حفظ الشيعة لتراث أئمتهم(عليهم السلام) يشهد باختصاصهم بهم

وإذا كابر المكابر مع كل ذلك، فأنكر اختصاص الشيعة بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وتفاعلهم معهم، وكذب أحاديثهم عنهم، فماذا يقول عن الكمّ الهائل من الأدعية(1)، والزيارات(2) ـ على اختلاف مضامينها ومناسباتها الكثيرة ـ والحكم، والمواعظ، والخطب، ونحوها مما يفيض بالعلم الإلهي؟. تلك الكنوز التي اختص بها الشيعة، وتميزوا بها عن غيرهم. وقد امتازت بلسانها الرفيع، وبيانها الفريد، ومضامينها الشريفة العالية.

فإن المنصف يرى أن الأئمة  (عليهم السلام)  لم يمكنوهم منها، ويخصوهم بها، إلا لاستجابتهم لهم (عليهم السلام)  ورضاهم  (عليهم السلام)  عنهم، وانسجامهم معهم.

ولماذا لم يتلقفها جمهور السنة ويتناقلوها ويرعوها ويحفظوها؟(3)، مع أنهم قد أخذوا من أصناف الناس على اختلاف ميولهم ونزعاتهم، ومن مختلف فنونهم ومعارفهم وثقافاتهم.

وإذا كان القرآن المجيد شاهداً على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  في رسالته عن الله تعالى، فإن تلك الكنوز الثمينة التي رواها الشيعة عن أهل البيت (عليهم السلام)  شاهدة بميراث أهل البيت (عليهم السلام)  من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  معارفه، وتفاعلهم بتعاليمه.

إذ لا ريب في عدم افتراء الشيعة لذلك كله من عند أنفسهم، فإنه يتعذر عادة صدور مثله من مجموعة يبتني كيانها على الكذب والبهتان، ليس لها مرشد يجمعها على حق.

بل يمتنع عادة صدوره من غير أئمة أهل البيت (عليهم السلام)  الذين ورثوا علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأخذوا عنه، وهم (صلوات الله عليهم) ـ كما قالوا ـ أمراء الكلام(4)، وعندهم الحكمة، وفصل الخطاب(5).

كما أن تلك الكنوز الثمينة شاهدة لشيعتهم ـ الذين يحملونها عنهم، ويمتازون بمعرفتها، ويعتزون بها من بين جمهور المسلمين ـ بصدق انتسابهم لأهل البيت (عليهم السلام) ، واختصاصهم بهم، وتفاعلهم معهم، وحملهم علومهم ومعارفهم، وكونهم مورداً لعناية أهل البيت(صلوات الله عليهم) ورعايتهم، ولفيوضاتهم القدسية المباركة الشريفة.

 

تأثر الشيعة بأخلاق الأئمة (عليهم السلام)

ومن الطريف ما ذكره ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة عند ترجمة أمير المؤمنين(صلوات الله عليه). حيث قال: ((وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم، فهو المضروب به المثل فيه، حتى عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة... وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب، لقوله لما عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك، إلا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمجها.

قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد. وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه... وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن. كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك))(6).

فإذا كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام)  قد استطاعوا تكييف الشيعة خلقياً بما يناسب أخلاقهم العالية وسجاياهم الكريمة، في لين الجانب، وسجاحة الخلق، فهم أحرى بأن يعرفوهم مذهبهم في الإمامة والخلافة، ويأمروهم بمتابعتهم فيه.

وإذا كان الشيعة قد تأثروا بهم نفسياً وتفاعلوا معهم خلقياً، فهم أحرى بأن يتابعوهم في أمر الإمامة والخلافة، ولا يخرجوا عن مذهبهم فيها. فإن هذه المسألة علمية محضة، والتعرف عليها أهون بكثير من التفاعل في الأخلاق والسجايا.

ولاسيما مع أن اضطهاد الشيعة على مرّ العصور، وشدة محنتهم، وقسوة الجمهور معهم، من شأنها أن تجعلهم حاقدين معقدين، وتحملهم على الشراسة، ووعورة الجانب، وسوء الخلق، لولا تأثرهم بأئمتهم (عليهم السلام)  وتفاعلهم معهم.

 

مجانبة الجمهور لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)

على أن ملاحظة الواقع القائم بين الأئمة (صلوات الله عليهم) والجمهور تشهد بانعزالهم (عليهم السلام)  عن مجتمع الجمهور العقائدي والثقافي، وعن كيانهم، ومجانبة ذلك المجتمع لهم ـ بعامته وخاصته، من رواته وفقهائه وسائر علمائه ـ خصوصاً الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) ، الذين قويت في عصورهم عقيدة الشيعة الإمامية، وظهرت معالمها بجلاء، وقام فيها للشيعة كيان ظاهر متميز.

