امتناع عثمان من اعتزال الخلافة مع عدم النص عليه

ومن الطريف أن عثمان قد امتنع من اعتزال الحكم حينما نقم عليه الناس، وطلبوا منه اعتزال أمرهم، محتجاً بأنه لا يخلع قميصاً كساه الله تعالى إياه(1)، مع أنه إنما ولي الحكم ببيعة الناس له، لا بالنص، ومع ذلك يدعي المدعي أن أئمة أهل البيت(صلوات الله عليهم) حتى لو كانوا منصوصاً عليهم لأهليتهم عند الله تعالى دون غيرهم، فإنهم قد اعتزلوا الحكم، وتركوه لغيرهم، ورضوا بحكمه وأقروه!!

ويؤكد ذلك في المقام..

 

إمضاء ما حصل مستلزم لضياع معالم الحق على الناس

(أولاً): أن استيلاء الأولين لم يكن مبنياً على أخذ الحق من صاحبه مع الاعتراف بكونه صاحب الحق، بل على عدم الاعتراف لصاحب الحق بحقه، تجاهلاً للنص عليه، ولدعوى أن الخلافة لقريش عامة، أو لمن عدا بني هاشم منهم، لأنه لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد، أو لغير ذلك.

وعلى ذلك فإمضاء ما حصل، وإقرار خلافة المستولين، مستلزم لتحريف حكم الله تعالى، وضياع معالم الحق على الناس.

كيف؟! وقد ضاع ذلك على الجمهور، فاعتقدوا عدم النص، بسبب استيلاء المستولين، وأغفلوا أو تغافلوا عن النص، مع وجوده، ووجود طائفة كبيرة تعتقد به، وتعلن عنه، وتؤكد عليه، تقوم بسببها الحجة على الناس، فكيف يكون الحال لو أقر الأئمة(صلوات الله عليهم) ما حصل، وأعلنوا شرعيته، وسكتوا هم وشيعتهم عن الإنكار عليه؟!

وقد ذكر المجلسي (قدس سره)  عن كتاب الاستدراك، قال: ((ذكر عيسى ابن مهران في كتاب الوفاة(2) بإسناده عن الحسن بن الحسين العرني، قال: حدثنا مصبح العجلي، عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن مجاهد،  عن ابن عمر. قال: لما ثقل أبي أرسلني إلى علي (عليه السلام)  فدعوته، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن إني كنت ممن شغب عليك، وأنا كنت أولهم، وأنا صاحبك، فأحب أن تجعلني في حِلّ. فقال: نعم، على أن تدخل عليك رجلين، فتشهدهما على ذلك.

قال: فحول وجهه إلى الحائط، فمكث طويلاً، ثم قال: يا أبا الحسن ما تقول؟ قال: هو ما أقول لك. قال: فحول وجهه.. فمكث طويلاً. ثم قام فخرج.

قال: قلت: يا أبة قد أنصفك، ما عليك لو أشهدت له رجلين؟ قال: يا بني، إنما أراد أن لا يستغفر لي رجلان من بعدي))(3).

وهذه الرواية وإن كنا لا نتعهد بصحتها، إلا أنه قد يناسبها ما ذكره المؤرخون لقصة الشورى، من أن عمر  قد ثلب جماعة الشورى(4)بما يناسب إبعادهم عن الخلافة،ولم يطعن في أمير المؤمنين إلا بأنه ذو دعابة(5)، مع تصريحه بأنه لو وليهم لـحملهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء، كما سبق، وهو مناسب لتقريبه من الخلافة وترشيحه لها.

بل قال الطبري: ((فخرجوا ثم راحوا، فقالوا: يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً. فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر، فأولي رجلاً أمركم، هو أحرى أن يحملكم على الحق ـ وأشار إلى علي ـ ورهقتني غشية، فرأيت رجلاً يدخل جنة، قد غرسها، فجعل يقطف كل غضة يانعة، فيضمه إليه، ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب أمره ومتوف عمر. فما أريد أن أتحملها حياً وميتاً. عليكم هؤلاء الرهط...)). ثم ذكر تدبير عمر في أمر الشورى بما هو معروف مشهور(6).

