بعض كلمات النقاد في الخطبة الشقشقية

وبالمناسبة يقول ابن أبي الحديد: ((فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة، لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟‍‍! والله ما رجع عن الأولين، ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره، إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله. وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضي (رحمه الله تعالى). فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفَس، وهذا الأسلوب. قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة. ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

قلت: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديين من المعتزلة. وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة. ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية. وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف). وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي (رحمه الله تعالى). ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي (رحمه الله تعالى) موجوداً))(1).

 

موقف خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)  من الخلافة

p وأما خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)  من أعيان الصحابة فقد صدر منهم كلام كثير في أن الخلافة حق له (عليه السلام) ، في يوم السقيفة، وبعد ذلك.

وسبق شيء من ذلك في أوائل الجواب عن هذا السؤال، كما يأتي التعرض لبعض ذلك في جواب السؤال الرابع. والمهم منها هنا ما يناسب عدم إمضاء ما حصل، وعدم الرضا به. وهو كلام كثير..

 

موقف أبي ذر في أمر الخلافة

(منها): ما رواه الحافظ ابن مردويه في المناقب (على ما في مناقب عبد الله الشافعي ص:87 ـ مخطوط) بسنده يرفعه إلى داود بن أبي عوف قال حدثني معاوية بن أبي ثعلبة الليثي، قال: ((ألا أحدثك بحديث لم تختلف؟ قلت: بلى.

قال: مرض أبو ذر، فأوصى إلى علي (عليه السلام) . فقال بعض من يعوده: لو أوصيت إلى أمير المؤمنين عمر لكان أجمل لوصيتك من علي. فقال: والله لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقاً، وإنه والله أمير المؤمنين، وإنه الربيع الذي يسكن إليه، ولو فارقكم لقد أنكرتم الناس، وأنكرتم الأرض. قال: قلت: ياأبا ذر إنا لنعلم أن أحبهم إلى رسول الله أحبهم إليك. قال: أجل. قلنا: فأيهم أحب إليك؟ قال: هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه، يعني: علي بن أبي طالب))(2).

 

موقف حذيفة في أمر الخلافة

(ومنها): ما عن أبي شريح قال: ((أتى حذيفة بالمدائن ونحن عنده أن الحسن وعماراً قدما الكوفة يستنفران الناس إلى علي، فقال حذيفة: إن الحسن وعماراً قدما يستنفرانكم، فمن أحب أن يلقى أمير المؤمنين حقاً حقاً فليأت علي بن أبي طالب))(3).

 

مواقف بعض الصحابة في أمر الخلافة بمناسبة الشورى

(ومنها): ما ذكره ابن أبي الحديد عند الحديث عن الشورى عن الشعبي في كتاب الشورى ومقتل عثمان. قال: ((وقد رواه أيضاً أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في زيادات كتاب السقيفة)).

قال ابن أبي الحديد في جملة ما ذكره من حوادث ما بعد بيعة عثمان: ((قال عوانة: فحدثني يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن مسلمة أن علي بن أبي طالب لما انصرف إلى رحله قال لبني أبيه: يا بني عبد المطلب إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته، وإن يطع قومكم لا تؤمروا أبداً. ووالله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف. قال: وعبدالله بن عمر بن الخطاب داخل إليهم، قد سمع الكلام كله، فدخل وقال: يا أبا الحسن أتريد أن تضرب بعضهم ببعض؟! فقال: اسكت ويحك. فوالله لولا أبوك وما ركب مني قديماً وحديثاً ما نازعني ابن عفان، ولا ابن عوف. فقام عبدالله فخرج....

قال الشعبي: وخرج المقداد من الغد، فلقي عبدالرحمن بن عوف، فأخذ بيده، وقال: إن كنتَ أردت بما صنعت وجه الله، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة، وإن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك. فقال عبدالرحمن: اسمع رحمك الله، اسمع. قال: لا أسمع والله. وجذب يده من يده، ومضى حتى دخل على علي (عليه السلام) . فقال: قم، فقاتل حتى نقاتل معك. قال علي: فبمن أقاتل رحمك الله؟!. وأقبل عمار بن ياسر ينادي:

       يا ناعي الإسلام قم فانعه                 قد مات عرف وبدا نكر

 

أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم. والله لو قاتلهم واحد لأكونن له ثانياً. فقال علي: يا أبا اليقظان، والله لا أجد عليهم أعواناً، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون. وبقي (عليه السلام)  في داره، وعنده نفر من أهل بيته، وليس يدخل إليه أحد، مخافة عثمان))(4).

