أثركلام أمير المؤمنين (عليه السلام)  ومعاصريه في ظهور عقيدة التشيع

والظاهر أن ما سبق، ويأتي في جواب السؤال الرابع، من أمير المؤمنين (عليه السلام)  ومن عاصره ـ من أهل بيته وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  ـ من الأقوال والمواقف من أجل بيان حقيقة الأمر في الخلافة، وتأكيدهم على ذلك، قد نبه كثيراً من المسلمين ـ ممن تهمهم الحقيقة ـ إلى حقيقة التشيع وعقيدته، وأخذوا يبحثون عن أدلتها ـ من الكتاب المجيد والسنة الشريفة ـ والاستزادة منها، حتى تبلورت هذه الحقيقة في عصره (عليه السلام) ، وتبناها جماعة عن بصيرة، وتصميم يصل حدّ الجهاد والتضحية، بعد أن كاد التحجير على السنة النبوية ـ الذي أشرنا إليه في جواب السؤال السابع من الأسئلة السابقة ـ يقضي عليها. فقام للشيعة كيان ظاهر في عصره (صلوات الله عليه)، وأخذ يقوى تدريجاً، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه اليوم. ويحسن بنا أن نشير إلى بعض شواهد ذلك..

1 ـ يقول ابن قتيبة عند عرض أحداث واقعة الجمل: ((فلما قدم علي طيء أقبل شيخ من طيء قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه، فنظر إلى علي فقال له: أنت ابن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: مرحباً بك وأهلاً... لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك، لقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأيامك الصالحة. ولئن كان ما يقال فيك من الخير حقاً إن في أمرك وأمر قريش لعجباً، إذ أخرجوك وقدموا غيرك. سر فو الله لا يتخلف عنك من طيء إلا عبد أو دعي إلا بإذنك))(1).

فانظر لهذا الشيخ كيف انتبه بسبب ما بلغه مما ورد في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فعجب من قريش كيف قدمت غيره عليه إن صدق ذلك.

2 ـ ويذكر ابن أبي الحديد حديث وفاة أبي ذر (رضي الله عنه) ، وأنه قد حضره نفر مروا عليه عند موته، وأن في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  أن الذي يحضره عصابة من المؤمنين، ثم قال: ((روى أبو عمر ابن عبد البر قبل أن يروي هذا الحديث في أول باب جندب: كان النفر الذي حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة، منهم حجر بن الأدبر، ومالك ابن الحارث الأشتر.

قلت: حجر بن الأدبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية. وهو من أعلام الشيعة وعظمائها. وأما الأشتر فهو أشهر في الشيعة من أبي الهذيل في المعتزلة.

قرئ كتاب الاستيعاب على شيخنا عبد الوهاب بن سكينة المحدث، وأنا حاضر، فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال استاذي عمر بن عبد الله الدباس ـ وكنت أحضر معه سماع الحديث ـ : لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت، فما قال المرتضى والمفيد إلا بعض ما كان حجر والأشتر يعتقدانه في عثمان ومن تقدمه.

فأشار الشيخ إليه بالسكوت. فسكت))(2).

3 ـ وفي حديث لشريح بن هاني مع عمرو بن العاص حينما أرسله أمير المؤمنين (عليه السلام)  بنصيحة له، قال شريح: ((فأبلغته ذلك، فتمعر وجه عمرو، وقال: متى كنت أقبل مشورة علي، أو أنيب إلى أمره، وأعتد برأيه؟!

فقلت: وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم(صلى الله عليه) مشورته...))(3).

فإن نعته لأمير المؤمنين (عليه السلام)  بذلك لا يناسب إلا ما عليه شيعته من تقديمه على من سبقه.

4 ـ وقد روى المؤرخون من أن زياداً عامل معاوية على الكوفة كتب إليه في تجريم حجر بن عدي وأصحابه: ((وزعم أن هذا الأمر لا يصلـح إلا في آل أبي طالب))(4).

5 ـ ولما بعث عبد الله بن الزبير ابن مطيع والياً على الكوفة كان فيما قال: ((ولأتبعن سيرة عمر وعثمان)).

فقال له السائب بن مالك: ((وأما سيرة عمر فأقل السيرتين ضرراً علينا. لكن عليك بسيرة علي بن أبي طالب، فإنا لا نرضى بما دونها))(5).

6 ـ  ويقول بعض التوابين: ((وجاء حصين بن نمير، وقد عبأ لنا جنده... فلما دنوا دعونا إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان، وإلى الدخول في طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزبير، ثم نرد هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا الذين آتانا الله من قبلهم بالنعمة والكرامة. فأبى القوم، وأبينا))(6).

7 ـ ولذا كان الأمويون وعمالهم يمتحنون من يتهمونه بالتشيع بسؤالهم عن موقفهم من الأولين، ويؤاخذونهم بأنهم يبرؤون منهم. وذلك شاهد بشيوع هذه العقيدة في العصور الأولى.

