الكلام حول ما تضمن أن حب علي (عليه السلام)  إيمان وبغضه نفاق

)الأمر الأول): محاولة حمل ما تضمن أن أمير المؤمنين (عليه السلام)  لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، على من يبغضه لأجل نصره لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)  ، دون من يبغضه لا من أجل ذلك، بل لتخيل قتله (عليه السلام)  لعثمان أو ممالأته عليه، أو لأنه قتل أقاربه في حروبه.

وهو ـ كما ترى ـ حمل غريب، حيث لا خصوصية في ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام)  بل يجري في كل من نصر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  من المؤمنين، مهما كان شأنه.

بل حتى من الكفار والمشركين، كهشام بن عمرو بن الحارث، وزهير ابن أبي أمية المخزومي، وزمعة بن الأسود، وأبي البختري بن هشام، الذين سعوا في نقض الصحيفة القاطعة على بني هاشم بعدما حوصروا في الشعب(1). وكذا المطعم بن عدي، الذي سعى في نقضها، وأجار النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  حينما رجع من الطائف(2). فإن بغضهم من أجل نصرهم النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  فيما قاموا به نفاق.

وحمل هذه الأحاديث الكثيرة الواردة في حق أمير المؤمنين (صلى الله عليه و آله و سلم)  على ذلك تجريد لها عن معناها، إلى معنى من الوضوح بحد يكون معه بيانه عبثاً لا يستحسن، خصوصاً من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب.

بل هو لا يتناسب مع تأكيد أمير المؤمنين (عليه السلام)  على ذلك في خلافته، تعريضاً بمناوئيه ومحاربيه في مثل قوله (عليه السلام)  : ((لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بحماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني. وذلك لأنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي (صلى الله عليه و آله و سلم)  قال لي: يا علي لايبغضك مؤمن، ولايحبك منافق))(3)، ولا مع قول عمر لمن رآه يسب أمير المؤمنين (عليه السلام)  : ((إني أظنك منافقاً))(4).

ولا مع تأكيد غير واحد من الصحابة على أنهم كانوا يعرفون المنافقين في عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)  ببغضهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)   (5).

لوضوح أن الذين كانوا يبغضونه (عليه السلام)  لا يعلنون أنهم أبغضوه لنصرته لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)  . بل يعلم بأن كثيراً منهم إنما كانوا يبغضونه لخشونته في الحق، ولو أنه لانَ معهم وداهنهم لم يبغضوه.

وفي حديث بريدة الذي كان يبغض أمير المؤمنين ويحب من أبغضه(6)، قال: ((بعث رسول الله (صلى الله عليه و سلم)   علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد بن الوليد على الجبل، قال إن اجتمعتما فعلي على الناس. فالتقوا، وأصابوا من الغنائم مالم يصيبوا مثله. وأخذ علي جارية من الخمس. فدعا خالد بن الوليد بريدة، فقال: اغتنمها، فأخبر النبي (صلى الله عليه و سلم)  ما صنع. فقدمت المدينة، ودخلت المسجد ورسول الله (صلى الله عليه و سلم)  في منزله، وناس من أصحابه على بابه... فقالوا: ما أقدمك؟ قلت: جارية أخذها علي من الخمس، فجئت لأخبر النبي (صلى الله عليه و سلم)  . قالوا: فأخبر النبي   (صلى الله عليه و سلم) ،فإنه يسقط من عين النبي (صلى الله عليه و سلم)  ، ورسول الله (صلى الله عليه و سلم)  يسمع الكلام، فخرج مغضباً، فقال: ما بال أقوام ينتقصون علياً. من تنقص علياً فقد تنقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني. إن علياً مني، وأنا منه، خلق من طينتي، وخلقت من طينة إبراهيم. وأنا أفضل من إبراهيم ((ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)). يا بريدة أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ. وأنه وليكم بعدي. فقلت: يا رسول الله بالصحبة ألا بسطت يدك، فبايعتني على الإسلام جديداً. قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام))(7).

وفي هذا الحديث دلالة على أن حب أمير المؤمنين (عليه السلام)  ركن من أركان الإسلام، حيث جدد بريدة البيعة على الإسلام بسببه.