حيث يبدو بوضوح تدافع كلامه، لأنه بالآخرة قد تحملها بتدبيره في الشورى بما يؤدي إلى تعيين عثمان. فلا يبعد أن يكون عزمه أولاً على استخلاف أمير المؤمنين (عليه السلام)  إنما كان أملاً في أن يجعل ذلك جزاء منه لتحليل أمير المؤمنين (عليه السلام)  له مما فعل معه، فلما أيس من ذلك ـ كما تضمنته الرواية المتقدمة ـ قلب له ظهر المجن، فقرنه بجماعة من هوان الدنيا على الله تعالى أن يقرن (عليه السلام)  بهم، ثم دبر الأمر ضده، وسد الطريق عليه بتعيين عثمان، ومن ورائه عشيرته التي لا تتورع عن شيء في سبيل الاستيلاء على مواقع القوى، والحيلولة دون وصول أمير المؤمنين (عليه السلام)  وأهل بيته للحكم بعد ذلك.

وقد فعل عمر ذلك إما حباً منه لعثمان، وإما إعراضاً منه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لضغنه عليه قديماً، أو لأنه لم يحله، وإما لأنه خشي أن تنكشف الحقيقة، وتظهر ظلامة أهل البيت(عليهم السلام)  بوصولهم للحكم، وسماع الناس لصوتهم.

وعلى كل حال سواءً صدقت هذه الرواية أم لم تصدق، فما تضمنته من اهتمام أمير المؤمنين (عليه السلام)  برفع الالتباس في أمر الخلافة، وظهور حكم الله تعالى فيها للناس، أمر لاريب فيه. وهو من أقوى الموانع من إقراره (عليه السلام)  خلافة الأولين، وإضفاء الشرعية عليها، لو كان من حقه ذلك.

 

مبدئية الإسلام لا تناسب تبعية الشرعية الإلهية للقهر والقوة

(وثانياً): أن مبدئية الإسلام، وشرف رسالته، ومثالية تعاليمه، لا تناسب تبعية الشرعية الإلهية للقوة، وقهر أصحاب الحق في استلاب حقهم، خصوصاً في مثل حق الخلافة، الذي يحظى بمقام رفيع، وقدسية عالية، في التشريع الإسلامي. ولاسيما إذا كانت دوافع القهر والاستيلاء على الحق المذكور نزعات مصلحية، كالحسد ونحوه مما تقدم التعرض له في السؤال الثاني.

نعم قد تضمنت تعاليم الديانتين: اليهودية والنصرانية المعاصرتين، تبعية القدسية الإلهية والمناصب الدينية للقهر والقوة، والكذب والتحايل، في قصص خرافية حسبت على الدينين الإلهيين، نتيجة التحريف والتضليل الذي لحقهما. ولاريب في نزاهة الدينين المذكورين في حقيقتهما عن ذلك، فكيف بدين الإسلام العظيم الذي هو خاتم الأديان، والقمة في الكمال التشريعي والمثالية والمبدئية؟!

والحاصل: أنه بعد فرض ثبوت الحق لأئمة أهل البيت(صلوات الله عليهم)، نتيجة النص الإلهي ـ كما تقول الشيعة ـ لا مجال لإقرارهم (عليهم السلام)  ما حصل من الأولين في أمر الخلافة، وإضفاء الشرعية عليه، لمنافاة ذلك للنص الإلهي، ولما يستلزمه من تضييع الحقيقة والتلبيس عليها، ولمجافاته لمبدئية التشريع المقدس ومثاليته.

 

يحق للخليفة أن يستنيب غيره في إدارة الأمة

نعم يحق للخليفة الشرعي أن يستنيب غيره عنه في إدارة الأمور في بلادٍ خاصة، أو في حالات خاصة، على أن يكون ذلك الغير نائباً عنه، تحت أمره ونظره، مع كونه هو الخليفة، لا على أن يكون ذلك الغير هو الخليفة بدلاً عنه، بالتنازل من الخلافة، أو هبتها، أو بيعها، أو نحو ذلك. ومن المعلوم أن ذلك لم يحصل مع الأولين ولا مع غيرهم، وإنما استولوا على الحكم على أنهم هم الخلفاء الحاكمون، وعلى أن الأئمة من أهل البيت رعية محكومون.