8 ـ وهذا أبو حمزة الشاري الخارجي لما دخل المدينة المنورة بأصحابه، في أواخر العهد الأموي، قال في خطبة له: ((وأما إخواننا من الشيعة ـ وليسوا بإخواننا في الدين، لكني سمعت الله يقول: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا] ـ فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله، وآثرت الفرقة على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا تفتيش عن حقيقة الثواب، وقد قلدوا أمورهم أهواءهم، وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه، وأطاعوه في جميع ما يقوله غياً كان أو رشداً، ضلالة كان أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموت، ويؤمنون بالبعث قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته، بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحوي جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها، ويعملون بها ولا يعلمون المخرج منها، جفاة في دينهم، قليلة عقولهم، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وينجيهم من عقاب الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون!...))(7).

وهو شاهد بشيوع هذه العقيدة وإن حاول في طرحه لها التهريج عليها وتبشيعها، كما هو المنتظر من أمثاله.

9 - ولولا ذلك لما استطاع العباسيون أن يقيموا أساس دعوتهم على البراءة من الأولين وعدم شرعية حكمهم، واختصاص الحق بأهل البيت (صلوات الله عليهم) كما تقدم بعض شواهد ذلك في جواب السؤال الثاني من الأسئلة السابقة. وإن عدلوا بعد ذلك، وتخلوا عن التشيع، وتنكروا له، وجدوا في مقاومته، حين بدأ العلويون ثوراتهم مطالبين بالخلافة، على أساس أنهم الأولى بها بعد أن كانت حقاً لأهل البيت (عليهم السلام) . فإن بناء دعوتهم على التشيع في أول الأمر لا يمكن عادة إلا إذا كان للتشيع قاعدة شعبية قوية تتقبل الدعوة المذكورة، وتتفاعل معها.

وما ذلك إلا بفضل جهود أمير المؤمنين (عليه السلام)  ومن توجه وجهته من الصحابة، وتأكيدهم على اغتصاب الخلافة منه ـ كما ذكرنا ويتضح في جواب السؤال الرابع ـ بنحو لا يتناسب مع إمضائه (عليه السلام)  لما حصل، وإقراره له، بحيث يضفي عليه شرعية معذرة.

 

إدراك جماعة من السنة حقيقة موقف أمير المؤمنين (عليه السلام)

والظاهر أن كثيراً من جمهور السنة ومن خاصتهم يدركون ذلك في باطن أمرهم، وإن كان مقام أمير المؤمنين (عليه السلام)  ورفعة شأنه تمنعانهم من الإقرار به وإعلانه ـ دفعاً لمعرته على السلف ـ إلا في فلتات أو اندفاعات، لا يملكون فيها السيطرة على أنفسهم، وضبط أعصابهم. وقد تقدم التعرض لبعضها عند الكلام في اختصاص الشيعة بأئمتهم، ولزوم تصديقهم عليهم.

ــــــــــــــــــــ

(1) الإمامة والسياسة ج:1 ص:52 استنفار عدي بن حاتم قومه لنصرة علي (رضي الله عنه) .

(2) شرح نهج البلاغة ج:15 ص:100 ـ 101.

(3) وقعة صفين ص:543.

(4) تاريخ الطبري ج:3 ص:226 في ذكر سبب مقتل حجر بن عدي من أحداث سنة 51 هـ، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج:3 ص:333 في ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما في أحداث سنة 51 هـ. مقتل الشهيد عثمان ج:1 ص:225 في ذكر مقتل عمرو بن الحمق الخزاعي، ولكن بدل آل أبي طالب: آل علي بن أبي طالب.

(5) أنساب الأشراف ج:6 ص:383 أمر المختار بن أبي عبيد الثقفي وقصصه، واللفظ له. تاريخ الطبري ج:3 ص:435 في أحداث سنة ست وستين: ذكر الخبر عن الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة. الكامل في التاريخ ج:4 ص:28 أحداث سنة ست وستين: ذكر وثوب المختار بالكوفة. جمهرة خطب العرب ج:2 ص:76 ـ77 خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة: رد السائب بن مالك الأشعري عليه. البداية والنهاية ج:8 ص:264 في أحداث سنة ست وستين. الفتوح لابن أعثم المجلد الثالث ص: 249 ابتداء خروج المختار بن أبي عبيد وما كان منه، لكن بُتِر قسم من كلام ابن مطيع مع تغيير في كلام السائب بن مالك.

(6) تاريخ الطبري ج:3 ص:383 أحداث سنة خمس وستين: فمن ذلك ما كان من أمر التوابين للطلب بدم الحسين بن علي إلى عبيدالله بن زياد، واللفظ له. وقريب منه في أنساب الأشراف ج:6 ص:371 في أمر التوابين وخبرهم بعين الوردة، والفتوح لابن أعثم المجلد الثالث ص:245 ثم رجعنا إلى أخبار سليمان بن صرد وأصحابه، والكامل في التاريخ ج:4 ص:7 في أحداث سنة خمس وستين: ذكر مسير التوابين وقتلهم.

(7) شرح نهج البلاغة ج:5 ص:119.