وقال: ((قال عوانة: قال إسماعيل: قال الشعبي: فحدثني عبدالرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبدالله الأزدي. قال: كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان، فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو، فسمعته يقول: والله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت.

وكان عبدالرحمن بن عوف جالساً، فقال: وما أنت وذاك يا مقداد؟!

قال المقداد: إني والله أحبهم لحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . وإني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله.

قال عبد الرحمن: أما والله لقد أجهدت نفسي لكم.

قال المقداد: أما والله لقد تركت رجلاُ من الذين يأمرون بالحق، وبه يعدلون. أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد.

فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك، لا يسمعن هذا الكلام الناس، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.

قال المقداد: إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة، ولكن من أقحم الناس في الباطل، وآثر الهوى على الحق، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.

قال: فتربد وجه عبد الرحمن... ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف.

قال جندب بن عبد الله فاتبعته. وقلت له: يا عبد الله أنا من أعوانك. فقال: رحمك الله، إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان، ولا الثلاثة.

قال: فدخلت من فوري ذلك على علي(، فلما جلست إليه قلت: يا أبا الحسن. والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك. فقال: صبر جميل. والله المستعان.

فقلت: والله إنك لصبور!

قال: فإن لم أصبر فماذا أصنع؟

فقلت: إني جلست إلى المقداد بن عمرو آنفاً وعبدالرحمن بن عوف، فقالا: كذا وكذا، ثم قام المقداد فاتبعته فقلت له كذا، فقال لي: كذا.

فقال علي (عليه السلام) : لقد صدق المقداد، فما أصنع؟

فقلت: تقوم في الناس، فتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنك أولى بالنبي (صلى الله عليه وسلم)  وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين، فإن دانوا لك فذاك، وإلا قاتلتهم، وكنت أولى بالعذر، قتلت أو بقيت، وكنت أعلى عند الله حجة.

فقال: أترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد؟

قلت: أرجو ذلك. قال: لكني لا أرجو ذلك. لا والله، ولا من المائة واحد.

وسأخبرك إن الناس إنما ينظرون إلى قريش، فيقولون: هم قوم محمد وقبيله. وأما قريش بينها فتقول: إن آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلاً، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش، ودون غيرهم من الناس. وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبداً. ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها. لا والله، لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبداً.

فقلت: جعلت فداك يا ابن عم رسول الله، لقد صدعت قلبي بهذا القول. أفلا أرجع إلى المصر، فأوذن الناس بمقالتك، وأدعو الناس إليك؟ فقال: يا جندب، ليس هذا زمان ذاك.

قال: فانصرفت إلى العراق، فكنت أذكر فضل علي على الناس، فلا أعدم رجلاً يقول لي ما أكره. وأحسن ما أسمعه قول من يقول: دع عنك هذا، وخذ فيما ينفعك، فأقول: إن هذا مما ينفعني وينفعك، فيقوم عني ويدعني.

وزاد أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري: حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيام ولينا، فبعث إلي فحبسني، حتى كُلّم فيّ، فخلى سبيلي.

 

وروى الجوهري: قال: نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم: يا معشر المسلمين إنا قد كنا وما كنا نستطيع الكلام، قلة وذلة، فأعزنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله رب العالمين. يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، تحولونه ههنا مرة، وههنا مرة؟! ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.

فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة: يا ابن سمية: لقد عدوت طورك، وما عرفت قدرك. ما أنت وما رأت قريش لأنفسها؟! إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها. فتنح عنها, وتكلمت قريش بأجمعها، فصاحوا بعمار، وانتهروه. فقال: الحمد لله رب العالمين. ما زال أعوان الحق أذلاء. ثم قام فانصرف))(5).

وإنما أثبتناه بطوله لأنه يوضح الخطوط العامة للحوادث التي حصلت في الصدر الأول. ويمكن للباحث أن يجد نظيره وشواهده في كثير من كتب الحديث والتاريخ.

ويأتي ما يناسب ذلك في جواب السؤال الرابع عند الكلام في موقف الصحابة من النص.

ــــــــــــــــــــ

(1) شرح نهج البلاغة ج:1 ص:205 ـ 206.

(2) ملحقات إحقاق الحق ج:8 ص:679 الباب المتمم للعشرين: الثالث ما رواه أبو ذر.

(3) أنساب الأشراف ج:2 ص:366 في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

(4) شرح نهج البلاغة ج:9 ص:54 ، 55.

(5) شرح نهج البلاغة ج:9 ص:56 ـ 58.