وفي حديثه الآخر: ((قال أبغضت علياً بغضاً لم أبغضه أحداً قط. قال: وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه علياً (رضي الله عنه)  . قال: فبعث ذلك الرجل على جيش، فصحبته، ما صحبته إلا ببغضه علياً (رضي الله عنه)   ... فكتب الرجل إلى نبي الله (صلى الله عليه و سلم)  فقلت: ابعثني مصدقاً. قال: فجعلت أقرأ الكتاب، وأقول: صدق. قال: فأمسك يدي والكتاب، وقال: أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً. فو الذي نفس محمد (صلى الله عليه و سلم)  بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة...))(8).

وفي حديث عمرو بن شاس الأسلمي، وكان ممن شهد الحديبية، قال: ((خرجت مع علي  (عليه السلام)  إلى اليمن، فجفاني في سفري ذلك، حتى وجدت في نفسي عليه. فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد، حتى سمع بذلك رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  ... قال: يا عمرو، والله لقد آذيتني. قلت: أعوذ بالله من أذاك يا رسول الله. قال: بلى. من آذى علياً فقد آذاني))(9).

وفي حديث أبي رافع في قضية عمرو بن شاس هذا، قال: ((فرجع وهو يذم علياً ويشكوه، فبعث إليه رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  ، فقال: أخبرنا عمرو، هل رأيت من علي جوراً في حكمه، أو أثرة في قسمه؟ قال: اللهم لا. قال: فعلى ما تقول ما يبلغني؟ قال: بغضه لا أملكه. قال: فغضب رسول الله (صلى الله عليه و سلم)  حتى عرف ذلك في وجهه، ثم قال: من أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله تعالى))(10).

وفي حديث سعد بن أبي وقاص، قال: ((كنت جالساً في المسجد أنا ورجلان معي، فنلنا من علي (رضي الله عنه)  ، فأقبل رسول الله  (صلى الله عليه و سلم) غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه. فقال: ما لكم وما لي. من آذى علياً فقد آذاني))(11)... إلى غير ذلك مما لا مجال لحمله على خصوص من أبغض أمير المؤمنين(صلوات الله عليه) لنصرته للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم)  .

 

في أن أمير المؤمنين  (عليه السلام)  عَلَم يعرف به المؤمن من المنافق

ومن هنا لا ريب في أن المراد بهذه الأحاديث ونحوها جعل أمير المؤمنين (عليه السلام)  علماً يعرف به المؤمنون والمنافقون. خصوصاً بعد ارتحال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)  للرفيق الأعلى، حيث تقبل الفتن وتختلط الأوراق. فيناسب ما صرحت به بعض الأحاديث الجارية هذا المجرى، كقوله (صلى الله عليه و آله و سلم)  : ((لولاك يا علي ما عرف المؤمنون بعدي))(12)، وقوله (صلى الله عليه و آله و سلم)  : ((ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة. هو الصديق الأكبر. وهو فاروق هذه الأمة يفرق بن الحق والباطل. وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين))(13).

وقال أبو رافع: ((أتيت أبا ذر بالربذة أودعه. فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة، فاتقوا الله. وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)  يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل. وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين. وأنت أخي ووزيري، وخير من أترك بعدي، تقضي ديني، وتنجز موعدي))(14).

وهو المناسب لأحاديث أخر، مثل ما عن ابن عباس، قال: ((لما نزلت: ((إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)) وضع (صلى الله عليه و سلم)  يده على صدره فقال: أنا المنذر. ولكل قوم هاد، وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال:أنت الهادي يا علي. بك يهتدي المهتدون بعدي))(15). وغيره.

ونعود لابن حجر لنرى ما ساقه مؤيداً لحمل الحديث على خلاف ظاهره. وهو عدة أمور، لا تخلو من طرافة..

ــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري ج:1 ص:552 ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله (صلى الله عليه وسلم)عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل (عليه السلام)  إليه بوحيه. السيرة النبوية ج:2 ص:219 ـ 220 حديث نقض الصحيفة. البداية والنهاية ج:3 ص:96 في نقض الصحيفة. الكامل في التاريخ ج:1 ص:604ـ605 ذكر أمر الصحيفة. وغيرها من المصادر.

(2) تاريخ الطبري ج:1 ص:555 ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله (صلى الله عليه و سلم)  عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل (عليه السلام)  إليه بوحيه. الطبقات الكبرى ج:1 ص:212 ذكر سبب خروج رسول الله إلى الطائف. البدء والتاريخ ج:4 ص:155 قصة الجن الأولى. تهذيب الكمال ج:4 ص:507 في ترجمة جبير بن مطعم بن عدي. سير أعلام النبلاء ج:3 ص:95 في ترجمة جبير بن مطعم. التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة ج:1 ص:236 في ترجمة جبير بن مطعم. عون المعبود ج:7 ص:253. المنتظم ج:3 ص:15 رجوعه من الطائف. نيل الأوطار ج:8 ص:141. وغيرها من المصادر.

