مخالفة الأنصار للنص على أن الأئمة من قريش

بل لا ريب في أن الأنصار ـ وهم ذوو السبق للإسلام والنصرة له، والعدد الكبير فيه ـ قد خالفوا في محاولتهم بيعةسعد بن عبادة نص رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  المشهوربأن الأئمة من قريش(1).

نعم قد أنكر جماعة من قريش عليهم مخالفة النص المذكور، حتى قال عمرو بن العاص: ((كادوا والله أن يحلوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه. والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله (صلى الله عليه و سلم)   : الأئمة من قريش. ثم ادعوها لقد هلكوا، وأهلكوا. وإن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين))(2).

لكن إنكارهم عليهم ذلك إنما كان لأنه يضر بمصالحهم، ويفشل مخططهم. ولذا لم يبال عمر بالخروج عنه، ولا أنكر عليه غيره، حينما قال بعد أن طعن وأشرف على الموت: ((ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً استخلفته...))(3)، وكذا قوله: ((لو أدركت معاذ بن جبل فاستخلفته فلقيت ربي فسألني...))(4)، مع وضوح أن سالماً ومعاذاً المذكورين ليسا من قريش.

ومن هنا لا يستبعد من الكل الإقدام على مخالفة النص حين تخدم مخالفته مصالحهم، ولا تضر بها، وإنما تضر بأهل البيت (عليهم السلام)  الذين هم المستضعفون بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، كما يأتي عنه (صلى الله عليه و آله و سلم) .

والحاصل: أنه بعد أن ثبت مخالفتهم للنصوص الكثيرة وتجاهلهم لها، وإن لم تكن دالة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإمامته، فلا مجال لاستبعاد تجاهلهم للنص على إمامته وخلافته، إذا كان موجوداً، كما تقول الشيعة.

 

تنبؤ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بمخالفتهم النص على أمير المؤمنين(عليه السلام)

بل قد ورد عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  التنبؤ بموقف أصحابه من النصرعلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وتوقع عدم جريهم عليه، وتفرقهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام)  لو نصبه علماً لهم، وهو(صلى الله عليه و آله و سلم) أعلم بنفسياتهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم، وما تؤول إليه أمورهم.

فحينما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة حاولت أن تحمل أم سلمة على الخروج معها، فأبت أم سلمة، وحاولت أن تثنيها عن عزمها، وذكرتها بأمور في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فكان فيما قالت: ((وأذكرك أيضاً، كنت أنا وأنت مع رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  في سفرله، وكان علي يتعاهد نعلي رسول الله  (صلى الله عليه و سلم) فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل سمرة. وجاء أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما أراد، ثم قالا: يا رسول الله، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً. فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه. ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران. فسكتا، ثم خرجا.

فلما خرجنا إلى رسول الله (صلى الله عليه و سلم)   قلت له ـ وكنت أجرأ عليه منا ـ: من كنت يا رسول الله مستخلفاً عليهم؟ فقال: خاصف النعل. فنظرنا، فلم نر أحداً إلا علياً، فقلت: يا رسول الله، ما أرى إلا علياً. فقال: هو ذاك. فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك))(5).

وعلى ذلك لا يتجه استبعاد وجود النص من أجل استبعاد إغفال عموم الصحابة له، بل يتعين النظر في دعوى النص ودليلها بموضوعية كاملة، وتجرد عن التراكمات، ثم تحكيم الوجدان في أن ما تذكره الشيعة من النصوص على إمامة أمير المؤمنين وأولاده (صلوات الله عليهم أجمعين) لو كان وارداً في حق غيرهم ممن يحاول الجمهور تصحيح خلافته، فهل يجعله الجمهور دليلاً على خلافة ذلك الغير، أو لا؟ والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل.

 

الذين أقدموا على مخالفة النص جماعة قليلة

(الوجه الثالث): أن النص إذا كان موجوداً ـ كما تقول الشيعة ـ فالذي تعمد مخالفته والتغافل عنه، جماعة قليلة قادت الانقلاب على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأصرت على مقاومته، وصرف الخلافة عنه. أما الباقون فهم لم يقدموا على مخالفة النص، ولا على مخالفة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإنما تعاملوا مع ما حصل كحقيقة قائمة، إما لعدم الاهتمام بالنص والحق، أو طلباً للعافية، أو لليأس من انتصار المنصوص عليه وإرجاع الحق إلى نصابه، أو لاستبعاده، أو لغير ذلك.

ــــــــــ

(1) تقدمت مصادره في بداية جواب هذا السؤال في ص: 190.

(2) شرح نهج البلاغة ج:6 ص:29.

(3) تاريخ الطبري ج:2 ص:580 قصة الشورى، واللفظ له. العقد الفريد ج:4 ص:255 فرش كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم: أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان. تاريخ دمشق ج:58 ص:404،405 في ترجمة معاذ بن جبل. مقدمة ابن خلدون ص:194 الفصل السادس والعشرون  في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه. حلية الأولياء ج:1 ص:177 في ترجمة سالم مولى أبي حذيفة. صفوة الصفوة ج:1 ص:388. كشف الخفاء ج:2 ص:428. وغيرها من المصادر.

(4) تاريخ دمشق ج:58 ص:404، واللفظ له. ص:403 في ترجمة معاذ بن جبل. مسند أحمد ج:1 ص:18 في مسند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) . فتح الباري ج:13 ص:119. تحفة الأحوذي ج:6 ص:399. فيض القدير ج:3 ص:190. صفوة الصفوة ج:1 ص:367. وغيرها من المصادر.

(5) شرح نهج البلاغة ج:6 ص:218.