موقف قبائل العرب خارج المدينة، وحقيقة حروب الردة

أما موقف القبائل التي دخلت الإسلام في بقية البلاد، والتي حوربت من قبل أبي بكر، فهو وإن فسر بالارتداد، أو منع الزكاة، الذي قد يحاول البعض إلحاقه بالارتداد، لكونه إنكاراً لضروري من ضروريات الإسلام.

إلا أنه يبدو من بعض فلتات المؤرخين أن الأمر فيهم، أو في بعضهم، لا يصل إلى ذلك، بل إلى أن حكم أبي بكر لم يرق لكثير من الناس. إما لأنه لم يعهد له من قبل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، أو لاستهانة الناس به وبقبيلته.

وأن ذلك قد حمل الناس على رفض حكم أبي بكر من دون خروج عن الإسلام، أو مع الخروج عن الإسلام، لسقوط هيبته وهيبة المسلمين بسبب حكم أبي بكر، بعد موت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)،  وانشقاق الصحابة على أنفسهم، ثم إقصاء بني هاشم رهط النبي  (صلى الله عليه و آله و سلم) الذين يملكون مقاماً رفيعاً في نفوس العرب، وهيبة زاد فيهما النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) والإسلام أضعافاً مضاعفة.

وخصوصاً أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  الباسطة، وسيفه الضارب في جهاده الطويل، والذي يعتبر امتداداً طبيعياً لوجوده (صلى الله عليه و آله و سلم) ، في قوة شخصيته، وصلابته وهيمنته، وفي علمه وعمله، وفي مبادئه ومثاليته، بنحو يناسب انصياع العرب له بعد النبي  (صلى الله عليه و آله و سلم) كما يناسبه ما تقدم ـ في أوائل الجواب عن السؤال الثالث من هذه الأسئلة ـ عن سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري (رضي الله عنهما) من أن المسلمين لو جعلوها في أهل بيت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لما اختلف عليهم اثنان. وإن كان الظاهر أن قطعهما بذلك مستمد من إعلام النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) به.

ولنستعرض بعض الشواهد على ذلك.

 

إنكار بعض العرب بيعة أبي بكر وإقصاء أهل البيت (عليهم السلام) 

فقد قال قائلهم في جملة أبيات له:

أطعنا رسول الله ما كان بيننا                     فـيــالعبــاد الله ما لأبي بـكر

أيــورثها بكراً إذا مات بعده                    وتلك لعمر الله قاصمة الظهر(1)

وقالت طيء لعدي بن حاتم: ((لا نبايع أبا الفصيل أبداً))(2). وكانت فزارة وأسد تقول: ((لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً))(3).

ويقول أحمد بن أعثم الكوفي في حديث عن ناقة أخذت للزكاة بغير حق، ووقع الشجار فيها بين الوالي الذي أخذها ـ وهو زياد بن لبيد ـ وأصحابها: ((ثم أقبل حارثة بن سراقة إلى إبل الصدقة، فأخرج الناقة بعينها. ثم قال لصاحبها: خذ ناقتك إليك، فإن كلمك أحد فاحطم أنفه بالسيف. نحن إنما أطعنا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) إذ كان حياً. ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه. وأما ابن أبي قحافة فلا والله ماله في رقابنا طاعة ولا بيعة. ثم أنشد أبياتاً من جملتها:

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا      فـيـا عجباً ممن يطيع أبا بكر...

فلما سمع زياد بن لبيد هذه الأبيات... كتب إلى حارثة بن سراقة هذه الأبيات من جملتها:

      نقاتلهم في الله والله غالب      على أمره حتى تطيعوا أبا بكر  

قال: فلما وردت هذه الأبيات من زياد بن لبيد غضبت أحياء كندة لذلك غضباً شديداً. فأتت الأشعث بن قيس. فقال: خبروني عنكم يا معشر كندة إذ كنتم بايعتم على منع الزكاة وحرب أبي بكر فهلا قتلتم زياد بن لبيد... فقال له رجل من بني عمه: صدقت والله يا أشعث، ما كان الرأي إلا قتل زياد بن لبيد، وارتجاع ما دفع إليه من إبل الصدقة. والله ما نحن إلا كعبيد لقريش، مرة يوجهون إلينا أمية، فيأخذون من أموالنا ما يريدون، ومرة يولون علينا مثل زياد بن لبيد، فيأخذ من أموالنا ويهددنا بالقتل. والله لاطمعت قريش في أموالنا أبداً.

