بل التدليس شايع في عامة رجال الحديث، حتى قال شعبة: ((ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلس إلا عمرو بن مرة وابن عون))(1).
وقال الذهبي: ((وبقية ذو غرائب وعجائب ومناكير. قال عبد الحق في غير حديث: بقية لا يحتج به. وروى له أيضاً أحاديث، وسكت عن تليينها. وقال أبو الحسن بن القطان: بقية يدلس عن الضعفاء ويستبيح ذلك. وهذا إن صح مفسد لعدالته. قلت: نعم والله، صح هذا عنه، إنه يفعله. وصح عن الوليد بن مسلم. بل عن جماعة كبار فعله. هذه بلية. وهذه بلية منهم. ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد. وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنه تعمد الكذب. هذا أمثل ما يعتذر به عنهم))(2).
وقال أيضاً في سير أعلام النبلاء بعد ذكر كلام أبي الحسن بن القطان: ((قلت: نعم تيقنا أنه كان يفعله. وكذلك رفيقه الوليد بن مسلم وغير واحد. ولكنهم ما يظن بهم أنهم اتهموا من حدثهم بالوضع لذلك))(3).
وقال ابن حبان: ((دخلت حمص، وأكبر همي شأن بقية، فتتبعت حديثه، وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو، فرأيته ثقة مأموناً. ولكنه كان مدلساً، يدلس عن عبيد الله بن عمر، وشعبة، ما أخذه عن مثل المجاشع بن عمرو، والسري بن عبدالحميد، وعمر بن موسى الميتمي، وأشباههم. فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم ما سمع من هؤلاء الضعفاء عنهم، فكان يقول: قال عبيدالله، وقال مالك، فحملوا عن بقية عن عبيدالله وبقية عن مالك، وأسقط الواهي بينهما...))(4).
وقد ألف جماعة كتباً ورسائل خاصة في المدلسين، كحسين بن علي الكرابيسي(5)، وعلي بن المديني(6)، والنسائي(7)، والدارقطني(8)، وأبي الوفاء الحلبي، وابن حجر العسقلاني(9)، والسيوطي(10)، وغيرهم.
وقال الخطيب البغدادي: ((التدليس للحديث مكروه عند أكثر أهل العلم. وقد عظم بعضهم الشأن في ذمه، وتبجح بعضهم بالبراءة منه))(11). وعن شعبة أنه قال: ((التدليس أخو الكذب))(12). وقال أيضاً: ((التدليس في الحديث أشد من الزنا. لأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس))(13). وعن أبي أسامة أنه قال: ((ضرب الله بيوت المدلسين. ما هم عندي إلا كاذبون))(14). وعن ابن المبارك أنه قال: ((لأن نخر من السماء أحب إلي من أن أدلس حديثاً))(15)... إلى غير ذلك من كلماتهم في ذمه.
20 ـ لا ريب في أن البخاري ومسلم، بل جميع أصحاب الأصول الستة التي يطلقون عليها الصحاح، رووا في كتبهم المذكورة عن رجال مطعون فيهم بمختلف الطعون، كالكذب، والتدليس، والنصب وغيرها. وقد جمع قسماً كبيراً منهم المرحوم الشيخ المظفر (قدس سره) في مقدمة دلائل الصدق، كما ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري المطعونين من رجال البخاري، وحاول الدفاع عنهم.
ولسنا الآن بصدد الحكم فيهم، إلا أن القدر المتيقن أن الطعون المذكورة لا تناسب الإجماع المدعى على قبول كتابي البخاري ومسلم، بل جميع الأصول الستة المذكورة، ولا تسميتها بالصحاح، والقطع بما تضمنته من الأخبار. بل ولا الوثوق به.
اشتمال الأصول المذكورة على الأحاديث المرسلة والمنقطعة
21 ـ كما لا يناسبه ما هو المعلوم من اشتمالها على الأحاديث المرسلة(16) والمنقطعة(17). ولا طريق لأصحاب هذه الكتب ـ فضلاً عمن بعدهم ـ لتحصيل القطع بصحة تلك الأحاديث، مع بعدهم عن زمان صدورها، وعدم وجود مرجع لهم معصوم يتسنى لهم عرض تلك الأحاديث عليه، ليعرفوا منه صحتها وسقمها. وليس إلا الأهواء والاجتهادات والظنون ـ التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ـ أو التسامح والتساهل في أمر الحديث.
ــــــــــــــــــــ
(1) سير أعلام النبلاء ج:5 ص:197 في ترجمة عمرو بن مرة، واللفظ له. تهذيب التهذيب ج:8 ص:89 في ترجمة عمرو بن مرة بن عبدالله. ميزان الاعتدال ج:5 ص:346 في ترجمة عمرو بن مرة. التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح ج:3 ص:975 في ترجمة عمرو بن مرة.
(2) ميزان الاعتدال ج:2 ص:53 ـ 54 في ترجمة بقية بن الوليد.
(3) ج:8 ص:528 في ترجمة بقية بن الوليد.
(4) ميزان الاعتدال ج:2 ص:47 في ترجمة بقية بن الوليد.
(5) الفهرست لابن النديم ج:1 ص:256. كشف الظنون ج:1 ص:89.
(6) الفهرست لابن النديم ج:1 ص:322.
(7) كشف الظنون ج:1 ص:89.
(8) كشف الظنون ج:1 ص:89.
(9) كشف الظنون ج:1 ص:89.
(10)كشف الظنون ج:1 ص:846.
(11) الكفاية في علم الرواية ص:355.
(12) الكفاية في علم الرواية ص:355.
(13) الكفاية في علم الرواية ص:356.
(14) الكفاية في علم الرواية ص:356.
(15) الكفاية في علم الرواية ص:356.
(16) راجع على سبيل المثال صحيح البخاري ج:1 ص:150 كتاب الصلاة: باب الصلاة على الفراش، وج:2 ص:506 كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة وقول الله تعالى: ((وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ...))، وص:572 كتاب الحج: باب من أين يخرج من مكة، وص:631 كتاب الحج: أبواب العمرة: باب كم اعتمر النبي (صلى الله عليه و سلم) ، وج:4 ص:1833 كتاب التفسير: باب تفسير سورة الحجرات: باب لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي... الآية، وغيرها.
(17) راجع على سبيل المثال صحيح البخاري ج:1 ص:445 كتاب الجنائز: باب فضل اتباع الجنائز، وج:2 ص:885 كتاب الشركة: باب الاشتراك في الهدي والبدن وإذا أشرك.... وج:3 ص:1166 كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...))، وص:1249 كتاب الأنبياء: باب طوفان من السيل، وج:5 ص:2020 كتاب الطلاق: باب إذا قال لامرأته وهو مكره هذه أختي فلا شيء عليه، وغيرها.