وقال السخاوي: ((وقد قارن حافظ الشام ابن ناصر الدين بين الذهبي والبرزالي والمزي فحكم للمزي بالتفوق في معرفة رجال طبقات الصدر الأول، وللبرزالي في العصرين ومن قبلهم من الطبقات القريبة منهم، وللذهبي في الطبقات المتوسطة بينهما. تأييداً لقول بعض مشايخه.
على أن الأهواء قلما تتغلب على المزي والبرزالي في تراجم الناس، بخلاف الذهبي. وقد انتقده على خطته في تراجم الناس انتقاداً مراً الحافظ ابن المرابط محمد ابن عثمان الغرناطي، والتاج ابن السبكي، ونسباه إلى التعصب المفرط. ولا تخلو خطته في التراجم من ذلك. لاسيما في تراجم الحشوية ومخالفيهم...))(1).
وإذا كان هذا حاله مع من يوافقه في المذهب ممن على خلاف هواه، فكيف يكون حاله مع الشيعة؟! بل يظهر نصبه بوضوح لمن تصفح كتبه. ويأتي بعض شواهد ذلك.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلماتهم الآتية في الطعون العامة الطعن من بعضهم في رجال آخرين غير من تقدم.
(القسم الثاني): الطعون العامة التي تسلب الثقة بعامة أهل الجرح والتعديل من الجمهور، لاختلاط الأمر بسببها..
)منها): طعن الأقران بعضهم في بعض بهوى، حيث يظهر شيوعه فيهم، فقد سبق من الحسن بن محمد بن جابر أن محمد بن يحيى الذهلي تكلم في البخاري حسداً له. وسبق من ابن حجر أن أبا نعيم قد تكلم في ابن مندة بهوى، وأن ابن مندة قد تكلم فيه بكلام فظيع لا يحب ذكره. ومع ذلك هما عنده معاً مقبولان. وقال في تتمة حديثه المتقدم هناك: ((كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به. ولاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، لا ينجو منه إلا من عصم الله. وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى النبيين والصديقين. ولو شئت لسردت من ذلك كراريس))(2).
وقال أيضاً في الحديث عن عمرو بن علي، بعد أن نسب لعلي ابن المديني التحامل عليه: ((قال الحاكم: وقد كان عمرو بن علي أيضاً يقول في علي بن المديني. وقد أجلًّ الله تعالى محلهما جميعاً عن ذلك. يعني: أن كلام الأقران غير معتبر في حق بعضهم بعضاً. إذا كان غير مفسر لا يقدح))(3). ويأتي له كلام آخر يتضمن ذلك.
وقال الذهبي: ((وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض، ينبغي أن يطوى، ولا يروى، ويطرح، ولا يجعل طعناً. ويعامل الرجل بالعدل والقسط))(4).
وقال أيضاً في الحديث عن ابن أبي داود، وهو الذي تكلم في حديث غدير خم(5)، بل أنكره(6): ((قال أحمد بن يوسف الأزرق: سمعت أبا بكر ابن أبي داود يقول: كل الناس مني في حل إلا من رماني ببغض علي (رضي الله عنه) . قال الحافظ ابن عدي: كان في الابتداء ينسب إلى شيء من النصب، فنفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط، فرده ابن عيسى، فحدث وأظهر فضائل علي... قلت: كان شهماً قوي النفس. وقع بينه وبين ابن جرير وبين ابن صاعد وبين ابن عيسى الذي قربه. قال محمد بن عبدالله القطان:كنت عند ابن جرير، فقيل: ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل الإمام علي. فقال ابن جرير: تكبيرة من حارس. قلت: لا يسمع هذا من ابن جرير، للعداوة الواقعة بين الشيخين))(7).
وقال الذهبي أيضاً: ((ابن أبي داود الحافظ العلامة قدوة المحدثين أبو بكر عبد الله بن الحافظ الكبير أبي داود... وأما كلام أبيه فيه فلا أدري أيش تبين له منه... وسمعت علي بن عبد الله الداهري: سمعت محمد بن أحمد بن عمرو: سمعت علي بن الحسين بن الجنيد: سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله كذاب. ثم قال ابن عدي: وكان ابن صاعد يقول: كفانا أبوه بما قال فيه... قلت: لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه. كما لم نعتد بتكذيبه لابن صاعد. وكذا لا يسمع قول ابن جرير فيه. فإن هؤلاء بينهم عداوة بينة. فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض. وأما قول أبيه فيه فالظاهر أنه إن صح عنه فقد عنى أنه كذاب في كلامه. لا في الحديث النبوي. وكأنه قال هذا وعبدالله شاب طري، ثم كبر وساد))(8).
وقال أيضاً: ((وذكر البخاري هنا فصلاً حسناً عن رجاله، وإبراهيم ابن سعد وصالـح ابن كيسان، فقد أكثرا عن ابن إسحاق. قال البخاري: ولو صح عن مالك تناوله من ابن إسحاق فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد، ولا يتهمه في الأمور كلها.
قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في الموطأ. وهما ممن يحتج بهما. ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتناول بعضهم في العرض والنفس. ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة. ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة. والكلام في هذا كثير.
قلت: لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر، ولا من الكلام بنفس حادّ فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة. وقد علم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به، ولاسيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف. وهذان الرجلان (يعني: محمد ابن فليح ومالك) كل منهما قد نال من صاحبه. لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة. وارتفع مالك، وصار كالنجم. فله ارتفاع بحسبه. ولا سيما في السير. وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذّ فيه، فإنه يعد منكراً...))(9).
ومن الظاهر أن هذا الطعن يرجع إلى ضعف دين الطاعن وقلة ورعه، فكيف يوثق بطعنه وجرحه، بل حتى بتوثيقه وتعديله؟! لأنه إذا لم يحجزه دينه عن طعن قرينه بهوى، عداوة وحسداً، فهو لا يحجزه عن مدح من لا يستحق المدح وتعديله بهوى أيضاً، لإحسانه إليه، أو لأنه يأمل منه نفعاً أو لغير ذلك. كما لا يختص بالأقران، بل يجري في غيرهم، حتى ممن هو أسبق عصراً، إذ لا يختص الحب والبغض بالأقران ولا المتعاصرين، كما لا يخفى.
ــــــــــــــــــــ
(1) هامش ذيل تذكرة الحفاظ للكوثري ص:35ـ36 نقلاً عن السخاوي في الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التواريخ.
(2) لسان الميزان ج:1 ص:201 في ترجمة أحمد بن عبدالله الحافظ أبي نعيم الأصبهاني.
(3) تهذيب التهذيب ج:8 ص:71 في ترجمة عمرو بن علي بن بحر بن كنيز الباهلي.
(4) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص:24.
(5) سير أعلام النبلاء ج:14 ص:274 في ترجمة محمد بن جرير. تذكرة الحفاظ ج:2 ص:713 في ترجمة محمدبن جرير بن يزيد بن كثير.
(6) معجم الأدباء ج:18 ص:84 في ترجمة محمد بن جرير الطبري.
(7) سير أعلام النبلاء ج:13 ص:230 في ترجمة أبي بكر السجستاني.
(8) تذكرة الحفاظ ج:2 ص:767 ـ 772 في ترجمة ابن أبي داود.
(9) سير أعلام النبلاء ج:7 ص:40 ـ 41 في ترجمة ابن إسحاق.