توضيح نفاق النواصب

فإن كان مراده ذلك فجوابه: أن التدين الصحيح هو الذي يبتني على الإيمان بجميع ما أنزل الله تعالى وافترضه، مع الاهتمام الصادق بالوصول له التعرف عليه، وذلك بالتجرد من التراكمات والأهواء والعصبيات، والنظر في جميع الحجج التي أقامها الله تعالى، بموضوعية كاملة، من أجل الوصول للواقع على ما افترضه الله سبحانه ورضيه.

نظير ما إذا أصيب الإنسان الرشيد بمرض خطير، واهتم بالشفاء منه، حيث ينظر في سبل الشفاء، بجدية تامة، وموضوعية كاملة، ولا تتحكم العواطف والتعصب من أجل التزام الطرق غير العقلائية في ذلك. إذ لا ريب في أن السلامة في الدين وتحري رضا الله تعالى أهم من الشفاء والعافية في البدن.

وهذا لو تم لوصل الناس كلهم للحقيقة، لأن الله عزوجل قد أوضحها، وأتم الحجة عليها ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ))(1)، وقد سبق إيضاح ذلك في جواب السؤال السادس.

ولو فرض ـ جدلاً ـ خفاء بعض الحقائق التي هي المعيار في الإيمان والضلال، فلاريب في وضوح بطلان عقيدة النصب بالنظر للأدلة الكثيرة، ولظروف ظهور هذه العقيدة، والأشخاص الذين رفعوها وروجوها، ودوافعها ومقارناتها، والطرق التي سلكوها لترويجها، وعمدتها المال والكذب، وغير ذلك مما يسهل التعرف عليه، خصوصاً في حق أهل العلم وحملة الحديث.

أما أن يهوى الإنسان شيئاً ويتعصب له، ثم يؤمن بالدين بالمقدار الذي لايضر بهواه، وبما يتعصب له، ويتجاهل ما عدا ذلك، بل يرفضه ويتعامى عن أدلته، ويتعمد اللجاجة والعناد فيها تكذيباً وتأويلاً. فهذا هو النفاق بعينه، إذ النفاق لا يتوقف على عدم الإيمان بالدين أصلاً، بل يكفي فيه عدم إيمان الإنسان بما لا يعجبه من الدين، وإن آمن بما لا يضر بهواه، أو بما ينفعه منه.

وبالمناسبة يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: ((سألت أبي عن علي ومعاوية. فقال: اعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيباً، فلم يجدوا، فجاؤوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيداً منهم له))(2).

فإن هذا كالصريح في أن بغض أعداء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) الكثيرين له لا يبتني على حجة تصحح البغض، بل ولا ما يشبه الحجة. وهل هذا إلا النفاق بعينه؟!

ومن هنا لا يصلـح صدق اللهجة والتدين الظاهر في النواصب ـ لو تم ـ دليلاً على عدم نفاقهم، والـخروج بها عن مفاد الأحاديث الكثيرة التي جعلت أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) علماً للمسلمين، يفرق به بين الإيمان والنفاق، والحق والباطل، والهدى والضلال.

ومن الطريف أن يعرض حملة الحديث من النواصب عما ورد مستفيضاً، بل متواتراً، في حق أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ـ مما يناسب كونه علماً فارقاً بين الحق والباطل ـ ثم يعلن بغضه وسبه، محتجاً بأنه قتل آباءه أو أهله، ومع ذلك يحاول الآخرون الدفاع عنه بأنه صاحب دين وشبهة، لا يكون معها منافقاً. وأي نفاق أعظم من الإعراض عن الأحاديث الكثيرة الواردة عن النبي  (صلى الله عليه و آله و سلم)  ب الانفعالات العاطفية نتيجة قتل الأحبة؟!

(الوجه الثاني): أن يكون قد ساقه توجيهاً لما هو المهم في المقام، وافتتح به كلامه من تفريق الجمهور بين الشيعة والنواصب، مع غض النظر عما تضمن جعل أمير المؤمنين (عليه السلام)  علماً يعرف به المؤمن من المنافق. وهو حينئذٍ يرجع إلى أمرين:

 

الكلام في أن بغض النواصب لأمير المؤمنين (عليه السلام)  يبتني على الديانة

1 ـ أن بغض النواصب لأمير المؤمنين (عليه السلام)  يبتني على الديانة والاعتقاد الخاطئ، من دون تمرد وعناد.

لكن لم يصرح برأيه في التشيع والرفض. فإن كان يرى أنه ديانة أيضاً، لاعتماد الشيعة على أدلة يرون تماميتها وإن خالفهم هو في ذلك، فما الفرق إذاً بين النصب والتشيع، حتى وثق الجمهور النواصب غالباً، ووهنوا الشيعة مطلقاً؟

وإن كان يرى أن التشيع من الشيعة عناد متعمد، من دون شبهة دليل ولا تدين. فكفاه ذلك مكابرة وعناداً يقضي بالإعراض عن كلامه. إذ هل في شرع الإنصاف أن تعادل حجة النواصب بحجة الشيعة، أو تكون حجة النواصب أقوى من حجة الشيعة، فضلاً عن أن يكون النواصب أصحاب حجة ودين، والشيعة لا حجة لهم، ولا دين؟!

ومن الطريف أن ابن حجر ـ كسائر الجمهور ـ يصر على أن أمير المؤمنين (عليه السلام)  كان يرى شرعية خلافة من تقدم عليه، حتى عثمان. فإذا ادعى الشيعة أن أمير المؤمنين (عليه السلام)  يرى عدم شرعية خلافتهم شدد ابن حجر في الإنكار عليهم، ورماهم بالعناد، وتعمد الشقاق، وعدم التدين، وأعرض عن روايتهم لذلك. أما إذا ادعى النواصب أن أمير المؤمنين (عليه السلام)  قتل عثمان أو مالأ عليه، فهو يخطؤهم، من دون أن يكونوا بنظره مشاقين معاندين، بل هم أهل دين معذورون، حقيقون بصدق اللهجة والتوثيق، وقبول الرواية!

وأطرف من ذلك أن يكون من الدين عند ابن حجر والجمهور موالاة رؤوس النواصب الذين ضللوهم وأوقعوهم في هذا الخطأ العظيم، وهم معاوية وعمرو بن العاص ومن سار في فلكهما. وما عشت أراك الدهر عجباً!

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة التوبة الآية: 115.

(2) تاريخ الخلفاء ج:1 ص:199 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)  : فصل في نبذه وأخباره، واللفظ له. الصواعق المحرقة ص:374 الباب الثامن في خلافة علي (كرم الله وجهه): الفصل الثالث في ثناء الصحابة والسلف عليه. فتح الباري ج:7 ص:104. تحفة الأحوذي ج:10 ص:231.

(3) سورة المجادلة الآية: 22.