تجب الاستجابة للإمام المنصوص عليه مهما كانت النتائج
لكن ذلك كله لا يصلـح عذراً للصحابة، ولا لغيرهم مع الله تعالى، بل يجب على الناس طاعة الإمام المنصوص عليه، والاستجابة له، ونصره مهما كانت النتائج، وليس لهم الاجتهاد والنظر معه. إذ كثيراً ما يخفى وجه الصلاح على الناس فيما يفعله. نظير ما كان من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في صلـح الحديبية، الذي أنكره المسلمون لجهلهم بالعواقب، كما تقدم التعرض له في جواب السؤال الثاني من الأسئلة السابقة.
وكم صار الفشل العاجل سبباً للانتصار والفتح، على الأمد البعيد. ولو لم يكن للاستجابة في نصرة الحق والحرب على الباطل من ثمرة، إلا تنبيه الغافل، وإقامة الحجة لله تعالى، لكفى بذلك مكسباً عظيماً لدين الله تعالى، وأهل دعوته.
وفي حديث أبي سالم الجيشاني: ((سمعت علياً (رضي الله عنه) بالكوفة يقول: إني أقاتل على حق ليقوم. ولن يقوم. والأمر لهم. قال: فقلت لأصحابي: ما المقام ههنا وقد أخبرنا أن الأمر ليس لهم؟ فاستأذناه إلىمصر. فأذن لمن شاء منا، وأعطى كل رجل منا ألف درهم. وأقام معه طائفة منا))(1).
فتراه (صلوات الله عليه) لم يثنه علمه بغلبة معاوية عن القتال في سبيل الحق، وبقي معه أهل البصائر من أصحابه.
وفي حديث الأسود الديلي عن أبيه: ((عن علي (رضي الله عنه) قال: أتاني عبدالله بن سلام، وقد وضعت رجلي في الغرز، وأنا أريد العراق، فقال: لا تأتي (كذا في المصدر)العراق، فإنك إن أتيته أصابك به ذباب السيف. قال علي: وأيم الله لقد قالها لي رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قبلك.
قال أبو الأسود: فقلت في نفسي: يالله ما رأيت كاليوم، رجل محارب يحدث الناس بمثل هذا))(2).
فانظر إليه (صلوات الله عليه) كيف يخبر الناس بأنه سوف يقتل، ومع ذلك يدعوهم للجهاد معه! وما ذلك إلا لأن الهدف من الجهاد المذكور أسمى من الانتصار العاجل.
وقد كتب الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) من مكة المكرمة ـ وهو يعد العدة لنهضته ـ إلى بني هاشم في المدينة المنورة: ((بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم.. أما بعد فإن من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسلام))(3).
كما خطب (عليه السلام) في مكة المكرمة حين عزم على الخروج منها متوجهاً إلى العراق، فقال: ((الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف. وخِير لي مصرع أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة، بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت. نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين. لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده. ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً، إن شاء الله تعالى))(4).
فهو (عليه السلام) في الوقت الذي يتنبأ بقتله في خطبته هذه، وبقتل أهل بيته في كتابه السابق، يرى نفسه فاتحاً ـ كما سبق ـ ويستنصر الناس لهذا الفتح. وأي فتح هذا الذي يكون مع القتل والشهادة؟!
ذلك ما جهله كثير من الناس، فأشاروا عليه بترك الخروج، وعلمه هو(صلوات الله عليه) فأصر على الخروج. ووثق بقيادته (عليه السلام) خاصة شيعته، فتبعوه بخوعاً لأمر الله تعالى، ووفاءً لحق رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) ، واشتركوا معه في الشهادة، والفتح، والسعادة، التي كتبها الله تعالى له ولهم.
وعلى كل حال فواجب الأمة الانقياد للإمام المنصوص والاستجابة له، بغض النظر عن النتائج، عملاً بالتكليف الشرعي، ولأنه مسدد من قبل الله تعالى الذي أمر باتباعه. كما يأتي قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الثناء على خاصة شيعته من الصحابة : ((ووثقوا بالقائد فاتبعوه))(5).
هذا ما تأخذه الشيعة ـ بعد استيضاحهم النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ على الكثرة الكاثرة من الصحابة الذين تخلفوا في حادثة السقيفة عن الخليفة المنصوص عليه، ولم يستجيبوا لدعوته، ويشدوا أزره، وينصروه، ليسترجع الحق، كما أراده الله عز وجل.
عدم نصر الإمام المنصوص عليه لا يرجع للتعامي عن النص
وليس هذا منهم ـ حسب منظور الشيعة ـ عن جهل بالنص، ولا عن تعام عنه، أو ردّ له. بل هو لا يزيد على التقاعس عن أداء الواجب في نصرة الحق المعلوم والجهاد في سبيله. نظير تثاقل الصحابة في الخروج لغزوة بدر، كما أشار إليه قوله تعالى: ((كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ))(6).
وكذا فرارهم في معركتي أحد وحنين، وتخاذلهم يوم الخندق، وتخلف بعضهم عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) حينما خرج لغزوة تبوك، ونحو ذلك مما لا يرجع من كثير منهم إلى تكذيب النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في نبوته.
وكذا تقاعس أهل الكوفة عن نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أواخر أيامه، وعن نصرة الإمام الحسن(عليه السلام) ، وتقاعس المسلمين عن نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) حينما استنصرهم في مكة، وغيرها. حيث لا يرجع ذلك من كثير منهم إلى إنكار إمامتهم (صلوات الله عليهم)، وتجاهل النص عليهم.
ــــــــــ
(1) الفتن لنعيم بن حماد ج:1 ص:127 ما يذكر في ملك بني أمية وتسمية أساميهم بعد عمر(رضي الله عنه) .
(2) المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:151 كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) مما لم يخرجاه: ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) ، واللفظ له، وقال بعد ذكر الحديث: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)). صحيح ابن حبان ج:15 ص:127 باب إخباره (صلى الله عليه و سلم) عما يكون في أمته من الفتن والحوادث: ذكر الإخبار عن خروج علي بن أبي طالب(رضوان الله عليه) إلى العراق. موارد الظمآن ج:1 ص:545 باب في فضل علي (رضي الله عنه) . نظم درر السمطين ص:136 في ذكر أخبار النبي بقتله. تاريخ دمشق ج:42 ص:546 في ترجمة علي بن أبي طالب.
(3) كامل الزيارات ص:157 واللفظ له. بصائر الدرجات ص:502. نوادر المعجزات ص:110. دلائل الإمامة ص:188. الخرائج والجرائح ج:2 ص:771 ـ 772. وغيرها.
(4) مقتل الحسين للمقرم ص:193 ـ 194 السفر إلى العراق، واللفظ له. كشف الغمة ج:2 ص:239. بحار الأنوار ج:44 ص:366 ـ367.
(5) نهج البلاغة ج: 2 ص:109. ينابيع المودة ج:2 ص:29.
(6) سورة الأنفال الآية: 5 ـ 6.