س7ـ هل يصح اختصاص الأئمة بعلم قضايا حيوية وضرورية في الدين، دون غيرهم؟‍‍ مع أن الله تعالى يقول: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)) المائدة/3.

ج: يحسن التعرض في جواب ذلك لأمور..

 

اختصاص الأئمة (عليهم السلام)  بعلم الدين لا ينافي إكماله

(الأمر الأول): أن اختصاص الأئمة(صلوات الله عليهم) بشيء من علوم الدين لا ينافي إكماله. فإن إكمال الدين عبارة عن تشريع جميع أحكامه، وتثبيتها في حق الأمة. أما إيصالها للناس وتبليغهم بها، وإقامة الحجة عليها، فهو أمر خارج عن جعلها وإكمالها، وإنما يكون بعد ذلك في مرحلة لاحقة.

ونظير ذلك في عصورنا القوانين الوضعية السائدة. فإنها تقنن أولاً من قبل المجلس التشريعي كاملة، ثم تعلن للناس بعد ذلك من طريق الجريدة الرسمية أو الإذاعة أونحوهما.

نعم لا تترتب الفائدة من تشريع الأحكام إلا بتبليغها للناس، ليعملوا عليها، وينتفعوا بها. فلابد من صدوره من قبل الله تعالى، بمقتضى حكمته، ولطفه بعباده. وعلى ذلك تبتني قاعدة اللطف، التي استدل بها الإمامية على وجوب إرسال الرسل ونصب الأئمة. وهو أمر آخر غير توقف إكمال الدين على التبليغ.

 

يكفي تمكين الأمة من معرفة الأحكام بتعيين المرجع فيها

لكن ذلك لا يقتضي إعلام جميع أفراد الأمة بها وتبليغهم بها مباشرة، بحيث لا يحتاجون في معرفتها إلى غيرهم. بل يكفي فيه تمكينهم من معرفتها. وذلك بإيداع الأحكام عند الأئمة (عليهم السلام)  ، أو إطلاعهم على مفاتيح العلم بها، ثم نصب الأئمة (عليهم السلام)  على الأمة، وجعلهم أدلاء لها على الحلال والحرام، ومرجعاً لها في معرفة التشريع والأحكام، والتنويه بهم (عليهم السلام)  وإقامة الحجة الكافية عليهم، لترجع الأمة إليهم وتتفقه عنهم.

نظير الحال في عصر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  ، حيث لا ريب في عدم معرفة جميع أفراد الأمة المعاصرين له بجميع أحكام الدين وتشريعاته، وإنما كان علمها عنده (صلى الله عليه و آله و سلم)  ، مع تمكين أفراد الأمة منها، بأمرهم بالرجوع إليه (صلى الله عليه و آله و سلم)  والأخذ منه، والطاعة له.

بل لا ريب عند جمهور السنة بل جميع المسلمين في أن عامة الناس في جميع العصور تجهل كثيراً من الأحكام، التي يتضمنها الكتاب المجيد والسنة الشريفة وسائر الأدلة ـ على الخلاف في تعيينها ـ وأنهم لا يستطيعون معرفتها إلا بالرجوع للفقهاء الذين يستطيعون استنباط الأحكام من تلك الأدلة، من دون أن ينافي ذلك كمال الدين وتمام التشريع.

ومن الظاهر أن الأئمة من أهل البيت(صلوات الله عليهم) عند الشيعة أولى من أولئك الفقهاء، بأن يكونوا مرجعاً للأمة، لأنهم (عليهم السلام)  معصومون من الخطأ، وإيكال الأمر إليهم لا يضيع شيئاً على الأمة، بخلاف الفقهاء، حيث قد يضيع بالرجوع إليهم كثير من الأحكام، نظراً لنقصهم وتعرضهم للخطأ والخلاف، كما هو ظاهر.

نعم لو أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)  كتموا ما عندهم من علم الدين وبخلوا على الأمة به لكان تخصيصهم بشيء منه سبباً في ضياعه على الأمة وحرمانها منه.

لكن من المعلوم أنهم (عليهم السلام)  لم يكتموا علم الدين عمن طلبه منهم، وأنهم قد تهيئوا لهداية الأمة وإرشادها وتثقيفها بالثقافة الدينية الصحيحة. بل اشتهر عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)  أنه كان يقول: ((سلوني قبل أن تفقدوني))(1)،وسبق في جواب السؤال الثالث نحو ذلك عن ولده الإمام الصادق(عليه السلام).

إلا أن الأمة ـ بسلاطينها وولاتها، ومن سار في فلكهم، وتوجه وجهتهم ـ قد اعرضت عنهم، بل ضيقت عليهم وحاصرتهم، وكان نتيجة ذلك حرمانها من خيرهم ومعارفهم. ومع ذلك فقد ظهر منهم الكثير الطيب، وفاز شيعتهم بأفضل نصيب، كما سبق في جواب السؤال الثالث.

