319. الترغيب والترهيب ج:2 ص:121. وغيرها من المصادر الكثيرة.