أهمية مواقع الاختلاف في الدين تلزم بوضوح الحجة عليها

وإذا كانت مواقع الخلاف بهذه الأهمية في الدين فلابد من وضوح الحجة عليها وجلائها، بحيث لا تقبل العذر والاجتهاد، بل لا يكون الخروج عنها إلا عن مشاقة وعناد متعمد، أو عن ضلال يعمي البصائر، مع التقصير في الفحص عن الحق والتعرف عليه، لتقليد، أو تعصب، أو نحوهما مما لا يعذر فيه الإنسان، كما قال عز من قائل: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ))(1).

فإن من المعلوم أن من أهم مقاصد البعثة والنبوة إقامة الحجة الكافية على معالم الهدى والإيمان، التي يتوقف على معرفتها النجاة من النار، والفوز بالجنة: ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ))(2). و((لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))(3).

وكما قال عز من قائل: ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))(4). وقد استفاضت بذلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.

 

وإذا كان الله عزوجل قد قال: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ))(5).

وقال: ((وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))(6).

فهل يكفي ذلك في رفع الاختلاف، وعدم التفرق ولزوم صراطه تعالى، إذا لم يوضح جل شأنه ـ بوجه قاطع ـ حبله تعالى المتين وكيفية الاعتصام به، وصراطه المستقيم، وما يتحقق به اتباعه، بل يبقى الأمر فيها عرضة للتفسيرات المختلفة، والاجتهادات المتباينة، لتدعي كل فرقة أنها هي المعتصمة بحبل الله عزوجل، دون غيرها؟!

بل الأمر أظهر من ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى أعدل وأكرم من أن يدخل عبيده النار من دون حجة واضحة ترفع الجهل وتقطع العذر، ولا تدع مجالاً للريب، ولا للنظر والتخرص والاجتهاد.

وذلك كله يقضي بما ذكرنا من أن الحقيقة في مواقع الخلاف الذي ينتهي بالآخرة إلى تفرق الأمة وانقسامها لابد أن تكون من البيان والجلاء ووضوح الحجة، بحيث ينحصر الخروج عنها في المشاقة والعناد المتعمد، أو العمى والضلال غير المعذر. ولا مجال لأن تكون مورداً للاجتهاد المعذر لو أخطأ.

ويؤكد ذلك قوله تعالى: ((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ))(7)، لظهوره في وجود البينات الكافية في المنع من اختلاف المسلمين لو تابعوها، ولم يتعمدوا الخروج عليها، ولا فرطوا في الوصول إليها.

ومثله قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): ((قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))(8).

لصراحته في وضوح الحق وجلائه، بحيث لا يلتبس على الأمة لو طلبته، وأن ليل الفتن، وظلمات المحن، ودياجي الشبهات والضلالات، لا تقوى على التلبيس فيه، وتضييع معالمه،

وطمس آثاره.

 

من أهم أسباب الخلاف السلطة

إذا عرفت هذا فمن الظاهر أن الإمرة على الناس والاستيلاء على السلطة من أهم أسباب الخلاف والشقاق بين الأمم وأصحاب الدعوات الإصلاحية العامة..

(أولاً): لأن حب السلطة والإمرة من أعمق الغرائز في نفس الإنسان، وأشدها استحكاماً فيها، وهو يقتضي التسابق على السلطان والتغالب عليه.

(وثانياً): لأن الحكم بالحق ـ الذي تقتضيه مبدئية الدعوة الإصلاحية ـ مرّ يصعب تحمله على عامة البشر، فهم يحاولون التمرد عليه والخروج عنه. ومن ثم يثقل عليهم أن يتسنم السلطة ذوو المبادئ الذين يحافظون على حرفية التشريع وحدوده، فيحاولون الخروج عليهم، وإبعادهم عن السلطة.

وإلى هذا يشير عمر بن الخطاب في قوله لابن عباس: ((والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله. ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق، لا يجدون عنده رخصة. ولئن فعل لينكثن بيعته، ثم ليتحاربن))(9).

 

الخلاف على السلطة أول خلاف ظهر في الأمة وأخطره

ومن هنا كان الخلاف في الإمامة والخلافة هو الخلاف الأول الذي ظهر بين المسلمين بعد الفراغ الذي حصل برحيل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)   للرفيق الأعلى.

وقد جرّ من الويلات على الأمة من صدر الإسلام ما لا يحيط به البيان، حتى انتهى بها إلى ما انتهت إليه من وضع بائس شنيع.

فلابد من أن يكون البيان الشرعي في الإمامة من الوضوح والجلاء والقوة والرصانة، بحيث يجعلها من الواضحات الجلية، وتكون بيضاء ليلها كنهارها، ليكون اختلاف المسلمين المذكور فيها اختلافاً منهم بعد أن جاءتهم البينات، وتظاهرت عليهم الحجج، التي يكون الخروج عنها سبباً للضلال، والهلاك، والخسران الدائم، والخلود في النار، كما تضمنته الأدلة المتقدمة.

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة الأعراف الآية: 179.

(2) سورة الأنفال الآية: 42.

(3) سورة النساء الآية: 165.

(4) سورة التوبة الآية: 115.

(5) سورة آل عمران الآية: 103.

(6) سورة الأنعام الآية: 153.

(7) سورة آل عمران الآية: 105.

(8) مسند أحمد ج:4 ص:126 حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلى الله عليه و سلم)  ، واللفظ له. تفسير القرطبي ج:7 ص:138. سنن ابن ماجة ج:1 ص:15 باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين. المستدرك على الصحيحين ج:1 ص:175 كتاب العلم. السنة لابن أبي عاصم ج:1 ص:19. المعجم الكبير ج:18 ص:247 ما رواه عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية، ص:257 ما رواه جبير بن نفير عن العرباض. الترغيب والترهيب للمنذري ج:1 ص:47. مصباح الزجاجة ج:1 ص:5 كتاب اتباع السنة. وغيرها من المصادر.

(9) تاريخ اليعقوبي ج:2 ص:159 في أيام عمر بن الخطاب.