س4 ـ هل يجوز على الجمهور الأعظم من الصحابة(رض) أن يغفلوا عن النص الشرعي البين ـ إن وجد ـ في بيعة الإمام علي، ويتعاموا عنه؟ والله يقول عنهم: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)) آل عمران/110.

ج: الجواب عن ذلك من وجوه..

 

إهمال الصحابة للنص أهون من إهمال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  أمر الأمة

 (الوجه الأول) : أنه إذا بني الأمر على الاستبعاد، فالبناء على إغفال الصحابة للنص أهون بكثير من البناء على إهمال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  أمر الأمة، وتركها من دون أن ينص على خليفة يرعاها، ومن دون أن يحدد بوضوح أمر الخلافة، بوجه شامل، في عصور الإسلام المتعاقبة، مع ما عليه الخلافة من الأهمية الكبرى في الدين، وفي نظم أمر الإسلام والمسلمين، ومع كونها معترك المصالـح والمطامع القبلية والفردية، ومختلف الآراء والاجتهادات التي لا ضابط لها ولا حدود. وهل ذلك إلا تفريط بالإسلام العظيم، ينزه عنه الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه و آله و سلم)  الكريم، ونقص في الدين الذي أكمله لنا رب العالمين.

خصوصاً وأن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  قد ترك الدعوة الإسلامية في أول نشوئها، وهي في محيط قبلي بدائي لا ألفة له قبل ذلك بالدولة والسلطان، ولم يعرف نظام حكم فيها يجري عليه بطبعه، فكيف يتركها (صلى الله عليه و آله و سلم) ، من دون نظام واضح قاطع، نهبة للمطامع، وميداناً للتسابق والتناحر؟!

ولا سيما مع ما تظافر عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)   من الإخبار بالفتن، حتى قال فيما رواه حذيفة: ((لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال)) (1) .

كما استفاض عنه (صلى الله عليه و آله و سلم)  الإخبار بولاية ولاة السوء على الأمة وظلمهم واستئثارهم وانتهاكم الحرمات. فإن ذلك لا يتناسب مع إهماله (صلى الله عليه و آله و سلم)   أمر الولاية من دون أن يحدد ضوابطها الشرعية، لتعرف الأمة الحق من الباطل، والعدل من الجور.

وأطرف من ذلك أن يكتفي النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  في بيان نظام الحكم بقوله المشهور: ((الأئمة من قريش)) (2) ، من دون تحديد دقيق. ومن هي قريش؟ أليس أكثرها قد دخل في الإسلام أخيراً، حينما غلبوا على أمرهم، بعد صراع طويل مرير، وبعد أن أريق كثير من الدماء، وتهددت كثير من المصالـح، مما أثار كثيراً من الأحقاد والأضغان.

ثم أليست قريش مجمع التناقضات، فيها القمة في الدين والعفة والشرف: أهل بيت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، وفيها ما دون ذلك، درجة بعد درجة، في تسافل نحو الحضيض في الطغيان والجريمة والخسة، كبني أمية الشجرة الملعونة في القرآن(3) ، وآل أبي العاص الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دغلاً(4) ، فأي ضابط هذا، وأي تحديد؟!

ولاسيما وأن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  قد أخبر بمرارة عن حال هؤلاء وما تلقى الأمة منهم، وقال أيضاً: ((هلاك هذه الأمة على يدي أغيلمة من قريش)) (5) ، ونحو ذلك مما لا يتناسب وإطلاق أمر الإمامة في قريش من دون تحديد صارم يقطع أمل هؤلاء وأمثالهم في الحكم والسلطان، ويمنع من شرعية ولايتهم.

وإذا روي عن عمر بن الخطاب أنه قال عن بيعة أبي بكر إنها فلتة وقى الله شرها(6) ، فما هو المؤمِّن من فلتات لا نهاية لها، ولا وقاية من شرها؟!

والأطرف من ذلك أن ينتبه المسلمون لذلك، ويغفله النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، فيطلبوا من عمر أن يستخلف على الأمة(7) .

بل يزيد بعضهم، فيؤكد ذلك شارحاً خطورة الإهمال بالنحو الذي ذكرناه في حق النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) . يقول عبدالله بن عمر عن أبيه في حديث له: ((فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس، وأنا أخبره. قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك. زعموا أنك غير مستخلف. وإنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع، فرعاية الناس أشد. قال فوافقه قولي، فوضع رأسه ساعة، ثم رفعه إلي فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه. وإني لئن لا أستخلف فإن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف...)) (8) .

 

نتائج الإهمال المزعوم

ثم ماذا كانت المحصلة من هذا الإهمال المزعوم؟! وإلى أين انتهى أمر الخلافة نظرياً بين فقهاء الجمهور، حيث لا يقف خلافهم في شروطها وقيودها عند حدود.

