أهمية أمر الخلافة تقضي بعدم الاكتفاء فيها بالإشارة

)الأمر الرابع): أن أهمية الخلافة في الدين تقضي بعدم الاكتفاء فيها بالإشارة والتلميح، ولاسيما مع كونها معترك المصالـح والمطامع.

فإن النصوص الصريحة في مثل ذلك قد يحاول المعارضون والطامعون تأويلها بما يناسب أهواءهم، وصرفها عما يراد بها من أجل تنفيذ مخططاتهم والوصول لأهدافهم، والدفاع عنها، فكيف بالإشارات والتلميحات التي قد يغفل عنها، كما يسهل التلاعب بها، والتحوير فيها، والخروج عنها؟!.

بل يكون الاكتفاء بالإشارة في مثل ذلك مثاراً للاختلاف والفتنة، وشق كلمة الأمة، وتركها في التيه وحيرة الضلال. وهو مما ينزه عنه تشريع الإسلام القويم، ويجل عنه نبيه العظيم (صلى الله عليه و آله و سلم)  .

 

لابد من كون الحقيقة واضحة لا لبس فيها

وقد كثر منا في جواب الأسئلة السابقة التأكيد على أن الحقيقة واضحة لا لبس فيها، وأن الله تعالى قد أقام عليها الحجة الكافية، التي لا يخرج عنها إلا مشاق معاند، أو مقصر متهاون، لا عذر لهما عند الله تعالى. ويحسن بنا أن نشير إلى وجه ذلك بغض النظر عن تعيين تلك الحقيقة وتحديدها. وقد سبق لنا حديث في بعض ما كتبناه ينفع في ذلك، يحسن أن نذكره بمضامينه، بل بأكثر ألفاظه.

 

تعرض الدعوات الإصلاحية لمعوقات تحول دون تنفيذها

وهو أنه كثيراً ما تتعرض الدعوات الإصلاحية لتناقضات ومشاكل، تحول دون تقدمها وانتشارها وسيطرتها على المجتمعات التي يفترض تكيفها معها، وتطبيقها فيها وتنفيذها لتعاليمها. إما لقصور في الدعوة نفسها، أو لمعوقات خارجية تقف في وجهها.

 

من المعوقات الخلافات والانشقاقات الداخلية

وإن من أهم تلك التناقضات والمشاكل ما يعرض على الدعوة من خلافات وانشقاقات، نتيجة الاجتهادات الخاطئة في تفسيرها، أو تعمد التحريف لها، والخروج المتعمد عنها، من أجل الأهداف والمصالـح المناقضة لصميم الدعوة وأهدافها، أو الضارة بها. وكم عصفت الخلافات والانشقاقات بالدعوات، حتى مسختها، وقضت عليها أخيراً.

 

محنة الأديان السماوية في الخلافات والانشقاقات

بل تنحصر محنة الأديان السماوية بذلك، لأنها في مأمن القصور والتناقضات، بعد أن كانت صادرة عن الله عزوجل،وهو الخالق المدبر اللطيف الخبير العليم الحكيم، الذي ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ))(1)، و((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ))(2)، وهو بكل شيء محيط. حيث لابد مع ذلك من كون النظام الذي يشرعه جل شأنه هو النظام الأكمل الصالـح للتطبيق في الظرف الذي يشرع فيه.

 

شدة تحذير القرآن الكريم من الخلافات

ولعله لذا حذر القرآن الكريم من التفرق والاختلاف، وحث على الوحدة والوفاق، وأكد على ذلك وشدد فيه.

قال سبحانه وتعالى: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ))(3).

وقال عزوجل:((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ))(4).

وقال عز من قائل: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ))(5)...إلى غير ذلك.

 

إعلان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  افتراق الأمة

ومع ذلك فقد أعلن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  مسبقاً عن اختلاف الأمة وتفرقها، كما تفرقت الأمم السابقة، واختلفت بعد أنبيائها. فقال: ((اختلف اليهود على إحدى وسبعين فرقة، سبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة. واختلف النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة. وتختلف هذه الأمة على ثلاثة (كذا في المصدر) وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة...))(6).

وهو المناسب لما ورد مستفيضاً أو متواتراً عنه (صلى الله عليه و آله و سلم)  من أن هذه الأمة ستجري على سنن الأمم السابقة.

ففي الحديث: ((لتتبعن سنن من كان من قبلكم شبر بشبر، وذراع بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!))(7).

حيث لا إشكال في افتراق الأمم السابقة، كما تكرر ذكر ذلك في الكتاب المجيد.

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة غافر الآية: 19.

(2) سورة سبأ الآية: 3.

(3) سورة آل عمران الآية: 103.

(4) سورة آل عمران الآية: 105.

(5) سورة الأنعام الآية: 159.

(6) مجمع الزوائد ج:6 ص:233 كتاب قتال أهل البغي: باب منه في الخوارج، واللفظ له، ج:7 ص:258 كتاب الفتن: باب افتراق الأمم واتباع سنن من مضى. تفسير القرطبي ج:4 ص:160. تفسير ابن كثير ج:2 ص:78. سنن الدارمي ج:2 ص:314 كتاب السير: باب في افتراق هذه الأمة. مصباح الزجاجة ج:4 ص:179 كتاب الفتن: باب افتراق الأمم. مسند أبي يعلى ج:6 ص:341 فيما رواه أبو نضرة عن أنس. المعجم الكبير ج:8 ص:273 فيما رواه أبو غالب صاحب المحجن واسمه حزور. اعتقاد أهل السنة ج:1 ص:103. السنة لابن أبي عاصم ج:1 ص:32 باب فيما أخبر به النبي (عليه السلام)  : أن أمته ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وذمه الفرق كلها إلا واحدة، وذكر قوله (عليه السلام)  : إن قوما سيركبون سنن من كان قبلهم. الترغيب والترهيب ج:1 ص:44. حلية الأولياء ج:3 ص:227. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(7) صحيح البخاري ج:6 ص:2669 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي (صلى الله عليه و سلم)  : لتتبعن سنن من كان قبلكم، واللفظ له، ج:3 ص:1274 كتاب الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل. سنن ابن ماجة ج:2 ص:1322 كتاب الفتن: باب افتراق الأمم. مجمع الزوائد ج:7 ص:261 كتاب الفتن: باب منه في اتباع سنن من مضى. المستدرك على الصحيحين ج:1 ص:93 كتاب الإيمان. صحيح ابن حبان ج:15 ص:95 باب إخباره عن ما يكون في أمته من الفتن والحوادث: ذكر البيان بأن قوله: سنن من قبلكم، أراد به أهل الكتابين. مسند أحمد ج:2 ص:327،511 مسند أبي هريرة (رضي الله عنه)  ، ج:3 ص:89 مسند أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)  . مسند الطيالسي ج:2 ص:289 ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وسلم)  : عطاء بن يسار عن أبي سعيد (رضي الله عنه)  . وغيرها من المصادر الكثيرة.