محاولة إضعاف أمير المؤمنين (عليه السلام)  واستمالة العباس

ولأجل ذلك ونحوه ـ من طعن الصحابة في بيعة أبي بكر، ومحاولتهم نقضها ـ أراد أبو بكر أن يضعف مركز أمير المؤمنين (عليه السلام)  بأن يجعل للعباس وعقبه في الأمر نصيباً، لينقطعوا عن أمير المؤمنين (عليه السلام)  ويخذلوه، وكان فيما قال للعباس: ((وما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين يتخذكم لجأ، فتكونون حصنه المنيع، وخطبه البديع. فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس، أو صرفتموهم عما مالوا إليه فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، ولمن بعدك من عقبك...)).

وتحدث عمر بعده فصدقه، وكان فيما قال: ((إنا لم نأتكم حاجة إليكم. ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم ولعامتهم))(1).

وأجابه العباس بما سبق بعضه في جواب السؤال الثالث.

 

الذين أنكروا على أبي بكر وهو على المنبر في رواية الشيعة

وقد روت الشيعة أنه قد أنكر اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار على أبي بكر يوم الجمعة، وهو على المنبر. وهم خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأبي بن كعب، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبريدة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان. وأنهم ذكّروه حق أمير المؤمنين (عليه السلام)  بالخلافة، ونص رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) عليه، ووعظوه، وذكروا لكل منهم كلاماً طويلاً معه، لا يسعنا استقصاؤه(2).

 

خطبة الزهراء (عليها السلام)  واستنهاضها الأنصار خاصة

كما ذكر المؤرخون خطبة الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام)  في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمام أبي بكر، مطالبة له بفدك، وتعرضها للخلافة، وإنكارها ما حصل، ثم عدولها إلى مجلس الأنصار، وإنكارها عليهم تخاذلهم عن نصرة أهل البيت (عليهم السلام) ، وحثهم على أداء واجبهم، في كلام شديد اللهجة. وقالت (عليها السلام)  في آخر خطبتها ـ بعد استعظام ما حصل من المخالفة لله تعالى، وفداحة الخطب، وتشديد المسؤولية ـ: ((ألا وَقَدْ قُلْتُ الذي قُلْتُه عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلانِ الَّذِي خامَر صدوركُمْ، واسْتَشْعَرَتْه قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّ قلته فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَبثة الصُّدُرِ، وَمعذرةُ الْحُجَّةِ. فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها مدَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَاكِبَةَ الْحق، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بَشَنارِ الأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ ((الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة)) فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ ((وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ منقلب يُنْقَلِبُونَ)). وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، فاعملوا إنا عاملون ((وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ))))(3).

 

تأثير الخطبة في الناس ومعالجة أبي بكر للموقف

ويبدو أن خطبتها قد أحدثت ضجة بين المسلمين، وخصوصاً الأنصار، وبدت بوادر التحرك منهم.

فقد ذكر ابن أبي الحديد عن الجوهري في كتاب السقيفة، قال: ((وحدثني محمد بن زكريا. قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول، قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها، فصعد المنبر، وقال: أيها الناس: ما هذه الرعة إلى كل قالة؟! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ؟! ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم. إنما هو ثعالة شهيده ذنبه. مرب لكل فتنة. هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت. يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال، أحب أهلها إليها البغي. ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت.

ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم. وأحق من لزم عهد رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  أنتم. فقد جاءكم فآويتم، ونصرتم. ألا إني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل. فانصرفت فاطمة (عليها السلام)  إلى منزلها))(4).

والملفت للنظر أن أبا بكر قد تعمد المرونة في معالجة أحداث السقيفة وما تبعها، وترك الشدة لغيره من جماعته. أما هذه الخطبة فهي تطفح بالشتم المقذع، والتهديد، والشدة. ولا يتضح لنا تفسير ذلك إلا بقوة نشاط المعارضة، في محاولتها إرجاع الخلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، بنحو لوّح بخطورة الموقف، فحاول أن يتدارك الأمر قبل أن ينفجر ذلك عن صراع يخشى منه، ولا يعلم نتائجه.

 

توقف الناس عن الجهاد ما دام أمير المؤمنين (عليه السلام)  مبايناً للقوم

ومن أقوى الشواهد على إيمان جمهور الصحابة بالنص، وبحق أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة، وبعدم شرعية خلافة أبي بكر، ما ذكره المدائني عن عبدالله بن جعفر عن أبي عون، قال: ((لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى علي، فقال: يا ابن عم، إنه لا يخرج أحد إليَّ. فقال: ((إلى قتال. صح)) هذا العدو وأنت لم تبايع، فلم يزل به حتى مشى إلى أبي بكر، فقام أبو بكر إليه، فاعتنقا، وبكى كل واحد إلى صاحبه، فبايعه. فسرّ المسلمون، وجد الناس في القتال، وقطعت البعوث))(5).

وهو المناسب لقول أمير المؤمنين  (عليه السلام) في كتابه إلى أهل مصر: ((فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم...))(6).

هذا موقف من بالمدينة المنورة.

ــــــــــ

(1) شرح نهج البلاغة ج:1 ص:220.

(2) بحار الأنوار ج:28 ص:189، وما بعدها. وقريب منه مع شيء من الاختلاف والاضطراب في كتاب الخصال للصدوق أبواب الاثنى عشر: الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي بن أبي طالب: اثنا عشر ص:429 ـ 434.

(3)  تقدمت مصادر الخطبة في جواب السؤال الثالث.

(4) شرح نهج البلاغة ج:6 ص: 214 ـ 215.

(5) أنساب الأشراف ج:2 ص:270 أمر السقيفة.

(6) نهج البلاغة ج:3 ص:119.