بعض مواقف علماء الجمهور من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)

1 ـ فهذا الذهبي يقول في ترجمة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) : ((ولقد كان أبو جعفر إماماً مجتهداً، تالياً لكتاب الله، كبير الشأن. ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب))(1).

فانظر إلى هوان الدنيا وامتهانها، حيث انتهى الأمر إلى أن يفضل هؤلاء على الإمام الباقر (عليه السلام) . وله أسوة بجده أمير المؤمنين (عليه السلام)  حيث يقول: ((متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر؟!))(2).

2 ـ وهذا البخاري لم يحتج بالإمام أبي عبد الله جعفربن محمد الصادق (صلوات الله عليه)، ولم يرو عنه في صحيحه(3)، مع أنه روى عن مثل مروان بن الحكم(4)، وعمران بن حطان

الخارجي(5).

وقال: ((وقال لي عبد الله بن أبي الأسود عن يحيى بن سعيد: كان جعفر إذا أخذت منه العفو لم يكن به بأس، وإذا حملته حمل على نفسه))(6)!!

3 ـ وعن يحيى بن سعيد أنه قال: ((أملى عليّ جعفر بن محمد الحديث الطويل (يعني: في الحج) ثم قال: وفي نفسي منه شيء. مجالد أحب إليّ منه))(7).

4 ـ وقال أبو حاتم محمد بن حبان التميمي في ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام) : ((يحتج بروايته ما كان من غير رواية أولاده عنه، لأن في حديث ولده عنه مناكير كثيرة. وإنما مرض القول فيه من مرض من أئمتنا لما رأوا في حديثه من رواية أولاده))(8).

مع أن أولاده (عليهم السلام)  من سادات المسلمين، وفيهم من هم من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

5 ـ ويقول مصعب بن عبدالله الزبيري: ((كان مالك بن أنس لا يروي عن جعفر بن محمد حتى يضمه إلى آخر من أولئك الرفعاء، ثم يجعله بعده))(9).

6 ـ وسئل أحمد بن حنبل عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، فقال: ((قد روى عنه يحيى، ولينه))(10).

7 ـ وقال ابن عبدالبر: ((وكان ثقة مأموناً عاقلاً حكيماً ورعاً فاضلاً. وإليه تنسب الجعفرية. وتدعيه من الشيعة الإمامية. وتكذب عليه الشيعة كثيراً. ولم يكن هناك في الحفظ. ذكر ابن عيينة أنه كان في حفظه شيء))(11).

8 ـ وقال ابن حجر عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ((قال ابن سعد: كان كثير الحديث. ولا يحتج به ويستضعف. سئل مرة: سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم. وسئل مرة فقال: إنما وجدتها في كتبه)) (12).

9 ـ وقال أبو حاتم في ترجمة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) : ((يجب أن يعتبر حديثه إذا روى عنه غير أولاده وشيعته، وأبي الصلت خاصة))(13).

مع أن الإمام الرضا(عليه السلام)  ليس له ولد غير الإمام أبي جعفر محمد الجواد (صلوات الله عليه). وقال: ((يروي عن أبيه العجائب. روى عنه أبو الصلت وغيره. كأنه كان يهم يخطئ))(14).

10 ـ وقال ابن طاهر عن الإمام الرضا (عليه السلام) : ((يأتي عن آبائه بعجائب))(15).

11 ـ وقال النباتي بعد أن استنكر أحاديث نسبها للإمام الرضا (عليه السلام): ((وحق لمن يروي مثل هذا أن يترك ويحذر))(16).

12 ـ وقال ابن خلدون كلمته النابية القاسية: ((وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به. وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة، ورفع الخلاف عن أقوالهم. وهي كلها أصول واهية. وشذّ بمثل ذلك الخوارج. ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم، وحيث كانت دولتهم قائمة...))(17).

وهو وإن أغرق في النيل من أهل البيت (عليهم السلام)  والتعدي عليهم. بل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)   الذي جعلهم مرجعاً لأمته، يعصمهم من الضلال والهلكة. إلا أنه صدق في توضيح موقف الجمهور من أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ومجانبتهم لهم.

كما أنه صار بذلك شاهد صدق للشيعة فيما ينسبونه لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، ويأتمون بهم فيه، بينما يحاول الجمهور أن يكذبوا الشيعة في نسبة ذلك لهم (عليهم السلام) .

وليت شعري إذا كان هؤلاء الأئمة (صلوات الله عليهم) كما يذكر هؤلاء الرجال في العلم، وضعف الحديث، والشذوذ وغير ذلك، فمن هم إذاً الذين جعلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  أماناً لأمته من الضلال والهلكة؟!(18).

