بل تعدى الأمر ذلك إلى إغفال الأمويين ماضي الصحابة في خدمة الإسلام وعدم التذكير به.
فحين حضرت وفود الأنصار باب معاوية، وخرج إليهم حاجبه سعد أبو درة، قالوا له: استأذن لنا، فدخل وقال لمعاوية: الأنصار بالباب، وكان عنده عمرو بن العاص ـ وهو الذي نال من الأنصار في أعقاب حادثة السقيفة، وانتصر لهم منه أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى اضطره للخروج من المدينة، كما سبق ـ فالتفت لمعاوية حين سمع حاجبه يذكرهم باسم الأنصار ـ وهو اللقب الذي شاع لهم بين المسلمين، تبعاً للكتاب المجيد والسنة الشريفة ـ وقال له: ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسباً؟! ارددهم إلى نسبهم، فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعة، قال: وما في ذلك؟ إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها.
فقال معاوية لحاجبه: اخرج فناد: من بالباب من ولد عمرو بن عامر فليدخل. فخرج الحاجب، فنادى بذلك، فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلا الأنصار.
فقال معاوية: اخرج فناد: من كان هاهنا من الأوس والخزرج فليدخل، فخرج فنادى ذلك. فوثب النعمان بن بشير فأنشأ يقول:
يا سعد لا تعد الدعاء فما لنـا نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخــيره الإله لقومنـا أثقل به نسباً على الكفــار
إن الذين ثووا ببدر منكــم يوم القليب هم وقود النــار
وقام مغضباً فانصرف. فرده معاوية وترضاه، وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار(1).
بل ضاق مروان بن الحكم بحجر وضعه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) على قبر عثمان بن مظعون. وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة المنورة، فدفنه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بالبقيع وجعل على قبره حجراً، ليعرف به، ويدفن عنده من يموت من أهل بيت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) . فلما ولي مروان بن الحكم المدينة من قبل معاوية مر على ذلك الحجر، فأمر به فرمي به، وقال: ((لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به)).
فأتته بني أمية، فقالوا: بئس ما صنعت، عدت إلى حجر وضعه النبي (صلى الله عليه و سلم) ورميت به. بئس ما عملت به، فأمر به فليرد. قال: ((أما والله إذ رميت به فلا يرد))(2).
وذكر الزبير بن بكارأن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة ـ وهو ولي عهد ـ فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ومغازيه، فقال أبان: ((هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أثق به، فأمر بنسخها وألقى فيها إلى عشرة من الكتاب، فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل. فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا... ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين، لعله يخالفه. فأمر بذلك الكتاب فحُرِّق... فرجع سليمان بن عبد الملك فأخبر أباه... فقال عبد الملك: وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟! تعرف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها.
قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته... فصوب رأيه))(3).
وما موقف أهل المدينة من يزيد في خلعهم له، وموقفه منهم في واقعة الحرة بفجائعها وبشاعتها، إلا امتداد لموقف الآباء، وما بينهم من بغض مستحكم وعداء.
ومن الطريف بعد ذلك أن يستطيع الإعلام الأموي تشويه الحقائق، حتى جعل الجمهور من السنة يوالون معاوية وعمرو بن العاص وأضرابهما، ويدافعون عنهم، بملاك موالاة الصحابة، والدفاع عنهم، ويرون في موقف الشيعة منهم وطعنهم فيهم نيلاً من الصحابة، وتجاوزاً عليهم، متجاهلين موقف الصحابة من هؤلاء، وتقييمهم لهم، وموقف هؤلاء من الصحابة وعداءهم لهم.
ــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني ج:16 ص:56، واللفظ له، ص:50 ـ 51 باكورة شعر النعمان.
(2) تاريخ المدينة ج:1 ص:101 ـ 102 فيما ذكر في مقبرة البقيع وبني سلمة والدعاء هناك.
(3) الموفقيات ص:331 ـ 334 خبر أبان بن عثمان يكتب سير النبي(ص) ومغازيه.