النبز بالابتداع واتباع غير سبيل المؤمنين

ومن الطريف الذي يكثر حصوله منهم أن يتبنى جماعة منهم أمراً، ويتجاهلون من يخالف هواهم. ثم يحاولون دعمه وتركيزه بدعوى إجماع الأمة عليه، لينبزوا بعد ذلك من يخالفهم بأنه مبتدع، ومتبع غير سبيل المؤمنين، وغير ذلك من مضامين التشهير والتشنيع.

 

معنى البدعة واتباع غير سبيل المؤمنين

مع الغفلة أو التغافل عن أن البدعة هي خلاف السنة، والمبتدع هو الذي يشرع ما لم يشرعه الله تعالى، ولم يبلغ به رسوله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، قال الله تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ))(1).

كما أن اتباع غير سبيل المؤمنين الممقوت شرعاً ليس هو مخالفة قناعاتهم، فضلاً عن قناعات بعضهم الحادثة في العصور المتأخرة، بل اتباع غير سبيل الله تعالى الذي دعا إليه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وهدى المؤمنين له، بحيث يكون الخارج عنه مشاقاً للرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) .

قال سبحانه: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً))(2).

 

دعوى القطع بصحة أحاديث الأصول مجازفة ظاهرة

على أن دعوى القطع بصحة أحاديث تلك الأصول مجازفة ظاهرة، إذ كيف يمكن القطع بصحتها وصدورها مع كثرة الوسائط في رجال السند، وتعرض السنة الشريفة لكثير من المحن، كالكذب المتعمد، والوهم، وضياع القرائن الشارحة للمراد بها، والتعارض الموجب للعلم بكذب بعضها، أو حصول الوهم فيه، أو إرادة خلاف ظاهره به... إلى غير ذلك؟!

وغاية ما يدعى هو الوثوق بصدورها، أوجواز العمل بها،لتحقق شروط الحجية فيها.

 

لا مجال للوثوق بصحتها حتى على مباني الجمهور

وهو أيضاً يصعب حصوله ـ فضلاً عن إحراز الاتفاق عليه ـ بمقتضى الموازين العقلائية العامة، التي تصلح حجة مع الله عز وجل. بل حتى على مباني جمهور السنة في مواقفهم من غير الكتب المذكورة. لأمور..

(الأمر الأول): ما ورد في حق أصحابها، وفي كيفية جمعها.

 

ما ورد في البخاري وكتابه

1 ـ فقد سبق من البخاري ـ في أواخر الحديث عن مطاعن أهل الجرح والتعديل ـ ما يظهر منه عدم وهن الرواة بالطعون الواردة فيهم، وسبق منا الحديث عنه.

2 ـ وقد تكلم محمد بن يحيى الذهلي ـ وهو من أعلام الجمهور ـ في البخاري حين ظهر منه القول بأنه لفظه بالقرآن مخلوق،حتى انقطع عنه أكثر الناس إلا مسلم،فقال محمد بن يحيى: ((ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا)). فقام مسلم وخرج. فقال محمد بن يحيى عن البخاري: ((لا يساكنني هذا الرجل في البلد))، فخشي البخاري على نفسه وسافر(3). وقد تقدم التعرض لذلك عند الكلام في مطاعن أهل الجرح والتعديل.

3 ـ ولأجل ذلك أيضاً امتنع من الرواية عنه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان(4)، وهما من أكابر علماء الجمهور.

4 ـ وأورد الذهبي البخاري في كتاب المغني في الضعفاء(5)، لوجود من تكلم فيه حتى استنكر المناوي من الذهبي ذلك(6).

5 ـ وقال محب بن الأزهر السجستاني: ((كنت بالبصرة في مجلس سليمان بن حرب والبخاري جالس لا يكتب. فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى فيكتب من حفظه))(7).

وقال أحمد بن أبي جعفر قال محمد بن إسماعيل: ((رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. قال: فقلت له: يا أبا عبد الله بكماله؟ فسكت))(8).

6 ـ ومات البخاري قبل أن يبيض كتابه. ولذا اختلفت نسخه ورواياته.

قال أبو الوليد الباجي: ((وقد أخبرنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي الحافظ (رحمه الله) ، ثنا أبو إسحاق المستملي إبراهيم بن أحمد، قال انتسخت كتاب البخاري من أصله. كان عند محمد بن يوسف الفربري، فرأيته لم يتم بعد، وقد بقيت عليه مواضع مبيضة كثيرة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها أحاديث لم يترجم عليها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض.

ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي، ورواية أبي محمد السرخسي، ورواية أبي الهيثم الكشميهني، ورواية أبي زيد المروزي ـ وقد نسخوا من أصل واحد ـ فيها التقديم والتأخير. وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم في ما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه. ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث. وإنما أوردت هذا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلفهم في تعسف التأويل ما لا يسوغ))(9).

وقال ابن حجر: ((ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على ترجمة لمناقب عبد الرحمن بن عوف، ولا لسعيد بن زيد، وهما من العشرة. وإن كان قد أفرد ذكر إسلام سعيد بن زيد بترجمة في أوائل السيرة النبوية. وأظن ذلك من تصرف الناقلين لكتاب البخاري. كما تقدم مراراً أنه ترك الكتاب مسودة، فإن أسماء من ذكرهم هنا لم يقع فيهم مراعاة الأفضلية، ولا السابقية، ولا الأسنية. وهذه جهات التقديم في الترتيب. فلما لم يراع واحداً منها دل على أنه كتب كل ترجمة على حدة، فضم بعض النقلة بعضـها إلى بعض حسبما اتفق))(10).

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة الحديد الآية: 27.

(2) سورة النساء الآية: 115.

(3) سير أعلام النبلاء ج:12 ص:460 في ترجمة أبي عبدالله البخاري: ذكر قصته مع محمد بن يحيى الذهلي(رحمهما الله).

(4) الجرح والتعديل ج:7 ص:191 في ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري. تهذيب التهذيب ج:9 ص:49 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة.

(5) المغني في الضعفاء ج:2 ص:557 في ترجمة أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري.

(6) فيض القدير ج:1 ص:24 كما في الطبعة التي في برنامج المعجم الفقهي.

(7) تغليق التعليق ج:5 ص:391 فصل في ترجمة البخاري والتعريف بقدره وجلالته وذكر نسبه...: ذكر منشئه وطلبه الحديث.

(8) تاريخ بغداد ج:2 ص:11 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، واللفظ له. تغليق التعليق ج:5 ص:417 فصل في ترجمة البخاري والتعريف بقدره وجلالته وذكر نسبه...: ذكر سعة حفظه وسيلان ذهنه سوى ما تقدم. فتح الباري ج:1 ص:487.

(9) التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح ج:1 ص:310 ـ 311 باب في ذكر تأليفه (أي البخاري) للكتاب الجامع وحكم الكتاب ومعناه.

(10) مقدمة فتح الباري ج:7 ص:93.