هذا سؤال لا ينبغي للعاقل الرشيد أن يهمله، بل عليه أن يجد ويجتهد في التعرف على جوابه، ليصل إلى نتيجة مقنعة، تصلـح عذراً بين يدي الله تعالى يوم يعرض عليه، ويقف بين يديه [يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون](19).

 

بعض مواقف عامة الجمهور من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)

أما عامة الجمهور فقد تبعوا علماءهم في هذا الموقف. وربما اندفعوا ـ تلقائياً أو بدفع من بعض علمائهم ـ اندفاعات طريفة، وأغرقوا في إظهار مجانبتهم لأهل البيت(صلوات الله عليهم)، في مواقف وفعاليات نذكر منها ما يلي..

1 ـ قال ابن الأثير في حوادث سنة 363هـ: ((وكان أبو تغلب قد قارب بغداد، فثار العيارون بها، وأهل الشر بالجانب الغربي، ووقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة. وحمل أهل سوق الطعام ـ وهم من أهل السنة ـ امرأة على جمل، وسموها عائشة، وسمى بعضهم نفسه طلحة، وبعضهم الزبير، وقاتلوا الفرقة الأخرى، وجعلوا يقولون: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب. وأمثال هذا من الشر))(20).

وقال ابن كثير: ((فيها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة. وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد. وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة، وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي. فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير))(21).

2 ـ ويبدو أن الجمهور من السنة حين عجزوا عن منع الشيعة عن إقامة المآتم على سيد الشهداء الإمام الحسين(صلوات الله عليه وسلامه) وزيارته حاولوا مناقضتهم بإقامة شعائر ومآتم يثبتون بها هويتهم.

ولم يخطر في بالهم أن يقولوا للشيعة: نحن أولى بالحسين وبأهل البيت (عليهم السلام)  منكم، ثم يقيموا شعائر العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام)  وزيارته على طريقتهم، وبنحو يناسب عقيدتهم. بل بدلاً من ذلك أقاموا شعائرهم للعزاء على أعداء أهل البيت وتكريمهم.

فعملوا المآتم على مصعب بن الزبير، كما يعمل الشيعة المآتم على الحسين، وزاروا قبره كما زار الشيعة قبر الحسين (عليه السلام) . وداموا على هذا الشعار سنين(22).

ومن الظاهر أن مصعب بن الزبير لا يحمل أي صفة تقتضي الولاء والتقديس. ولا يظهر لنا مبرر لاختياره إلا ما عرف من عداء الزبيريين لأهل البيت (صلوات الله عليهم). فكان ذلك من عامة الجمهور عملاً اندفاعياً يبرز ما كمن في نفوسهم من الانحراف عن أهل البيت (صلوات الله عليهم).

3 ـ وبلغ الاندفاع ضد أهل البيت(صلوات الله عليهم) أشده في الفتنة التي أثارها السنة ضد الشيعة في بغداد، على ما ذكره ابن الأثير، حيث قال: ((وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود. ففرغ أهل الكرخ، وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب: محمد وعلي خير البشر.

وأنكر السنة ذلك، وادعوا أن المكتوب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر. وأنكر أهل الكرخ الزيادة، وقالوا: ما تجاوز ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا.

فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العباسيين، ونقيب العلويين ـ وهو عدنان بن الرضي ـ لكشف الحال وإنهائه. فكتبا بتصديق قول الكرخيين، فأمر حينئذٍ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال، فلم يقبلوا.

وانتدب ابن المذهب القاضي،والزهيري، وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبدالصمد، [أن] يحمل العامة على الإغراق في الفتنة... وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة، فمحوا: (خير البشر) وكتبوا: (عليهما السلام) فقالت السنة: لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي، وأن لا يؤذن: حي على خير العمل. وامتنع الشيعة من ذلك. ودام القتال إلى ثالث من ربيع الأول.

وقتل فيه رجل هاشمي من السنة، فحمله أهله على نعش، وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محال السنة، واستنفروا الناس للأخذ بثأره... .

فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن(23)، فأغلق بابه، فنقبوا سوره، وتهددوا البواب، فخافهم، وفتح الباب، فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل، ومحاريب ذهب وفضة، وستور وغير ذلك، ونهبوا ما في الترب والدور. وأدركهم الليل، فعادوا.

فلما كان الغد كثر الجمع، فقصدوا المشهد، وأحرقوا جميع الترب والآزاج، واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمد بن علي، والجوار، والقبتان الساج اللتان عليهما. واحترق ما يقابلهما ويجاورهما... وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.

فلما كان الغد خامس الشهر عادوا، وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي، لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل. فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر، فجاء الحفر إلى جانبه. وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين والسنة الخبر، فجاؤوا، ومنعوا عن ذلك...))(24).

