موقف الإمام الحسن (عليه السلام)  في أمر الخلافة

وهذا الإمام أبي محمد الحسن السبط (صلوات الله عليه) ـ على ما عرف عنه من صبر وحلم ومسالمة ـ لم يغفل التنبيه على حق أهل البيت(صلوات الله عليهم) في الخلافة وأبدى استنكاره لما

حدث مراراً..

1 ـ فقد اشتهر عنه (عليه السلام)  أنه قال لأبي بكر وهو على المنبر: ((انزل عن منبر أبي))(1).

2 ـ وقال (عليه السلام)  في كتاب له إلى معاوية حينما بويع (عليه السلام)  بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) : ((أما بعد فإن الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم)  رحمة للعالمين... فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعده، فقالت قريش: نحن عشيرته وأولياؤه، فلا تنازعونا سلطانه، فعرفت العرب لقريش ذلك، وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب. فهيهات ما أنصفتنا قريش...))(2).

وقد رأى معاوية أن ذلك نقطة ضعف ينكرها على الإمام الحسن (عليه السلام) ، فقال في جواب كتابه المتقدم: ((أما بعد فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله. وذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبي عبيدة الأمين، وصلحاء المهاجرين، فكرهت لك ذلك...))(3).

3 ـ وقال (عليه السلام)  في كتاب آخر له إلى معاوية أيضاً: ((أما بعد فإن الله جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين... فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم، وسلمت إليهم. ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها, إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلما صرنا ـ أهل بيت محمد وأولياءه ـ إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد الله وهو الولي النصير.

وقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا من منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله...))(4).

ولم يترك معاوية ذلك حتى قال في جواب هذا الكتاب: ((وذكرت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنازع المسلمين الأمر بعده، وتغلبهم على أبيك، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك، إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ولا المسيء ولا اللئيم. وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل...))(5).

4 ـ وقال ابن الأثير عن الإمام الحسن (عليه السلام) : ((ولما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس، فقال: أيها الناس، إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه))(6).

فانظر إليه (عليه السلام)  كيف أكد أن الإمرة على الناس حق لأهل البيت (عليه السلام) ، بنحو أثار عواطفهم حتى بكوا لظلامتهم.

 

موقف الإمام الحسين (عليه السلام)  في أمر الخلافة

أما الإمام أبو عبد الله الحسين السبط (صلوات الله عليه)، فقد جرى على سنن أهل بيته في التذكير بحقهم..

1 ـ فقد أنكر على عمر وهو على المنبر فقال: ((انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك))، فقال له عمر: إن أبي لم يكن له منبر(7).

بل في حديث عبد الله بن كعب: ((إن حسين بن علي (رضي الله عنهما)  قام إلى عمر (رضي الله عنه) ، وهو على منبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  يخطب الناس يوم الجمعة. فقال: انزل عن منبر جدي. فقال عمر (رضي الله عنه) : تأخر يا ابن أخي. قال: وأخذ حسين برداء عمر (رضي الله عنه) ، فلم يزل يجبذه، ويقول: انزل عن منبر جدي، وتردد عليه حتى قطع خطبته، ونزل عن المنبر، وأقام الصلاة... وحسين (رضي الله عنه)  يومئذِ دون المحتلم))(8). 

2 ـ وقد تقدم منه (عليه السلام)  في جواب السؤال الثاني قوله في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية: ((وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة

جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)).

منبهاً بذلك إلى أن السيرة الرشيدة التي ينبغي أن تتبع هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأمير المؤمنين (عليه السلام)  دون سيرة غيرهما ممن تسنم السلطة.

وربما يكون بذلك قد أضعف موقفه مادياً، حيث يخسر تأييد من يوالي الأولين، ويفقد تعاطفهم معه، وهم في وقت نهضته (عليه السلام)  كثيرون، ويتعرض لتهريج الأمويين، الذين يعدون ذلك نقطة ضعف على أهل البيت (عليه السلام) ، نظير ما تقدم من معاوية في كتابيه للإمام الحسن(صلوات الله عليه)، وما تقدم ويأتي منه فيما كتبه لأمير المؤمنين(عليه أفضل الصلاة والسلام).

ولكن الإمام الحسين (عليه السلام)  رأى أن التأكيد على مبادئ أهل البيت (عليهم السلام) ، ومذهبهم في الحكم والسلطة، أهم من القوة المادية، وتكثير المؤيدين له والمتعاطفين معه.

3ـ وكذلك فعل (صلوات الله عليه) حينما كتب من مكة المكرمة إلى جماعة من رؤساء البصرة كتاباً واحداً يقول فيه: ((أما بعد فإن الله اصطفى محمداً (صلى الله عليه وسلم)  على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به (صلى الله عليه وسلم) . وكنا أهله، وأولياءه، وورثته، وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه...))(9).

وكلامه (عليه السلام)  هذا ـ كما ترى ـ صريح في التأكيد على حقهم (عليه السلام)  في الخلافة، وفي أن رضاهم (عليهم السلام)  بما حصل إنما كان كراهة للفرقة وطلباً للعافية، لا لأنهم تنازلوا عن حقهم لغيرهم، ورضوا بتوليه له، وأمضوا حكمه،لأنهم يرونه أهلاً له.