والجمهور وإن كانوا يحاولون إنكار ذلك، لما لأهل البيت (عليهم السلام)  من قدسية مفروضة عليهم، إلا أنه أمر لا يقبل الإنكار، بعد كونهم في الأصول بين الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرها، وفي الفروع بين المذاهب الأربعة، بل أكثر من ذلك فيما سبق، من دون أن يعرجوا على أهل البيت(صلوات الله عليهم)  أو ينتسبوا إليهم.

وقد تميز أهل البيت(صلوات الله عليهم) بكثير من الأقوال والآراء في الفقه والأصول عرفت عنهم، وعزف عنها الجمهور، ولم يتمسك بها غير شيعتهم.

 

موقف الجمهور من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ومن أعدائهم

كما أن الجمهور بوجهتهم العامة يوالون من حارب أهل البيت (عليهم السلام)أو نال منهم ويحترمونهم، ويحتجون برواياتهم ويتجاهلون ما صدر منهم، أو يحاولون الدفاع عنه وتوجيهه والاعتذار له، مع أنهم يقفون من شيعة أهل البيت (عليهم السلام)  لمجانبتهم الأولين أشد المواقف وأقساها. كل ذلك لأنهم لا يتفاعلون مع أهل البيت (عليهم السلام)  تفاعلهم مع الأولين، ولا يوالونهم ويتبنونهم كما يوالون الأولين ويتبنونهم.

بل قد يبدو من خاصة الجمهور وعامتهم بعض المواقف القاسية من أهل البيت (عليهم السلام)  في فلتات واندفاعات تكشف عما كمن في صدورهم من دون أن يستطيعوا كتمانه والسيطرة عليه.

ــــــــــــــــــــ

(1) كأدعية كميل، والصباح، والعشرات، المروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ودعاء الحسين يوم عرفة، وأدعية الصحيفة السجادية، ودعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة الثمالي الذي يقرأ في شهر رمضان، وبقية أدعية شهر رمضان في لياليه وأسحاره ونهاره، وأدعية شهري رجب وشعبان، وأدعية ليالي الجمع، وغيرها مما لا يحصى كثرة، ذات المضامين العالية في تمجيد الله تعالى وتقديسه والثناء عليه، والبخوع له والتضاؤل أمامه، والتذلل بين يديه، والرهبة منه، والرجاء له،  والرغبة إليه، واستعطافه واسترحامه، والابتهال إليه والطلب منه، وغير ذلك مما لا يحصى من فنون الدعوات.

(2) كزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام)  المعروفة بزيارة (أمين الله)، وبقية زياراته في مختلف المناسبات، وزيارة وارث، وليلة النصف من شعبان للحسين (عليه السلام) ، وبقية زياراته (عليه السلام)  في مختلف المناسبات، والزيارة الجامعة الكبيرة لجميع الأئمة (عليهم السلام) ، وبقية زيارات المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ذات المضامين العالية الجليلة.

(3) يقول المرجع الديني المعاصر السيد شهاب الدين المرعشي  (قدس سره)  في استدراكه على مقدمة الصحيفة السجادية المطبوعة في حدود سنة 1361 هـ: ((وإني في سنة 1353هـ بعثت نسخة من الصحيفة الشريفة إلى العلامة المعاصر الشيخ جوهري طنطاوي صاحب التفسير المعروف، مفتي الإسكندرية، ليطالعها، فكتب إلي من القاهرة وصول الصحيفة، وشكر لي هذه الهدية السنية، وأطرى في مدحها والثناء عليها، إلى أن قال: ومن الشقاء أنا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد، من مواريث النبوة وأهل البيت. وإني كلما تأملتها رأيتها فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق إلى آخر ما قال.

ثم سأل عني (كذا في المصدر): هل شرحها أحد من علماء الإسلام؟ فكتبت إليه أسامي من شرحه ممن كنت أعلم به. وقدمت لسماحته رياض السالكين للسيد علي خان. وكتب في جواب وصوله: إني مصمم ومشمر الذيل على أن أكتب شرحاً على هذه الصحيفة العزيزة. انتهى)).

فإذا كان الشيخ جوهري طنطاوي، مع موسوعيته، وكثرة اطلاعه، لم يطلع على الصحيفة السجادية مع اشتهارها وشيوع انتشارها بين الشيعة ـ على اختلاف مذاهبهم ـ فكيف بغيره ممن هو أقل منه اطلاعاً، وأضيق أفقاً؟! وكيف يكون الحال مع غير الصحيفة السجادية مما هو دونها ظهوراً وانتشاراً؟!

(4) نهج البلاغة ج:2 ص:266.

(5) بحار الأنوار ج:97 ص:209، ج:28 ص:53.

(6) شرح نهج البلاغة ج:1 ص:25 ـ 26 القول في نسب أمير المؤمنين علي (عليه السلام)  وذكر لمع يسيرة من فضائله.