وما ذكرناه من الشواهد وغيرها مما قد يظهر للباحث المنصف يوضح انفصال الجمهور عن أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ومجانبتهم لهم. ولا منشأ لذلك إلا شعور الجمهور بأن الأئمة (صلوات الله عليهم) يباينونهم عقائدياً، وفقهياً، وثقافياً، كما ذكرنا.

ــــــــــــــــــــ

(1) سير أعلام النبلاء ج:4 ص:402 في ترجمة أبي جعفر الباقر.

(2) نهج البلاغة ج:1 ص: 35.

(3) تذكرة الحفاظ ج:1 ص:167 في ترجمة الإمام جعفر بن محمد الصادق. من تكلم فيه ص:60. سير أعلام النبلاء ج:6 ص:269 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق. الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم ص:75. ميزان الاعتدال ج:2 ص:144 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق. المغني في الضعفاء ص:134. تهذيب التهذيب ج:2 ص:90 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق. وغيرها.

(4) صحيح البخاري ج:1 ص:265 كتاب صفة الصلاة: باب القراءة في المغرب، ج:2 ص:567 كتاب الحج: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، ج:2 ص: 810  كتاب الوكالة: باب إذا وهب شيئاً لوكيل أو شفيع قوم جاز لقول النبي (صلى الله عليه وسلم)  لوفد هوازن حين سألوه المغانم فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)  نصيبي لكم، ج:3 ص:1042 كتاب الجهاد والسير: باب قول الله تعالى[لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر... إلى قوله غفوراً رحيماً]، ج:3 ص:1362 كتاب فضائل الصحابة: باب مناقب الزبيربن العوام (رضي الله عنه) ، ج:4 ص:1532 كتاب المغازي: باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى[لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة]، ج:4 ص:1677 كتاب التفسير: باب لايستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، ج:5 ص:2039 كتاب الطلاق: باب قول الله تعالى [والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء].

(5) صحيح البخاري ج:5  كتاب اللباس ص:2194 باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، ص:2220 باب نقض الصور. 

(6) التاريخ الكبير ج:2 ص:198 في ترجمة جعفر بن محمد بن علي.

(7) سير أعلام النبلاء ج:6 ص:256 في ترجمة جعفر بن محمدالصادق، واللفظ له. الكامل في ضعفاء الرجال ج:2 ص:131، 132 ـ133 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق. تهذيب التهذيب ج:2 ص:88 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق. تهذيب الكمال ج:5 ص:76 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق.

(8) الثقات ج:6 ص:131 ـ 132 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق، واللفظ له. وتجده في نصب الراية ج:2 ص:413، وتهذيب التهذيب ج:2 ص:88 مع اختلاف يسير.

(9) تهذيب الكمال ج:5 ص:76 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق. الكامل في ضعفاء الرجال ج:2 ص:131 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق.

(10) العلل ومعرفة الرجال ص:52. بحرم الدم ص:97.

(11) التمهيد لابن عبد البر ج:2 ص:66 في ترجمة جعفر بن محمد بن علي.

(12) تهذيب التهذيب ج:2 ص:88 في ترجمة جعفر بن محمد الصادق.

(13) الثقات ج:8 ص:456 في ترجمة علي بن موسى الرضا.

(14) المجروحين ج:2 ص:106 في ترجمة علي بن موسى الرضا، واللفظ له. تهذيب التهذيب ج:7 ص:339 في ترجمة علي بن موسى الرضا. سير أعلام النبلاء ج:9 ص:389 في ترجمة علي الرضا.

(15) المغني في الضعفاء ج:2 ص:456، واللفظ له. ميزان الاعتدال ج:5 ص:192 في ترجمة علي بن موسى الرضا.

(16) تهذيب التهذيب ج:7 ص:339 في ترجمة علي بن موسى الرضا.

(17) مقدمة ابن خلدون ج:1 ص:446 الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من فرائض.

(18) كما تضمنه حديث الثقلين وحديث: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من تخلف عنها غرق، وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي يأتي التعرض لبعضها في المواضع المناسبة من حوارنا هذا.

(19) سورة الدخان الآية:41.

(20) الكامل في التاريخ ج:7 ص:340 في أحداث سنة ثلاث وستين وثلاثمائة: ذكر استيلاء بختيار على الموصل وما كان من ذلك.

(21) البداية والنهاية ج:11 ص:275 في أحداث سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.

(22) البداية والنهاية ج:11 ص:326 في أحداث سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، ص:332 في أحداث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. الكامل في التاريخ ج:8 ص:10 في أحداث سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.

(23) وهو مشهد الإمامين أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم، وأبي جعفر محمد بن علي الجواد (صلوات الله عليهما). وفيه قبورهما.

(24) الكامل في التاريخ ج:8 ص:301 ـ 302 في ذكر الفتنة بين العامة ببغداد وإحراق المشهد (على ساكنيه السلام)، من حوادث سنة: 443.