 

الشيعة على بصيرة تامة من عدم تنازل الأئمة (عليهم السلام) عن حقهم

(الثاني): أن الشيعة على بصيرة تامة من أن الأئمة (صلوات الله عليهم) لم يتنازلوا عن حقهم، بل لم يزالوا في عهودهم يشكون من غصب حقهم، ويؤكدون ظلامتهم،  ويتنمرون ممن ظلمهم، ويبرؤون منه، ويوالون على ذلك، ويرونه من تتمة الدين الذي يجب التمسك به، وتتوقف النجاة عليه.

وأحاديث الشيعة التي رووها في ذلك عن أئمتهم أكثر من أن تحصى، تتجاوز حدّ الاستفاضة والتواتر بمراتب. حتى بلغ الحال أن صار ذلك من ضرورات مذهبهم، لا يختلفون فيه، ولا يحيدون عنه. 

ــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري ج:2 ص:675 في أحداث سنة خمس وثلاثين: ذكر الخبر عن قتله (أي عثمان) وكيف قتل. الكامل في التاريخ ج:3 ص:67 في أحداث سنة خمس وثلاثين: ذكر مقتل عثمان. المنتظم ج:5 ص:55 في أحداث سنة خمس وثلاثين: خروج أهل مصر ومن وافقهم على عثمان (رضي الله عنه) . تاريخ دمشق ج:39 ص:438 في ترجمة عثمان بن عفان.

(2) قال الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)  في كتاب الفهرست: ((عيسى بن مهران المعروف بالمستعطف. يكنى أبا موسى. له كتاب الوفاة تصنيفه. أخبرنا به جماعة عن التلعكبري عن ابن همام عن أحمد بن محمد بن موسى النوفلي عنه. وذكر له ابن النديم من الكتب كتاب مقتل عثمان...))/ الفهرست باب عيسى ص:142. وقال النجاشي: ((عيسى بن مهران المستعطف يكنى أبا موسى. له عدة كتب. منها كتاب مقتل عثمان... وكتاب الوفاة، وكتاب الكشف...)) / الرجال باب عيسى ص:297.

(3) بحار الأنوار ج:30 ص:142 باب ما أظهر أبو بكر وعمر من الندامة على غصب الخلافة عند الموت حديث:10، واللفظ له، و ج:8 ص:206 الطبعة الحجرية كمبني.

(4) الاستيعاب ج:3 ص:1119 في ترجمة علي بن أبي طالب. الإمامة والسياسة ج:1 ص:26 تولية عمر بن الخطاب الستة الشورى وعهده إليهم. كتاب الآثار ص:217. أنساب الأشراف ج:6 ص:121 أمر عثمان بن عفان: أمر الشورى وبيعة عثمان (رضي الله عنه) . تاريخ المدينة لابن شبة ج:3 مقتل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)  وأمر الشورى ص:880، 881، 882، 883. شرح نهج البلاغة ج:6 ص:326. كنز العمال ج:5 ص:740 حديث:14266، ص:742 حديث:14267.الفائق في غريب الحديث ج:3 ص:168. غريب الحديث لابن سلام ج:3 ص:331، في مادة قنب. الفتوح لابن أعثم المجلد الأول ص:324 ذكر ابتداء مقتل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) .

(5) الاستيعاب ج:3 ص:1119 في ترجمة علي بن أبي طالب. العقد الفريد ج:4 ص:262 فرش كتاب العسجدة الثانية: في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم: أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان. أنساب الأشراف ج:6 ص:121 أمر عثمان بن عفان: أمر الشورى وبيعة عثمان (رضي الله عنه) . تاريخ المدينة لابن شبة ج:3 ص:880 مقتل عمر بن الخطاب ضض  وأمر الشورى. شرح

نهج البلاغة ج:6 ص:326 ـ327. كنز العمال ج:5 ص:740 حديث:14266، ص:742 حديث:14267.الفائق في غريب الحديث ج:3 ص:168. غريب الحديث لابن سلام ج:3 ص:331، في مادة قنب. الفتوح لابن أعثم المجلد الأول ص:324 ذكر ابتداء مقتل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) .

(6) تاريخ الطبري ج: 2 ص: 580 وما بعدها قصة الشورى. وسقطت كلمة (ورهقتني) من تاريخ الطبري في برنامج الألفية، فألحقناها اعتماداً على الطبعة الموجودة في برنامج المعجم الفقهي.