وعملياً بين الطامعين والانتهازيين، حتى تسنم ذروة الحكم من هو في حضيض الجريمة والظلم والطغيان، ومن لا تلتقي بذمهم الشفتان.

وجرى بسبب ذلك أنهار الدماء في الحروب والفتن التي وقعت في صدر الإسلام، وأريقت أزكاها ـ كدماء أمير المؤمنين والحسين والصفوة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، ومن دونهم طبقة بعد طبقة ـ مع عظم أهمية الدماء في الإسلام. كما انتهك بسببه من الحرمات ما لا يحصى عدداً، ولا يقف عند حد، كحرمة الكعبة المعظمة والحرمين الشريفين فما دونها.

كل ذلك في مدة قصيرة، والصحابة الذين عاشوا مع النبي (صلى الله عليه و سلم)  متوافرون. وهم قد رأوا سلطانه وحكمه وعدله، وسمعوا تعاليمه وإرشاداته، وتوقعاته بالفتن المقبلة.

ثم التهاون بالدين والتسافل في المثل، وضعف الكيان الإسلامي على مرّ العصور وتعاقب الدهور، حتى انتهى الأمر إلى ما هو عليه اليوم من الوهن والهوان، والتفكك والامتهان، بنحو لا يحتاج إلى شرح وبيان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ــــــــــــــــــــ

(1)صحيح ابن حبان ج:15 ص:218  باب إخباره (صلى الله عليه و سلم)  عما يكون في أمته من الفتن والحوادث: ذكر الإخبار عن العلامة التي بها يعرف نجاة المرء من فتنة الدجال، واللفظ له. مجمع الزوائد ج:7 ص:335 كتاب الفتن: باب فيما قبل الدجال ومن نجا منه نجا. مسند أحمد ج:5 ص:389 حديث حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه و سلم) . موارد الظمآن ص:468. مسند البزار ج:7 ص:232، 233 فيما رواه طارق بن شهاب عن حذيفة. كنز العمال ج:14 ص:322 حديث: 38812.

 (2) السنن الكبرى للبيهقي ج:3 ص:121 باب من قال يؤمهم ذو نسب إذا استووا في القراءة والفقه، ج:8 ص:143،144 كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة: باب الأئمة من قريش. السنن الكبرى للنسائي ج:3 ص:467 كتاب القضاء: الأئمة من قريش. الأحاديث المختارة ج:4 ص:403 فيما رواه بكير بن وهب الجزري عن أنس، ج:6 ص:143 فيما رواه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أنس. المستدرك على الصحيحين ج:4 ص:85 كتاب معرفة الصحابة: ذكر فضائل القبائل. المصنف لابن أبي شيبة ج:6 ص:402،403 كتاب الفضائل: ما ذكر في فضل قريش. مسند أحمد ج:3 ص:129، 183 في مسند أنس بن

مالك (رضي الله عنه) ، ج:4 ص:421 في أول مسند البصريين: حديث أبي برزة الأسلمي (رضي الله عنه) . المعجم الأوسط ج:4 ص:26. المعجم الصغير ج:1 ص:260. مسند الطيالسي ج:1 ص:125، 284. مسند أبي يعلى ج:6 ص:321 فيما رواه سعد بن إبراهيم عن أنس، ج:7 ص:94 فيما رواه سهل أبو الأسود عن أنس. المعجم الكبير ج:1 ص:252 ومما أسند أنس بن مالك (رضي الله عنه) . وغيرها من المصادر الكثيرة.

(3) تفسير القرطبي ج:10 ص:286. الدر المنثور ج:5 ص:310. فتح القدير ج:3 ص:239،240. روح المعاني ج:15 ص:107. لسان الميزان ج:1 ص:189 في ترجمة أحمد بن الطيب السرخسي. تاريخ الطبري ج:5 ص:621 في أحداث سنة أربع وثمانين ومائتين. وفي تفسير الطبري ج:15 ص:112، وتفسير ابن كثير ج:3 ص:50 ولكن بدل بني أمية، بني فلان.

(4) المستدرك على الصحيحين ج:4 ص:527 كتاب الفتن والملاحم. مجمع الزوائد ج:5 ص:241 كتاب الخلافة: باب في أئمة الظلم والجور وأئمة الضلالة. المعجم الأوسط ج:8 ص:6. المعجم الصغير ج:2 ص:271. وتجده مع اختلاف يسير في كل من مسند أبي يعلى ج:11 ص:402، والمعجم الكبير ج:12 ص:236 فيما رواه ابن موهب عن ابن عباس، وج:19 ص:382 فيما رواه عمير بن الحارث السكوني عن معاوية، والفتن لنعيم بن حماد ج:1 ص:130 باب آخر من ملك بني أمية.