 

موقف الإمام زين العابدين (عليه السلام)  في أمر الخلافة

وقد جرى الإمام أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)  على سنن آبائه (صلوات الله عليهم) في التأكيد على حقهم (عليهم السلام) ، وشجب من استأثر عليهم به في مواضع من أدعيته الشريفة.

1 ـ فقد قال (عليه السلام)  في الدعاء الثامن والأربعين من أدعية الصحيفة الكاملة ليوم الأضحى ويوم الجمعة: ((اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها، قد ابتزوها... حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين، يرون حكمك مبدلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة. اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين، ومن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم)).

وهو صريح في التظلم مما حصل من استلاب الحق واغتصاب المنصب، وما أدى إليه من تحريف في مسيرة الدين وأحكامه، من دون أن يستثني أحداً. بل ذيله كالصريح في التعميم.

2 ـ وقال (عليه السلام)  في الدعاء السادس والعشرين من أدعية الصحيفة المذكورة يدعو به لجيرانه وأوليائه إذا ذكرهم: ((اللهم صل على محمد وآله، وتولني في جيراني وموالي العارفين بحقنا، والمنابذين لأعدائنا، بأفضل ولايتك ، ووفقهم لإقامة سنتك...)).

3 ـ وقال (عليه السلام)  في الدعاء السابع والأربعين من أدعية الصحيفة المذكورة ليوم عرفة: ((اللهم إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علماً لعبادك، ومناراً في بلادك، بعد أن وصلت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذرت معصيته، وأمرت بامتثال أوامره، والانتهاء عند نهيه، وأن لا يتقدمه متقدم، ولا يتأخر عنه متأخر، فهو عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وعروة المتمسكين، وبهاء العالمين... اللهم وصل على أوليائهم المعترفين بمقامهم، المتبعين منهجهم، المقتفين آثارهم، المستمسكين بعروتهم، المتمسكين بولايتهم، المؤتمين بإمامتهم، المسلمين لأمرهم، المجتهدين في طاعتهم، المنتظرين أيامهم، المادين إليهم أعينهم، الصلوات المباركات الزاكيات الناميات الغاديات الرائحات...)).

وهاتان الفقرتان وإن لم يتضمنا التظلم من غصب المنصب، إلا أنهما قد تضمنتا الدعاء لأوليائهم (عليهم السلام)  بجهات الخير في الدنيا والآخرة، مع وصف هؤلاء الأولياء بصفات تنطبق على الشيعة الإمامية، بنحو لا يشك معه الناظر في هذين الدعائين في إقراره (عليه السلام)  لهم في عقائدهم، بما فيها عقيدتهم بعدم شرعية خلافة الأولين.

كما أن في قوله (عليه السلام)  في الفقرة الثانية منها: ((وافترضت طاعته... وأن لا يتقدمه متقدم ولا يتأخر عنه متأخر)) تعريض واضح بمن تقدم عليهم (عليهم السلام)  في الخلافة.

ــــــــــــــــــــ

(1) الرياض النضرة ج:2 ص:148 الباب الأول في مناقب خليفة رسول الله أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) : ذكر تواضعه. تاريخ دمشق ج:30 ص:307 في ترجمة أبي بكر تحت عنوان عبد الله ويقال عتيق بن قحافة. المنتظم ج:4 ص:70 ذكر خلافة أبي بكر الصديق وأحواله: ذكر طرف من خطب أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)  في خلافته. كنز العمال ج5 ص616 حديث: 14084.

(2) شرح نهج البلاغة ج:16 ص:24.

(3) شرح نهج البلاغة ج:16 ص:25.

(4) شرح نهج البلاغة ج:16 ص:33 ـ 34.

(5) شرح نهج البلاغة ج:16 ص:35.

(6) الكامل في التاريخ ج:3 ص:273 أحداث سنة إحدى وأربعين: ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية، واللفظ له. وذكرت مع اختلاف في تاريخ الطبري ج:3 ص:169 في أحداث سنة إحدى وأربعين.

(7) سير أعلام النبلاء ج:3 ص:285 في ترجمة الحسين الشهيد، واللفظ له. الإصابة ج:2 ص:77 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب. معرفة الثقات ج:1 ص:301 في ترجمة حسين بن علي بن أبي طالب. تهذيب التهذيب ج:2 ص:300 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب. تهذيب الكمال ج:6 ص:404 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب. تاريخ واسط ج:1ص:203 في ترجمةأبي الحسين سعدبن وهب بن سنان السلمي. تاريخ الخلفاء ج:1 ص:143 في ترجمة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : فصل في نبذ من أخباره وقضاياه. تاريخ بغداد ج:1 ص:141 في ترجمة الحسين بن علي. بغية الطلب في تاريخ حلب ج:6 ص:2584، 2585 في ترجمة الحسين بن علي بن عبد مناف أبي طالب. التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة ج:1 ص:295 في ترجمة الحسين بن علي. علل الدارقطني ج: 2 ص: 125. تاريخ دمشق ج: 14 ص:175، 176 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب. كنز العمال ج13 ص654 حديث:37662. تاريخ المدينة المنورة ج:3 ص:799.

(8) تاريخ المدينة المنورة ج:3 ص:798.

(9) تاريخ الطبري ج:3 ص:280 في ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السلام)  للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) ، واللفظ له. البداية والنهاية ج:8 ص:157 ـ 158 في قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله.