اللازم العمل لتخفيف حدة الخلاف المذهبي

وإذا كان أفراد المسلمين فعلاً مكتوفي اليد أمام الاختلاف السياسي المذكور، فإنهم يستطيعون نسبياً العمل لتخفيف حدة الخلاف المذهبي. وقد تقدم منا في جواب السؤال التاسع من الأسئلة السابقة الحديث حول هذا الموضوع، وبيان وجهة نظرنا فيه، فيحسن مراجعة ذلك بإمعان، والتدبر فيه بروية وموضوعية كاملة.

فإن ذلك بنفسه مكسب عظيم للمسلمين، حتى لو لم يترتب عليه بالآخرة جمعهم تحت حكم شخص واحد يقوم بأعباء الأمة، وإدارة أمرها وفق الشريعة الإسلامية.

بل حتى لو لم يتم على الصعيد العام المستوعب لجميع المسلمين، فإن حصوله بنحو فردي ـ مهما كان ضيقاً ـ مغنم مهم لا ينبغي الاستهوان به والتهاون فيه.

ومن هنا كان اللازم على كل فرد من المسلمين، غيور عليهم وعلى الإسلام، ويهمه خيرهم وصلاحهم، وخيره وصلاحه، السعي له بما يسعه ويقدر عليه. فإن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

 

اللازم الرجوع إلى مبدأ المأساة والبحث عن أسبابها

(ثانيهما): من الظاهر أن وضع الإسلام والمسلمين المؤلم، بل المأساوي الفجيع، لم يبدأ بهدم الخلافة في القرن الماضي، وإنهاء حكم الإسلام رسمياً، وإنما بدأ في عصور الإسلام الأولى، واستمر بسلبياته ومضاعفاته في حلقات متلاحقة من التدهور والتسافل، بنحو لابد أن ينتهي إلى هذه النهاية الفجيعة، فهي النهاية الطبيعية لتلك البدايات من الانحراف عن خط الإسلام القويم.

وإلا فمن هوان الدنيا على الله تعالى أن تصل الخلافة في هذا الدين العظيم إلى العثمانيين! ثم لم ترض الدنيا لنا بذلك حتى صار خروجها منهم بفجيعة المسلمين العظمى، وذلك بإنهاء حكم الإسلام رسمياً، وإلغاء الخلافة رأساً، ثم تقسيم بلاد الإسلام التي كانت تحكمها تلك الخلافة، وقيام دول متعددة فيها، وفي بقية بلاد الإسلام، علمانية، رسمياً أو عملياً. وهي تسعى جاهدة لإبعاد الإسلام، سياسياً، وثقافياً، وتقنيناً.

وبعد كل ذلك يا ترى ألا ينبغي للمسلم ـ ولا سيما المثقف المتبصر الغيور ـ أن يسأل نفسه عن أسباب هذا التدهور؟ وهل أن الله تعالى حين قضى أن يكون الإسلام هو الدين الخاتم للأديان، والباقي ما بقيت الأرض بأهلها، وحين أراد لهذا الدين أن يحكم في الأرض ويطبق عملياً فيها، لتنعم البشرية بخيراته وثمراته، وحين علم ـ وهو العالم بالغيب ـ بما يصير إليه أمر الإسلام والمسلمين من التسافل والتدهور، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، وحين أكمل دينه وأتم نعمته بتشريعاته القويمة، أتراه مع كل ذلك لم يعالـج هذه المشكلة في تشريعه؟!

وهل من المعقول أنه لم يجعل في ذلك التشريع القويم الحلول الواقية من هذا التدهور والتسافل، والكفيلة بعزة الإسلام وحكمه في الأرض، وبقاء رايته خفاقة فيها، وبتنعم البشرية بخيراته، وصلاحها وسعادتها تحت ظله الوارف، وبعدله الشامل، ومثله السامية؟! أترى هل يتقبل المنصف ذلك؟! وهل يرضى المؤمن الغيور به؟!

ثم ألا يكفي ذلك في إقامة الحجة على أن ما حصل من اليوم الأول وانتهى بهذه النهاية المأساوية إنما كان انحرافاَ عن خط الإسلام العظيم، وخروجاً عن تشريعه القويم، وصراطه المستقيم؟! وبعد كل ذلك فهل يعذر المسلم إذا لم يقف الموقف المناسب من ذلك الانحراف، ويبحث عن الحقيقة الدينية القويمة التي جعلها الله تعالى، وأكمل بها دينه وتشريعه وأتم نعمته على المسلمين؟!

كل هذه الأسئلة يجب على المسلم التبصر بها‍، والجواب عنها بموضوعية كاملة، وتجرد عن التراكمات والمسلمات، التي أكل الدهر عليها وشرب ((قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ))(1)، ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ))(2).

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وهو حسبنا ونعم الوكيل. وتقدم في أوائل جواب السؤال الرابع من هذه الأسئلة ما ينفع في المقام. فراجع.

 

س6 ـ ما قولكم فيما ورد من أمر الرسول(ص) لأبي بكر الصديق(رض) بإمامة المسلمين في صلاتهم إبان اشتداد مرضه(ص)، أليس فيها إشارة إلى أنه ارتضاه خليفة له من بعده؟

ج: الجواب عن ذلك يكون ببيان أمور..

 

احتجاج كل فرقة بما تنفرد بروايته احتجاج عقيم

(الأمر الأول): أن احتجاج المدعي على دعواه بما يختص هو بروايته ولا يشاركه فيه الخصم، احتجاج عقيم لا يثبت حقاً، ولا يدفع باطلاً، وهو احتجاج غير منطقي، ولا مقبول عند العقلاء. ومن ثم لا يكون حجة على الخصم، ولا ملزماً له.

ولو أراد الشيعة أن يحتجوا بما ينفردون هم بروايته، ويوثقونه وحدهم، من دون أن يبلغ حدّ التواتر ـ الملزم للكل ـ لزادت حججهم أضعافاً مضاعفة.

بل هو لا يكون عذراً بين يدي الله تعالى. وذلك لما يأتي في أواخر هذا الجواب ـ إن شاء الله تعالى ـ من أن الله عزوجل لابد أن يكون قد أوضح الحق في موارد الخلاف والنزاع، الموجب لافتراق المسلمين، حتى صار جلياً لا لبس فيه ولا غموض، بحيث لا يعذر الخارج عنه، بل هو إما معاند مكابر، أو مفرط مقصر.

فإن لازم ذلك أن يحتمل بدواً في حق كل طرف من أطراف النزاع أن يكون قد خرج عن الحق الواضح الجلي، عناداً أو تفريطاً. ومثل هذا لا يوثق بما يرويه في تأييد مذهبه، مهما بلغ حسن ظن أتباع ذلك المذهب فيه، وتوثيقهم لهم.

نعم بعد أن يعرف الحق، ويتميز عن الباطل ـ بأدلته القاطعة وبراهينه الجلية، التي لا لبس فيها ولا غموض ـ يعرف حينئذٍ المحق من المبطل، والأعمى من المبصر. ويتجه حينئذٍ حسن الظن بمن وفقه الله تعالى، فاهتدى للحق وأبصره، وتمسك به ولزمه. ويتعين الإعراض عمن خذله الله سبحانه وطبع على قلبه، فعمي عن الحق الواضح وجانبه، مهما كان شأنه عند أتباعه.

وإلى هذا يرجع قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : ((اعرف الحق تعرف أهله))(3) الذي تقدم في جواب السؤال الرابع من الأسئلة السابقة.

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة الأنعام الآية:149.

(2) سورة الغاشية الآية: 21 ـ 22.

(3) تفسير القرطبي ج:1 ص:340. فيض القدير ج:1 ص:210، ج:4 ص:17. البيان والتبيين ج:1 ص:491. تاريخ اليعقوبي ج:2 ص:210 في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. أنساب الأشراف ج:3 ص:35 وقعة الجمل.