وهذا هو المعلوم بالوجدان من طبيعة المجتمعات البشرية في مواجهة الانقلابات والتغيرات المرتجلة، والتعامل معها. فإن الذي يتعمد التغيير وانتهاك الشرعية والقانون، ويخطط له وينفذه، هم فئة قليلة، وهي المنتفعة بذلك، ثم تعتمد على الهمج الرعاع والانتفاعيين في تثبيت مخططها.
وبعد أن تفاجئ مجتمعاتها بذلك، فالذي ينكر عليها، ويتصدى لمخططاتها المتضررون بمخالفة الشرعية، ويعضدهم ذوو المبادئ الذين يهمهم تطبيق التشريع، وسيادة القانون، ويستعدون للتضحية في سبيلهما، وهم في أغلب الأحوال قليلون.
أما الباقون فهم بين متفرج لا تهمه الشرعية، ومنكر في نفسه لانتهاكها، إلا أنه يصعب عليه التضحية من أجل التغيير وإرجاع الحق إلى نصابه، جبناً وهلعاً، أو مستعد للتضحية، إلا أنه يتقاعس، ليأسه عن إمكانية التغيير والحفاظ على الشرعية، حسب موازنته بين القوى المتصارعة.
دعوى اتفاق أهل المدينة على بيعة أبي بكر
وقد يحاول البعض دعوى اتفاق أهل المدينة من
المهاجرين والأنصار وغيرهم على بيعة أبي بكر، وتشييد أمره، عدا أمير المؤمنين (عليه السلام) وجماعة قليلة جداً، بنحو يوحي بأن النص لو كان موجوداً فالكثرة الكاثرة من أهل المدينة قد تعمدت مخالفته والخروج عليه. وربما اعتقد كثير من الناس بذلك، تفاعلاً مع الصورة الإعلامية الضخمة، من دون نظرة استقلالية فاحصة.
لكنها دعوى مخالفة للواقع، لا تناسب ما حصل من أحداث وملابسات.
فقد تظافرت الأحاديث بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة(1). وأهون ما قيل في معنى فلتة أنها كانت مباغتة من دون مشورة، كما يشهد به ما ذكره المؤرخون في كيفية حصولها. حيث يظهر منه أن الذين أقدموا عليها، وعلى مخالفة النص ـ لو كان ـ جماعة قليلة، فاجأوا بها الناس، وجعلوهم أمام الأمر الواقع، مستغلين الفرصة نتيجة ذهول الناس لهول الحدث، وشعورهم بالفراغ لفقد النبي (صلى الله عليه و سلم) ، ثم انشغال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وبني هاشم بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه و سلم) .
ويقول اليعقوبي بعد أن شرح ظروف البيعة، وكيفية حصولها: ((وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم، وقال: يا معشر بني هاشم بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. وقال العباس: فعلوها ورب الكعبة. وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي... وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب. ومنهم العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير ابن العوام بن العاص ((كذا في طبعة النجف))، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب))(2).
وممن تخلف عن بيعته فروة بن عمر الأنصاري، وكان ممن جاهد مع رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ، وقاد فرسين في سبيل الله تعالى، وكان يتصدق من نخله بألف وسق كل عام، وكان سيداً في قومه، وشاعراً. وهو من أصحاب أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وشهد معه وقعة الجمل(3).
وقال ابن أبي الحديد: ((وروى الزبير بن بكار، قال: روى محمد ابن إسحاق أن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة. وقال: وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ))(4).
الكلام حول محاولة الأنصار بيعة سعد بن عبادة
بل من القريب جداً أن لا تكون محاولة الأنصار المبادرة بالاستيلاء على الخلافة والسلطة، وبيعة سعد بن عبادة، مبنية على مضادة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وتجاهل النص عليه، أو تعمد مخالفته، بل لتخوفهم من مسارعة قريش وأتباعهم بالاستيلاء على الحكم، مضادة للنص، وبغضاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) ـ الذي جاهدهم في سبيل الله تعالى، ونكل بهم، والذي يعتبر حكمه امتداداً لحكم النبي (عليه السلام) الذي وترهم، وقوض بنيانهم ـ وضيقاً من شدته في ذات الله تعالى، ومحافظته على تطبيق أحكامه عزوجل بحدودها، من دون هوادة، ولا محاباة، ولا رخصة.
ــــــــــ
(1) تقدمت مصادره في أوائل الجواب عن هذا السؤال في ص: 192.
(2) تاريخ اليعقوبي ج:2 ص:124 في خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر.
(3) شرح نهج البلاغة ج:6 ص:28 ـ 29.
(4) شرح نهج البلاغة ج:6 ص:21.