 

روى الجمهور من السنة لكثير من الصحابة الامتياز بالعلم

(الأمر الثاني): أن جمهور السنة يدعون لكثير من الصحابة الامتياز ببعض المعارف الدينية، والتفرد بمعرفة بعض أحكام الشريعة، ويروون الحديث في ذلك.

فعن مسروق أنه قال: ((كنا نأتي عبد الله بن عمرو، فنتحدث إليه ـ وقال ابن نمير: عنده ـ فذكرنا يوماً عبد الله بن مسعود، فقال: لقد ذكرتم رجلاً لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  : سمعت رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  يقول: خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد ـ فبدأ به ـ ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة))(2).

وعن ابن غنم: ((سمعت أبا عبيدة وعبادة بن الصامت ـ ونحن عند أبي عبيدة ـ يقولان: قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  : معاذ بن جبل أعلم الأولين والآخرين بعدالنبيين والمرسلين. وإن الله يباهي به الملائكة))(3).

وعن ابن عباس أنه قال: ((خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية، وقال: يا أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي ابن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له والياً وقاسماً))(4).

وقال ابن حجر العسقلاني: ((وصح عن عمر أنه قال: من أراد الفقه فليأت معاذاً))(5).

وعن يزيد بن عمير قال: ((لما حضر معاذ بن جبل  (رضي الله عنه)  الموت قيل له: أوصنا يا أبا عبد الرحمن. قال أجلسوني، فإن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول: ذلك ثلاث مرات. فالتمسوا العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام، الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعت رسول الله  (صلى الله عليه و سلم)  يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة))(6)... إلى غير ذلك.

وما أدري لماذا لا يستكثر ذلك على هؤلاء، ويستكثر مثله على أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم)؟!، ولماذا لا يكون اختصاص هؤلاء ببعض العلم منافياً لكمال الدين، ويكون اختصاص أئمة أهل البيت (عليهم السلام)  ببعض العلم منافياً لكماله؟! مع أن أئمة أهل البيت قد توارثوا ما عندهم من العلم أباً عن جد عن أمير المؤمنين  (عليه السلام) ، الذي لا أظنك تستكثر عليه أنه من علماء الصحابة وساداتهم، إذا لم تقبل من الشيعة وجماعة من السنة أنه أعلمهم وسيدهم.

ــــــــــــــــــــ

(1) تقدمت مصادره في جواب السؤال الثالث في ص: 120.

(2) صحيح مسلم ج:4 ص:1913، واللفظ له، ص:1914 كتاب فضائل الصحابة (رضي الله عنهم)  : باب من فضائل عبدالله بن مسعود وأمه (رضي الله عنهما)  . صحيح البخاري ج:3 كتاب فضائل الصحابة ص:1372 باب مناقب سالم مولى أبي حذيفة (رضي الله عنه)  ، وباب مناقب عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه)  ، ص:1385 باب مناقب أبي بن كعب (رضي الله عنه)  ، ج:4 ص:1912 كتاب فضائل القرآن: باب القراء من أصحاب النبي (صلى الله عليه و سلم)  . المستدرك على الصحيحين ج:3 كتاب معرفة الصحابة ص:250 ذكر مناقب سالم مولى أبي حذيفة (رضي الله عنه)  ، ص:605 ذكر عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي (رضي الله عنه)  . سنن الترمذي ج:5 ص:674 كتاب كتاب المناقب عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  : باب مناقب عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه)  . السنن الكبرى للنسائي ج:5 ص:9 كتاب فضائل القرآن: ذكر الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  . مسند أحمد ج:2 ص:189 مسند عبدالله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)  . وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(3) المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:304 كتاب معرفة الصحابة: ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل (رضي الله عنه)  ، واللفظ له. سير أعلام النبلاء ج:1 ص:460 في ترجمة معاذ بن جبل. الكشف الحثيث ج:1 ص:178 في ترجمة عبيد بن تميم. لسان الميزان ج:4 ص:118 في ترجمة عبيدبن تميم.

(4) مجمع الزوائد ج:1 ص:135 كتاب العلم: باب أخذ كل علم من أهله، واللفظ له. المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:306 كتاب معرفة الصحابة: باب ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل (رضي الله عنه)  . السنن الكبرى للبيهقي ج:6 ص:210 كتاب الفرائض: باب ترجيح قول زيد بن ثابت على قول غيره من الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين) في علم الفرائض. السنن الكبرى للنسائي ج:2 ص:156 كتاب الجهاد: باب ما جاء في فضل المجاهدين على القاعدين. وغيرها من المصادر.

(5) فتح الباري ج:7 ص:126.

(6) المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:304 كتاب معرفة الصحابة: ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل (رضي الله عنه)  . صحيح ابن حبان ج:16 ص:122 باب صفة النار وأهلها: ذكر البيان بأن عبدالله بن سلام عاشر من يدخل الجنة. السنن الكبرى للنسائي ج:5 ص:70 كتاب المناقب: عبدالله بن سلام (رضي الله عنه)  . مسند أحمد ج:5 ص:242 حديث معاذ بن جبل (رضي الله تعالى عنه). وغيرها من المصادر.