الترضي لا يـختص بمن شهد بيعة الرضوان

بقي شيء. وهو أنه لو فرض ظهور إطلاق الترضي من الله تعالى في بقاء رضاه جل شأنه عنهم واستمراره ـ كما ذكرت ـ وغضّ النظر عما ذكرنا، فمن الظاهر أن الله جل شأنه كما ترضى عن الصحابة ترضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات عموماً في قوله عزوجل: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ))(1).

وفي قوله جل شأنه: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تحتها الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ))(2).

بل من الظاهر أن الترضي في الآيتين عن المؤمنين يراد به حصول رضاه عنهم في الآخرة عند وفودهم عليه ولقائهم إياه.

فيا ترى ألا يلتزم الجمهور بتقييد الرضا عنهم بالاستقامة؟ وإذا كان الرضا عنهم مقيداً بالاستقامة فلماذا لا يقيد بها في المقام؟!

 

بعض المؤيدات لاشتراط بقاء الرضا بالاستقامة

ويؤكد ما ذكرنا أمور..

1 ـ ما تقدم في جواب السؤال الأول من أن ملاحظة واقع الصحابة وما شجر بينهم يقضي بعدم قطعهم على من شهد بيعة الرضوان بالسلامة والفوز.

2 ـ ما تقدم هناك أيضاً من أن ذلك يستلزم الإغراء بالقبيح.

3 ـ أن الآية لا تختص بالسابقين الأولين، فقد نزلت فيمن شهد بيعة الرضوان بعد أن كثر المسلمون، وفيهم مثل المغيرة ابن شعبة، وأبي العادية قاتل عمار بن ياسر(3)، وعبدالله بن أبي رأس المنافقين (4).

(الأمر الثاني): تقول في سؤالك: ((لا ننكر بأن الصحابة (السابقين الأولين) قد تجتاحهم النزعات الشخصية، وقد يتسلط على أحدهم مصلحة ما، وقد يغبطون بعضهم بعضاً. فلماذا لا يؤول علماء الشيعة حال أبي بكر وعمر وعثمان، وتوليهم الخلافة في حياة علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم أجمعين)، بأن فعلهم ـ أي الخلفاء الثلاثة الأول  ـ من قبل هذه النزعات، غير المؤاخذ عليها شرعاً...)).

 

الفرق بين الغبطة والحسد

ونقول: الغبطة هي تمني الإنسان مثل ما يجده عند غيره من الخير، من دون أن يتمنى زوال تلك النعمة عن صاحبها، فإن تمنى زوالها عنه فهو حاسد له.

قال في لسان العرب عند الكلام في مادة (غبط) بعد أن أطال في الحديث عن معنى الغبطة: ((قال الأزهري: وفرق الله بين الغبط والحسد بما أنزله في كتابه لمن تدبره واعتبره، فقال عزمن قائل:((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ))

(5).وفي هذه الآية بيان أنه لا يجوز للرجل أن يتمنى، إذا رأى على أخيه المسلم نعمة أنعم الله بها عليه، أن تزوى عنه ويؤتاها. وجائز أن يتمنى مثلها، بلا تمن لزيها عنه. فالغبط أن يرى المغبوط في حال حسنّه، فيتمنى لنفسه مثل تلك الحال الحسنة، من غير أن يتمنى زوالها عنه. وإذا سأل الله مثلها فقد انتهى إلى ما أمره به ورضيه له. أما الحسد فهو أن يشتهي أن يكون له مال المحسود، وأن يزول عنه ما هو فيه)).

وبذلك يظهر أن تمني نعمة الغير مع الرغبة في زوالها عنه ليس غبطة، بل حسداً.

 

الحسد من أعظم المحرمات

ومن الظاهر أن الحسد من أعظم المحرمات. وقد استفاضت بحرمته أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأهل بيته (عليهم السلام) . كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم)  أنه قد خاطب أصحابه بأن الحسد قد دبّ فيهم.ففي حديث علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه عن جده (عليهم السلام)  قال: ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  ذات يوم لأصحابه: ألا إنه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم، وهو الحسد. ليس بحالق الشعر، لكنه حالق الدين.  وينجي فيه أن يكف الإنسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن))(6).

