الجرح لاختلاف المذهب أو الرأي أو السلوك

(ومنها): الجرح والتضعيف لاختلاف المذهب أو الرأي والسلوك أو غير ذلك مما لا ينافي الوثاقة أيضاً. حيث يظهر منهم أيضاً شيوع ذلك من أهل الجرح والتعديل. فقد سبق كلامهم في أحمد بن حنبل فيمن خالفه في مسألة خلق القرآن، وكلام ابن حبان في الجوزجاني، وأنه من صلابته في السنة ربما تعدى طوره. وكذلك كلام ابن حجر في الجوزجاني أيضاً. كما تقدم من الذهبي الحديث عن كلام يحيى بن معين في الشافعي، ومن السبكي وغيره في بيان مواقف الذهبي ممن يخالفه في المذهب.

وقال القرطبي عن الحارث الأعور الهمداني صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) :((رماه الشعبي بالكذب. وليس بشيء. ولم يبن من الحارث كذب. وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي، وتفضيله له على غيره. ومن ههنا ـ والله أعلم ـ كذبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر:وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث، وكان أحد الكذابين))(1).

وقال ابن حجر: ((واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد. فينبغي التنبه لذلك، وعدم الاعتداد به إلا بحق. وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا، فضعفوهم لذلك. ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط. والله الموفق.

وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف بعض الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره. أو للتحامل بين الأقران. وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه، أو أعلى قدراً، أو أعرف بالحديث. فكل هذا لا يعتبر به))(2).

وقال السبكي: ((ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك. وإليه أشار الرافعي بقوله: وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل، أو تزكية فاسق. وقد وقع هذا لكثير من الأئمة، جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب. وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الاقتراح إلى هذا. وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام.

قلت: ومن أمثلة ما قدمنا قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فيالله والمسلمين! أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك، وهو حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة. ثم يالله والمسلمين أتجعل ممادحه مذام، فإن الحق في مسألة اللفظ معه. إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى. وإنما أنكرها الإمام أحمد (رضي الله عنه)  لبشاعة لفظها.

ومن ذلك قول بعض المجسمة في أبي حاتم ابن حبان: لم يكن له كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان، لأنه أنكر الحد لله. فياليت شعري من أحق بالإخراج من يجعل ربه محدوداً، أو من ينزهه عن الجسمية؟! وأمثلة هذا تكثر.

وهذا شيخنا الذهبي (رحمه الله)  من هذا القبيل له علم وديانة، وعنده على أهل السنة تحمل مفرط، فلا يجوز أن يعتمد عليه...))(3)... إلى آخر ما تقدم منه عن الذهبي.

 

لم يسلم أحد من الطعن حتى أئمة الجمهور وأضرابهم

ولذا يظهر من كلماتهم أنه لم يسلم من الطعن أحد، حتى أئمة الجمهور وأضرابهم. فقد تقدم الطعن في الشافعي، وأحمد بن حنبل. وأكثر الخطيب البغدادي من ذكر كلمات الطاعنين في أبي حنيفة(4). وتقدم حديث الذهبي عن مالك.

وقال أيضاً: ((هذا مالك هو النجم الهادي بين الأمة، وما سلم من الكلام فيه. ولو قال قائل عند الاحتجاج بمالك فقد تكلم فيه، لَعُذر وأهين. وكذلك الأوزاعي ثقة حجة. وربما انفرد، ووهم. وحديثه عن الزهري فيه شيء ما. وقد قال فيه أحمد بن حنبل: رأي ضعيف، وحديث ضعيف. وقد تكلف لمعنى هذه اللفظة. وكذا تكلم من لا يفهم في الزهري، لكونه خضب بالسواد، ولبس زي الجند، وخدم هشام بن عبدالملك. وهذا باب واسع. والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث. والمؤمن إذا رجحت حسناته وقلت سيئاته فهو من المفلحين. هذا إن لو كان ما قيل في الثقة الرضي مؤثراً. فكيف وهو لا تأثير له؟!))(5).

وبعد كل ذلك كيف يتيسر جعل الضوابط المقبولة عقلائياً، والتي عليها المعيار شرعاً في الجرح والتعديل، ورد الحديث وقبوله؟!.

 ومن الطريف ماسبق عن البخاري من أن العدالة لا تسقط إلا ببرهان ثابت وحجة. إذ أي حجة على سقوط العدالة أقوى من طعن الشخص على العادل ونيله منه بهوى، أو طعن الثقة العادل فيه؟! ولاسيما وأن إثبات العدالة للشخص هو الذي يحتاج إلى دليل قاطع لا شبهة فيه.

ومثله قول الذهبي المتقدم: ((والماء إذا بلغ...)) فإن الحديث ليس عن الثواب والعقاب، ليقال: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ))(6)، والمؤمن إذا رجحت حسناته وقلت سيئاته فهو من المفلحين. وإنما المهم وثاقة الراوي وضبطه وعدمهما، وكيف يمكن إحرازهما مع ما سبق؟!

وأطرف من ذلك تأويل الذهبي المتقدم لكلام أبي داود في ابنه عبدالله. إذ فتح الباب لمثل هذه التأويلات يزيد في التباس الأمر، وضياع المعالم، وفقد الضوابط، كما هو ظاهر.

ولنكتف بهذا المقدار من الحديث عن مطاعن أهل الجرح والتعديل، ونترك للمتتبع المزيد من ذلك.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير القرطبي ج:1 ص:5.

(2) مقدمة فتح الباري ج:1 ص:385.

(3) طبقات الشافعية الكبرى ج:2 ص:12 ـ 13 في ترجمة أحمد بن صالـح المصري.

(4) تاريخ بغداد ج:13 ص:369 ـ 453 في ترجمة النعمان بن ثابت.

(5) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص:25ـ 26.

(6) سورة هود الآية: 114.