(3) ينابيع المودة ج:1 ص:152، واللفظ له. نهج البلاغة ج:4 ص:13. وقريب منه في تاريخ دمشق ج:42 ص:277 في ترجمة علي بن أبي طالب.

(4) تاريخ بغداد ج:7 ص:452 في ترجمة الحسن بن يزيد بن معاوية بن صالـح.

(5) سنن الترمذي ج:5 ص:635 كتاب كتاب المناقب: في باب لم يعنونه بعد باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  . المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:139 كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  مما لم يخرجاه: ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)  . حلية الأولياء ج:6 ص:295 في ترجمة جعفر الضبيعي. تذكرة الحفاظ ج:2 ص:673 في ترجمة عبيد الجعل. مجمع الزوائد ج:9 ص:132 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه. فضائل الصحابة لابن حنبل ج:2 ص:579 فضائل علي (عليه السلام)  ، ص:639 ومن فضائل علي (رضي الله عنه)   من حديث أبي بكر بن مالك عن شيوخه غير عبدالله. المعجم الأوسط ج:2 ص:328، ج:4 ص:264. تاريخ دمشق ج:42 ص:285 ، 286 ،287 ،374 في ترجمة علي بن أبي طالب. الكامل في ضعفاء الرجال ج:5 ص:79 في ترجمة عمارة بن جوين. تاريخ بغداد ج:13 ص:153 في ترجمة مروان بن موسى البغدادي. موضح أوهام الجمع والتفريق ج:1 ص:49. تهذيب الأسماء ص:318. وغيرها من المصادر.

(6) مجمع الزوائد ج:9 ص:127 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه. مسند أحمد ج:5 ص:350 حديث بريدة الأسلمي (رضي الله عنه)  . فضائل الصحابة لابن حنبل ج:2 ص:690 ومن فضائل علي (رضي الله عنه)  من حديث أبي بكر بن مالك عن شيوخه غير عبدالله. فتح الباري ج:8 ص:66. نيل الأوطار ج:7 ص:110.

(7) مجمع الزوائد ج:9 ص:128 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه، واللفظ له. المعجم الأوسط ج:6 ص:162.

(8) مجمع الزوائد ج:9 ص:128 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه.

(9) مجمع الزوائد ج:9 ص:129 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه، واللفظ له. المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:131 كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  مما لم يخرجاه: ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)  . مسند أحمد ج:3 ص:483 حديث عمرو بن شاس الأسلمي (رضي الله عنه)  . الإصابة ج:4 ص:646 في ترجمة عمرو بن شاس الأسدي. فضائل الصحابة لابن حنبل ج:2 ص:579 فضائل علي (عليه السلام)  . تاريخ دمشق ج:42 ص:202،203 في ترجمة علي بن أبي طالب. وغيرها من المصادر.

(10) مسند البزار ج:9 ص:323 ما أسند أبو رافع مولى رسول الله  (عليه السلام)  عن رسول الله، واللفظ له. مجمع الزوائد ج:9 ص:129 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه. وغيرها من المصادر.

(11) الأحاديث المختارة ج:3 ص:267 فيما رواه مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه (رضي الله عنهم)  ، واللفظ له. مجمع الزوائد ج:9 ص:129 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  : باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه. مسند أبي يعلى ج:2 ص:109 مسند سعد بن أبي وقاص. تاريخ دمشق ج:42 ص:204 في ترجمة علي بن أبي طالب. وغيرها من المصادر.

(12) كنز العمال ج:13 ص:152 حديث:36477.

(13) الاستيعاب ج:4 ص:1744 في ترجمة أبي ليلى الغفاري، واللفظ له. الإصابة ج:7 ص:354 في ترجمة أبي ليلى الغفاري. ميزان الاعتدال ج:1 ص:339 في ترجمة إسحاق بن بشر بن مقاتل. لسان الميزان ج:1 ص:357 في ترجمة إسحاق بن بشر بن مقاتل.

(14) شرح نهج البلاغة ج:13 ص:228.

(15) تفسير الطبري ج:13 ص:108، واللفظ له. تفسير ابن كثير ج:2 ص:503. فتح الباري ج:8 ص:376. روح المعاني ج:13 ص:108. الدر المنثور ج:4 ص:608.