وفي حديث الزبير بن العوام أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال: ((ثم دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء. والبغضاء هي الحالقة. حالقة الدين، لا حالقة الشعر. والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))(7).

وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال: ((ثم إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب))(8).

وفي حديث أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام)  : ((قال: أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد))(9)... إلى غير ذلك.

فإذا أضيف لذلك استلاب النعمة من الغير، وأخذ حقه، وعدم الاقتصار على الكلام ونحوه ـ مما لا يعفى عن الحسد معه ـ حصل إثمان: إثم الحسد، وإثم التعدي والغصب. وكلما كان الأمر المغصوب أهم، كان الإثم أعظم، كما هو ظاهر.

فكيف ترى أن هذه النزعات غير مؤاخذ عليها شرعاً، مع أنك فرضت أنها قد تسببت بالآخرة إلىاستلاب هذا المنصب الإلهي الرفيع من صاحبه الشرعي،حسب اعتقاد الشيعة؟!

بقي شيء. وهو أنك تقول في آخر سؤالك هذا: ((أو غير ذلك من الأمور التي ارتضوها فيما بينهم في توليهم للخلافة)).

وكأنك تريد أن تقول: إن صاحب الحق إذا رضي بأخذ حقه ساغ للغير أخذه، ونفذ فعله. والكلام حول ذلك يأتي في جواب السؤال الثالث، إن شاء الله تعالى.

ــــــــــ

(1) سورة المجادلة الآية: 22.

(2) سورة البينة الآية: 7 ـ 8.

(3) الفصل في الملل والنحل ج:4 ص:125 الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة. منهاج السنة النبوية ج:6 ص:205.

(4) امتاع الأسماع ص:605. المغازي للواقدي ج:2 ص:610.

(5) سورة النساء الآية: 32.

(6) وسائل الشيعة ج:11 ص:294 باب: 55 من أبواب جهاد النفس حديث:15.

(7) مسند أحمد ج:1 ص:164 مسند الزبير بن العوام (رضي الله عنهم) ، واللفظ له. سنن الترمذي ج:4 ص:663، 664  كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : في باب لم يعنونه. مجمع الزوائد ج:8 ص:30 كتاب الأدب: باب ما جاء في السلام وإفشائه. السنن الكبرى للبيهقي ج:10 ص:232 كتاب الشهادات: جماع أبواب من تجوز شهادته ومن لا تجوز من الأحرار البالغين العاقلين المسلمين: باب شهادة أهل العصبية. مسند البزار ج:6 ص:192 فيما رواه يعيش بن الوليد مولى ابن الزبير عنه. مسند الشاشي ج:1 ص:114. مسند الطيالسي ج1: ص:27 في أحاديث الزبير بن العوام. وغيرها من المصادر الكثيرة. 

(8) سنن أبي داود ج:4 ص:276 كتاب الأدب: باب في الحسد. سنن ابن ماجة ج:2 ص:1408 كتاب الزهد: باب الحسد. مصنف ابن أبي شيبة ج:5 ص:330 كتاب الأدب: ما جاء في الحسد. مسند أبي يعلى ج:6 ص:330 فيما رواه أبو الزناد عن أنس. مسند عبد بن

حميد ص:418. مسند الشهاب ج:2 ص:136 الباب السابع: إن الحسد ليأكل الحسنات. جامع العلوم والحكم ص:327 . شعب الإيمان ج:5 ص:266  الثالث والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في الحث على ترك الغل والحسد. تفسير القرطبي ج:5 ص:251. مصباح الزجاجة ج:4 ص:238 كتاب الزهد: باب الحسد. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(9) وسائل الشيعة ج:11 ص:294 باب:49 من أبواب جهاد النفس حديث:1.