ثم أنشأ يقول أبياتاً من جملتها:

إذا نحن أعطينا المصدق سؤله      فنحن له فيما يريد عبيد

ثم تكلم الأشعث بن قيس فقال: يا معشر كندة إن كنتم على ما أرى فلتكن كلمتكم واحدة، والزموا بلادكم، وحوطوا حريمكم، وامنعوا زكاة أموالكم، فإني أعلم أن العرب لا تقر بطاعة بني تميم ((تيم.ظ)) بن مرة، وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيره، فإنها لنا أجود، ونحن لها أجرى وأصلح من غيرنا... قال: ثم إن زياد بن لبيد... سار فإلى ((إلى.ظ)) حي من أحياء كندة، يقال لهم بنو ذهل بن معاوية، فخبرهم بما كان... ودعاهم إلى السمع والطاعة، فأقبل إليه رجل من سادات بني تميم، يقال له الحارث بن معاوية، فقال لزياد: إنك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد. فقال له زياد بن لبيد: يا هذا صدقت، فإنه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد، ولكنا اخترناه لهذا الأمر.

 

احتجاج بعض العرب لحق أهل البيت (عليهم السلام) في الخلافة

فقال له الحارث: أخبرني لِمَ نحيتم عنها أهل بيته، وهم أحق الناس بها، لأن الله عزوجل يقول: ((وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ))؟.

فقال له زياد بن لبيد: إن المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك. فقال له الحارث بن معاوية: لا والله ما أزلتموها عن أهلها إلا حسداً منكم لهم. وما يستقر في قلبي أن رسول الله  (صلى الله عليه و آله و سلم) خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علماً يتبعونه، فارحل عنا أيها الرجل، فإنك تدعو إلى غير رضا.

ثم أنشأ الحارث بن معاوية يقول:

كان الرسول هو المطاع فقد مضى  صلى عليه الله لم يستخلف؟!

قال: فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي، فقال: صدق والله الحارث بن معاوية. أخرجوا هذا الرجل عنكم، فما صاحبه بأهل للخلافة، ولا يستحقها بوجه من الوجوه. وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمة من نبيها محمد... ثم وثبوا إلى زياد بن لبيد فأخرجوه من ديارهم، وهموا بقتله. قال: فجعل زياد لا يأتي قبيلة من قبائل كندة، فيدعوهم إلى الطاعة إلا ردوا عليه ما يكره.

فلما رأى ذلك سار إلى المدينة إلى أبي بكر (رضي الله عنه) فخبره بما كان من القوم، وأعلمه أن قبائل كندة قد أزمعت على الارتداد والعصيان... قال: واتصل الخبر بقبائل كندة فكأنهم ندموا على ما كان منهم.

ثم وثب رجل من أبناء ملوكهم يقال له أبضعة بن مالك، فقال: يا معشر كندة إنا أضرمنا على أنفسنا ناراً لا أظن أنها تطفأ أو تحرق منا بشراً كثيراً. والرأي عندي أن نتدارك ما فعلنا... ونكتب إلى أبي بكر الصديق، فنخبره بطاعتنا وأن نؤدي إليه زكاتنا طائعين غير مكرهين، وأنا قد رضينا به خليفة وإماماً)).

ثم ذكر كتاب أبي بكر إلى الأشعث، وقال: ((فلما وصل الكتاب إلى الأشعث، وقرأه أقبل على الرسول، فقال: إن صاحبك أبا بكر هذا يلزمنا الكفر بمخالفتنا له، ولا يلزم صاحبه الكفر بقتله قومي وبني عمي.

فقال له الرسول: نعم يا أشعث يلزمك الكفر، لأن الله تبارك وتعالى قد أوجب عليك الكفر بمخالفتك لجماعة المسلمين))(4).

ــــــــــ

(1) تاريخ الطبري ج:2 ص:255  بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي، واللفظ له. البداية والنهاية ج:6 ص:313 فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة. معجم البلدان ج:2 ص:271 عند الكلام عن حضرموت. المحلى ج:11 ص:193 في مسألة:2199. تاريخ دمشق ج:25 ص:160 في ترجمة طليحة بن خويلدبن نوفل. الأغاني ج:2 ص:149 خبر الحطيئة ونسبه. تاريخ المدينة ج:2 ص:247 ـ 248، وفيه: أن قائلها الخفشيش، وأنه أخذ أسيراً وقتل صبراً.

(2) تاريخ الطبري ج:2 ص:260 ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة، واللفظ له. تاريخ دمشق ج:25 ص:164 في ترجمة طليحة بن خويلد.

(3) تاريخ الطبري ج:2 ص:261 ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة. الثقات ج:2 ص:166.

(4) الفتوح لابن أعثم المجلد الأول ص:49 ـ 57 في ذكر ارتداد أهل حضرموت من كندة ومحاربة المسلمين إياهم، وفي ذكر كتاب أبي بكر إلى الأشعث بن قيس ومن معه من قبائل كندة.