الكلام في إمضاء الأمر الواقع وإضفاء الشرعية عليه

2 ـ وإن أردت من الإقرار الرضا بما حصل، وإضفاء الشرعية على حكم الأولين، بحيث يخرجون عن كونهم غاصبين معتدين. كما لو تنازل المالك وصاحب الحق عن ملكه وحقه لغيره، بحيث له تملكه منه وتمتعه به، فيرد ذلك أمران:

 

تعيين الخلافة بأمر من الله تعالى وليس للإمام التنازل عنها

(الأول): أن حقهم (صلوات الله عليهم) في الخلافة ـ حسبما تقتضيه أدلة الشيعة ـ إنما كان بتعيين من الله تعالى، ونص منه جل شأنه، وليس لهم  (عليه السلام)  بعد ذلك جعله في غير موضعه، وإضفاء الشرعية عليه. بل لا يحق ذلك حتى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . فإنه ردّ على الله تعالى، وتلاعب بفرائضه.

وقد ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  لما عرض نفسه على قبائل العرب، قبل الهجرة، لينصروه، كان فيمن عرض نفسه عليهم بنو عامر، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن تابعناك، فأظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك!

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء))(1).

وفي حديث عبادة: ((بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  على السمع والطاعة... وأن لا ننازع الأمر أهله، ونقوم بالحق حيث كان، ولا نخاف في الله لومة لائم))(2). لظهوره في أن للأمر والخلافة أهلاً يحرم منازعتهم.

وفي حديث عمرو بن الأشعث: ((سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)  يقول: أترون الموصي منا يوصي إلى من يريد؟! لا والله، ولكن عهد من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)  لرجل فرجل، حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه))(3).

وفي حديث محمد بن الفضيل عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : ((في قول الله عزوجل: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)) قال: هم الأئمة. يؤدي الإمام إلى الإمام من بعده، ولا يخص بها غيره، ولا يزويها عنه))(4).

وفي حديث يزيد بن سليط عن الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)  المتضمن لنصه على إمامة ولده أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)  من بعده، قال: ((أخبرك يا أبا عمارة، إني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان، وأشركت معه بني في الظاهر، وأوصيته في الباطن، فأفردته وحده. ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم ابني، لـحبي إياه، ورأفتي عليه. ولكن ذلك إلى الله عزوجل، يجعله حيث يشاء...))(5).

والأحاديث في ذلك عنهم (صلوات الله عليهم) كثيرة جداً(6).

 

انحصار الأهلية للمنصب بمن عينه الله تعالى له

ولاسيما وأن الله سبحانه لم يجعلها فيمن جعلها فيه إلا لانحصار الأهلية به، وعدم صلاحية غيره لها. ويكفينا في التعرف على الآثار والفوائد المهمة التي تترتب لو ولي الخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، الذي يدعي الشيعة النص عليه..

1 ـ حديث الكتاب الذي أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  في مرضه الذي توفي فيه أن يكتبه لأمته، ليعصمها من الضلال. وقد تقدم الحديث عنه في جواب السؤال الثاني من الأسئلة السابقة. فإن الشواهد قاضية بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم)  أراد أن يثبت فيه خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)  بنحو يسد فيه الطريق على من يخالفه. ويأتي عن عمر الاعتراف بذلك. وأي شيء أهم من العصمة من الضلال؟

2 ـ كلام الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حول ما خسره المسلمون بعدولهم بالخلافة عنه (عليه السلام) ، حيث قالت في خطبتها الصغرى: ((وما الذي نقموا من أبي حسن، نقموا والله نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله. وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  لأعتلقه، ولسار إليهم سيراً سجحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً يطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، قد تحير (كذا وردت في المصدر) بهم الرأي. غير متحل بطائل إلا بغمز الناهل، وردعه سورة الساغب. ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض. وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.

ألا هلم فاستمع، وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث. إلى أي لجأ استندوا؟ وبأي عروة تمسكوا؟ لبئس المولى ولبئس العشير، ولبئس للظالمين بدلاً.

استبدلوا والله الذنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل. فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ((ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)). ويحهم ((أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)).

أما لعمر الله لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوها طلاع العقب دماً عبيطاً، وذعاقاً ممقراً. هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون. ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وابشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً...))(7).

ولها (عليها السلام)  كلام آخر في خطبتها الكبرى يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

3 ـ حديث أبي عمر الجوني، قال: ((قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر: كرداذ وناكرداذ ـ أي عملتم وما عملتم ـ لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم))(8).

4 ـ وفي حديث حبيب بن أبي ثابت، قال: ((قال سلمان يومئذٍ: أصبتم ذا السن منكم، وأخطأتم أهل بيت نبيكم. لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغداً))(9).

وهو المناسب لما يأتي في جواب السؤال الرابع من الحديث عما يسمى بحروب الردة.

5 ـ ومثله في ذلك حديث أبي لهيعة: ((أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  لما مات وأبو ذر غائب، وقدم، وقد ولي أبو بكر. فقال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة. لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان))(10).

وفي كلام آخر لأبي ذر في أيام عثمان: ((أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري. أنا جندب بن جنادة الربذي "إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم". محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم. هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية، أضاء زيتها، وبورك زيدها (زندها.ظ). ومحمد وارث علم آدم، وما فضل به النبيون. وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها، أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم، من كتاب الله وسنة نبيه. فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"))(11).

