بيعة أمير المؤمنين  (عليه السلام) رجوع الحق لأهله بنظر كثير من الصحابة 

بل الذي يبدو للمتأمل أن بيعة أمير المؤمنين(صلوات الله عليهم) قد ابتنت بنظر كثير من الصحابة والناس على كونه هو الأولى بالأمر ممن تقدمه، وأن الحق قد عاد لأهله، كما يشهد بذلك كثير من كلام أمير المؤمنين وغيره. وقد سبق عن أبي جعفر الإسكافي أن الصحابة اجتمعوا بعد مقتل عثمان للتشاور في أمر الخلافة، وأنهم ذكروا فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فمنهم من فضله على أهل عصره، ومنهم من فضله على المسلمين كلهم كافة.

ومن الظاهر رجوع القسم الثاني إلى تقديمه على الأولين، وفيه إيماء إلى كونه أولى منهم بالأمر.

كما سبق في جواب السؤال الثالث في جملة كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر الخلافة قوله في أول خطبة خطبها بعد بيعة الناس له: ((والتوبة من ورائكم. قد كانت (لكم) أمور (ملتم علي فيها ميلة) لم تكونوا عندي فيها محمودين ولا مصيبين...)).

وتقدم عن حذيفة أنه قال حينما بلغه استنفار أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس لنصرته على أهل البصرة:((إن الحسن وعماراً قدما يستنفرانكم. فمن أحب أن يلقى أمير المؤمنين حقاً حقاً فليأت علي بن أبي طالب))(1).

وقد روى اليعقوبي في تاريخه عند ذكر بيعة أمير المؤمنين  (عليه السلام) أن قوماً من الأنصار تكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكان خطيب الأنصار فقال: ((والله يا أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين. ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم. ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك. يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك))(2).

وقد روى الحاكم النيسابوري أن خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين أنشد حين البيعة أمام المنبر:

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنـا                          أبو حسن مما نخاف من الفـتـن

وجدناه أولى الناس بالناس إنه                         أطب قريش بالكتاب وبالسنـن

وإن قريشاً ما تشق غبـاره                           إذا ما جرى يوماً على الضمر البدن

وفيه الذي فيهم من الخير كلـه                       ومافيهم كل الذي فيه من حسـن(3)

 

 

 

 

 

 

ومن الظاهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم ينافسه أحد من قريش حين البيعة، فذكر خزيمة بن ثابت في هذه الأبيات لقريش لابد أن يكون تعريضاً بمن تقدم منهم عليه(عليه السلام) . بل مضمون الأبيات ظاهر في تقدمه (عليه السلام) على جميع قريش بما فيهم من تقدمه في الحكم.

وأظهر في ذلك بقية الأبيات التي رواها السيد المرتضى (قدس سره) وهي:

وصي رسول الله من دون أهلـه              وفارسه قد كان في سالف الزمـن

وأول من صلى من الناس كلهـم              سوى خيرة النسوان والله ذو المنن

وصاحب كبش القوم في كل وقعة              يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن

فذاك الذي تثنى الخناصر باسمـه              امامهم حتى أغيب في الكفـن(4)

 

وفي حديث الحسن بن سلمة قال: ((لما بلغ أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم) مسير طلحة والزبير وعائشة من مكة إلى البصرة نادى الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه و آله و سلم) قلنا: نحن أهل بيته، وعصبته، وورثته، وأولياؤه، وأحق خلائق الله به، لا ننازع حقه وسلطانه، فبينما نحن على ذلك إذ نفر المنافقون، فانتزعوا سلطان نبينا (صلى الله عليه و آله و سلم) منا، وولوه غيرنا، فبكت لذلك والله العيون والقلوب منا جميعاً، وخشنت والله الصدور... وقد ولي ذلك ولاة ومضوا لسبيلهم، ورد الله الأمر إليّ. وقد بايعني هذان الرجلان طلحة والزبير فيمن بايعني، وقد نهضا إلى البصرة، ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم. اللهم فخذهما بغشهما لهذه الأمة وسوء نظرهما للعامة.

فقام أبو الهيثم بن التيهان (رحمه الله) ، وقال: يا أمير المؤمنين إن حسد قريش إياك على وجهين، أما خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل، وارتفاعاً في الدرجة. وأما أشرارهم فحسدوك حسداً أحبط الله به أعمالهم، وأثقل به أوزارهم. وما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدموك، فبعدت عليهم الغاية، وأسقطهم المضمار، وكنت أحق قريش بقريش...))، ثم أنشد أبياتاً نذكر منها:

إن قوماً بغوا عليك وكادوك             وعابوك بالأمور القبـاح

ليس من عيبها جناح بعوض            فيـك حقاً ولا كعشر جنـاح

أبصروا نعمة عليك من اللـ             ـه وقرماً يدق قرن النطـاح

وإماماً تأوى الأمـور إليـه             ولجاماً يلين غرب الجمـاح

حاكماً تجمع الإمـامة فيـه             هـاشمياً له عراض البطـاح

يا وصي النبي نحن من الحـ           ـق على مثل بهجة الإصباح(5)

 

 

وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعقيب ابن التيهان عليه كما ترى شاهد على ما ذكرنا.

ولابن التيهان أبيات أخرى تشير لما ذكرنا يقول فيها:

 

قل للزبير وقل لطلحة إننـا            نحن الذين شعارنا الأنصـار

نحن الذين رأت قريش فعلنا            يوم القليب أولئك الكفـار

كنا شعار نبينا ودثـاره                 يفديه منا الروح والأبصـار

إن الوصي إمامنا وولينـا              برح الخفاء وباحت الأسرار(6)

 

وقال عبد الرحمن بن جعيل حين بويع أمير المؤمنين:

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظـة            على الدين معروف العفاف موفقاً

علياً وصي المصطفى وابن عمه         وأول من صلىأخاً الدين والتقى(7)

 

 

فإن النعوت التي نعت بها أمير المؤمنين (عليه السلام) تناسب تقدمه على غيره حتى الأولين.

وفي حديث لشريح بن هاني مع عمرو بن العاص حينما أرسله أمير المؤمنين  (عليه السلام) بنصيحة له قال شريح: ((فابلغته ذلك يوم لقيتة، فتمعر وجه عمرو، وقال: متى كنت أقبل مشورة علي أو أنيب إلى أمره، وأعتد برأيه؟!

فقلت: وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم(صلى الله عليه) مشورته. لقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه.

فقال: إن مثلي لا يكلم مثلك. فقلت: بأي أبويك ترغب عن كلامي، بأبيك الوشيظ، أم بأمك النابغة؟! فقام من مكانه...))(8).

ــــــــــــــــــــ

(1) أنساب الأشراف ج:2 ص:366 وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  .

(2) تاريخ اليعقوبي ج:2 ص:179 في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

(3) المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:124 كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) مما لم يخرجاه : ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) ، واللفظ له. الإصابة ج:2 ص:278 في ترجمة خزيمة بن ثابت بن الفاكه.

(4) الفصول المختارة ص:267.

(5) أمالي الشيخ المفيد ص:154 ـ 156.

(6) شرج نهج البلاغة ج:1 ص:143 ـ 144.

(7) شرج نهج البلاغة ج:1 ص:143.

(8) وقعة صفين ص:543، واللفظ له. ينابيع المودة ج:2 ص:23.