(5) المستدرك على الصحيحين ج:4 ص:526، واللفظ له، ص:572 كتاب الفتن والملاحم. صحيح البخاري ج:3 ص:1319 كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام، ج:6 ص:2589 كتاب الفتن: باب قول النبي (صلى الله عليه و سلم) : هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء. مسند أحمد ج:2 ص:520 مسند أبي هريرة. مسند إسحاق بن راهويه ج:1 ص:358، 359 زيادات الكوفيين والبصريين وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه و سلم) . المعجم الصغير ج:1 ص:334.

مسند الطيالسي ص:327 فيما رواه مالك بن ظالم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) . فتح الباري ج:11 ص:478. السنن الواردة في الفتن ج:2 ص:471،472 باب قول النبي (صلى الله عليه و سلم)  هلاك أمتي على أيدي أغيلمة  سفهاء من قريش. الفتن لنعيم بن حماد ج:1 ص:130  باب آخر من ملك بني أمية، ص:407 ما يكون بعد المهدي. الفردوس بمأثور الخطاب ج:4 ص:346. التاريخ

الكبير ج:3 ص:499 في ترجمة سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي الأموي القرشي، ج:7 ص:309 في ترجمة مالك بن ظالم. الثقات ج:5 ص:388 في ترجمة مالك بن ظالم. تهذيب التهذيب ج:10 ص:16 في ترجمة مالك بن ظالم. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(6) صحيح البخاري ج:6 ص:2503، 2505 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة: باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت. صحيح ابن حبان ج:2 ص:148 باب حق الوالدين: ذكر الزجر عن أن يرغب المرء عن آبائه إذ استعمال ذلك ضرب من الكفر، ص:155،157  ذكر الزجر عن الرغبة عن الآباء إذ رغبة المرء عن أبيه ضرب من الكفر. مجمع الزوائد ج:6 ص:5 كتاب الجهاد: باب تدوين العطاء. السنن الكبرى للنسائي ج:4 ص:272،273  كتاب الرجم: تثبيت الرجم. المصنف لابن أبي شيبة ج:6 ص:453 كتاب السير: ما قالوا في الفروض وتدوين الدواوين، ج:7 ص:431  ما جاء في خلافة أبي بكر وسيرته في الردة. المصنف لعبدالرزاق

ج:5 ص:441،445 كتاب المغازي: بيعة أبي بكر (رضي الله عنه)  في سقيفة بني ساعدة. مسند البزار ج:1 ص:302  ومما روى عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس عن عمر، ص:410 ما رواه زيد ابن أسلم عن أبيه عن عمر أيضاً. مسند أحمد ج:1ص:55 في مسندعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) . مسند الشهاب ج:1 ص:237. جامع العلوم والحكم ص:386. التمهيد لابن عبد البر ج:22 ص:154. الثقات لابن حبان ج:2 ص:153،156 كتاب الخلفاء: استخلاف أبي بكر بن أبي قحافة الصديق (رضي الله عنه) . الفصل للوصل المدرج ج:1 ص:490،493. الرياض النضرة ج:2

ص:202 الفصل الثالث عشر في ذكر خلافته وما يتعلق بها من الصحابة: ذكر بيعة السقيفة وما جرى فيها. تاريخ الطبري ج:2 ص:235 حديث السقيفة. السيرة النبوية ج:6 ص:78، 79 في أمر سقيفة بني ساعدة. وغيرها من المصادر.

 (7) السنن الكبرى للبيهقي ج:8 ص:148 كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة: باب الاستخلاف. مسند أبي عوانة ج:4 ص:374 مبتدأ كتاب الأمراء: ذكر الخبر المبين أن النبي (صلى الله عليه و سلم)  لم يستخلف والدليل على أن المستخلف خليفة يكون عليه مثل وزره فيما يأتي إلى رعيته مما لا يجوز. مسند أبي يعلى ج:1 ص:182 في مسند عمر بن الخطاب. وغيرها من المصادر.

(8) صحيح مسلم ج:3 ص:1455 كتاب الإمارة: باب الاستخلاف وتركه، واللفظ له. مسند أحمد ج:1 ص:47 في مسند عمر بن الخطاب. مسند أبي عوانة ج:4 ص:375 مبتدأ كتاب الأمراء: ذكر الخبر المبين أن النبي (صلى الله عليه و سلم)  لم يستخلف والدليل على أن المستخلف خليفة يكون عليه مثل وزره فيما يأتي إلى رعيته مما لا يجوز. السنن الكبرى للبيهقي ج:8 ص:148 كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة: باب الاستخلاف. المصنف لعبدالرزاق ج:5 ص:448 كتاب المغازي: قول عمر في أهل الشورى. حلية الأولياء ج:1 ص:44 في ترجمة عمر بن الخطاب. وغيرها من المصادر.