6 ـ وفي حديث عمر مع أمير المؤمنين  (عليه السلام)  في ضمن حديثه مع أصحاب الشورى: ((أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء))(12).

وأي مغنم للإسلام والمسلمين أعظم من ذلك؟! ... إلى غير ذلك مما ورد على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأهل البيت (عليهم السلام) وبقية المسلمين.

حيث يكشف ذلك عن كفاءة المنصوص عليه للمنصب، بنحو لا يمكن قيام غيره مقامه، ليمكن إضفاء الشرعية على حكمه، واعتزال المنصوص عليه له، لو كان له الحق في الاعتزال.

ــــــــــــــــــــ

(1) الثقات ج:1 ص:89 ـ 90 ذكر عرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  نفسه على القبائل، واللفظ له. تاريخ الطبري ج:1 ص:556 ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله (صلى الله عليه وسلم)  عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل (عليه السلام)  إليه بوحيه. السيرة النبوية لابن هشام ج:2 ص:272 عرضه (صلى الله عليه وسلم)  نفسه على بني عامر. البداية والنهاية ج:3 ص:139 فصل في عرض رسول الله  (صلى الله عليه وسلم)  نفسه الكريمة على أحياء العرب. السيرة الحلبية ج:2 ص:3. الكامل في التاريخ ج:1 ص:609 ذكر وفاة أبي طالب وخديجة وعرض رسول الله نفسه على العرب. الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء ص:304.

(2) مسند أحمد ج:3 ص:441 حديث عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه (رضي الله عنهما)، واللفظ له. السنن الكبرى للبيهقي ج:8 ص:145 كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة: باب كيفية البيعة. السنن الكبرى للنسائي ج:4 كتاب البيعة ص:421 البيعة على السمع والطاعة، ص:422 البيعة على القول بالعدل، وج:5 ص:211،212 كتاب السير: البيعة. مسند ابن الجعد ص:261 شعبة عن سيار بن أبي سيار أبي الحكم العنزي. سير أعلام النبلاء ج:2 ص:7 في ترجمة عبادة بن الصامت. تذكرة الحفاظ ج:3 ص:1131 في ترجمة ابن عبد البر. تاريخ دمشق ج:26 ص:196 في ترجمة عبادة بن الصامت. صحيح ابن حبان ج:10 ص:413 باب بيعة الأئمة وما يستحب لهم: ذكر البيان بأن النصح لكل مسلم في البيعة التي وصفناها كان ذلك مع الإقرار بالسمع والطاعة. مسند أبي عوانة ج:4 ص:407 بيان حظر منازعة الإمام أمره وأمر أمرائه ووجوب طاعتهم.

(3) الكافي ج:1 ص:278 باب أن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود من واحد إلى واحد (عليهم السلام)  حديث:2.

(4) الكافي ج:1 ص:276 ـ 277 باب أن الإمام (عليه السلام)  يعرف الإمام الذي يكون من بعده وأن قول الله تعالى ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)) فيهم (عليهم السلام)  نزلت حديث:3.

(5) الكافي ج:1 ص:314 باب: الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)  حديث:14.

(6) راجع الكافي ج:1 ص:276 ـ 281، وغيره.

(7) شرح نهج البلاغة ج:16 ص:233 ـ 234، واللفظ له. بلاغات النساء لابن طيفور ص:20

في كلام فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عليه السلام)  لابن الدمشقي ج:1 ص:165 ـ 169.

(8) أنساب الأشراف ج:2 ص:274 أمر السقيفة.

(9) شرح نهج البلاغة ج:2 ص:49، واللفظ له، وج:6 ص:43.

(10) شرح نهج البلاغة ج:6 ص:13.

(11) تاريخ اليعقوبي ج:2 ص:171 في أيام عثمان بن عفان.

(12) شرح نهج البلاغة ج:1 ص:186، واللفظ له. ويوجد هذا المعنى بألفاظ مختلفة في شرح نهج البلاغة ج:6 ص:326، المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:101 كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين عمربن الخطاب (رضي الله عنه) : مقتل عمر (رضي الله عنه)  على الاختصار، والإمامة والسياسة ج:1 ص:26 في تولية عمربن الخطاب الستة الشورى وعهده إليهم، والطبقات الكبرى ج:3 ص:342 في ترجمة عمر: ذكر استخلاف عمر (رحمه الله)، وتاريخ اليعقوبي ج:2ص:158 في أيام عمربن الخطاب،والمصنف لعبدالرزاق ج:5ص:446ـ447 في بيعة أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) في سقيفة بني ساعدة، والأدب المفرد للبخاري ص:204 باب من أحب كتمان السر وأن يجالس كل قوم فيعرف أخلاقهم، وأنساب الأشراف ج:3 ص:14 في بيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وج:6 ص:120 في أمر الشورى وبيعة عثمان (رضي الله عنه) ، والعقد الفريد ج:4 ص:255 فرش كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم: أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان، والفتوح لابن أعثم المجلد الأول ص:324 في ذكر ابتداء مقتل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، وتاريخ المدينة لابن شبة ج:3 ص:882، وغيرها من المصادر.