اشتمال الكتب المذكورة على ما يعلم بطلانه
(الأمر الثاني): اشتمال أحاديث الكتب على ما يعلم بطلانه، لمخالفته للعقل، أو الكتاب الكريم، أو النقل القطعي.
1 ـ مثل ما تضمن تجسيم الله تعالى، وإثبات المكان، والانتقال والتغير له جل شأنه. والكلام في ذلك طويل، ذكره نقاد الحديث من علمائنا وغيرهم. ولا يسعنا استقصاؤه.
2 ـ وروى الشيخان البخاري ومسلم عن عائشة: ((قالت أول ما بدئ به رسول الله (صلى الله عليه و سلم) من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم... حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ. فقال النبي (صلى الله عليه و سلم): فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ...)) حتى بلغ ((عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)).
فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني، زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال: يا خديجة ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي. فقالت له: كلا، أبشر. فوالله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي (صلى الله عليه و سلم) ما رأى.فقال ورقة:هذا الناموس الذي أنزل على موسى...))(1).
وهو ـ كما ترى ـ صريح في أن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لم يعرف أنه نبي من نزول الملك عليه، وإقرائه له ـ مع الإرهاصات والأمارات السابقة على أنه مهيأ للنبوة، التي ذكرها أهل الحديث والمؤرخون ـ حتى أخبره ورقة بن نوفل من طريق الحدس. وكيف يمكن التصديق بذلك؟! ثم كيف يمكن تصديقه (صلى الله عليه و آله و سلم)في دعوى الرسالة مع ذلك؟!
3 ـ وروى الشيخان أيضاً عن أبي هريرة: أن رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) قال: ((اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر. فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة، وزكاة، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة))(2).
فانظر هل يمكن التصديق بذلك؟! وما الفرق إذاً بين نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه و آله و سلم) ـ الذي هو القمة في الكمال ـ والطغاة من ولاة الجور وغيرهم؟! وإذا كان بشراً عادياً محكوماً للاندفاعات العاطفية في اعتدائه على من لا يستحق، فما المؤمِّن من أن يكون محكوماً لها في ثنائه على من لا يستحق؟!
وكيف يمكن مع ذلك أن نعرف إيمان إنسان ونفاقه من ثناء النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على ذلك الشخص أو لعنه له؟! وهل هذا إلا انتهاك لحرمة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، وإسقاط مواقفه من الناس عن الاعتبار؟!
ويكاد يقطع المتبصر بأن ذلك إنما افتري على النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من أجل الحفاظ على اعتبار كثير من منافقي قريش الذين جرحهم رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ولعنهم. في محاولة منهم ثانية بعد أن كانت محاولتهم الأولى منع كتابة الحديث النبوي، كما تضمنه حديث عبد الله بن عمرو ـ المتقدم في أواخر جواب السؤال السابع من الأسئلة السابقة ـ قال: ((كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه و سلم)،
ورسول الله (صلى الله عليه و سلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه و سلم) فقال: اكتب. فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق))(3).
وربما يكون التحجير على السنة النبوية الذي أشرنا إليه هناك مرتبطاً بذلك أيضاً. فراجع.
4 ـ وأخرج مسلم بسنده عن ابن عباس قال: ((كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان، ولا يقاعدونه. فقال للنبي (صلى الله عليه و سلم) : يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن. قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال: نعم. قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: نعم. قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم))(4).
وقد طعن فيه جماعة من أعلام الجمهور. قال ابن القيم: ((وقد روى مسلم في الصحيح من حديث عكرمة بن عمار عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه... . وقد رد هذا الحديث جماعة من الحفاظ، وعدوه من الأغلاط في كتاب مسلم. قال ابن حزم: هذا حديث موضوع لا شك في وضعه. والآفة فيه من عكرمة بن عمار(5). فإنه لم يختلف في أن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) تزوجها قبل الفتح بدهر، وأبوها كافر.
وقال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الكشف له: هذا الحديث وهم من بعض الرواة. لا شك فيه، ولا تردد. وقد اتهموا به عكرمة ابن عمار راويه. وقد ضعف أحاديثه يحيى بن سعيد الأنصاري، وقال: ليست بصحاح. وكذلك قال أحمد بن حنبل: هي أحاديث ضعاف. وكذلك لم يخرج عنه البخاري. إنما أخرج عنه مسلم، لقول يحيى بن معين: ثقة.
قال: وإنما قلنا: إن هذا وهم، لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيدالله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها ـ وهما مسلمان ـ إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، وثبتت أم حبيبة على دينها. فبعث رسول الله (صلى الله عليه و سلم) إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أربعة آلاف درهم. وذلك سنة سبع من الهجرة. وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة، فدخل عليها، فنحت بساط رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ، حتى لا يجلس عليه. ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان، ولا يعرف أن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أمّر أبا سفيان.
وقد تكلف أقوام تأويلات فاسدة لتصحيح الحديث. كقول بعضهم: إنه سأله تجديد النكاح عليها. وقول بعضهم: إنه ظن أن النكاح بغير إذنه وتزويجه غير تام، فسأل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أن يزوجه إياها نكاحاً تاماً، فسلم له النبي (صلى الله عليه و سلم) حاله وطيب قلبه بإجابته. وقول بعضهم: إنه ظن أن التخيير كان طلاقاً، فسأل رجعتها، وابتداء النكاح عليها. وقول بعضهم: إنه استشعر كراهة النبي (صلى الله عليه و سلم) لها، وأراد بلفظ التزويج استدامة نكاحها، لا ابتداءه. وقول بعضهم: يحتمل أن يكون وقع طلاق، فسأل تجديد النكاح. وقول بعضهم: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك قبل إسلامه، كالمشترط له في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمت تعطينيهن. وعلى هذا اعتمد المحب الطبري في جواباته للمسائل الواردة عليه، وطوّل في تقريره.
وقال بعضهم: إنما سأله أن يزوجه ابنته الأخرى، وهي أختها، وخفي عليه تحريم الجمع بين الأختين، لقرب عهده بالإسلام، فقد خفي ذلك على ابنته أم حبيبة، حتى سألت رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ذلك، وغلط الراوي في اسمها.
وهذه التأويلات في غاية الفساد والبطلان. وأئمة الحديث والعلم لا يرضون بأمثالها، ولا يصححون أغلاط الرواة بمثل هذه الخيالات الفاسدة، والتأويلات الباردة، التي يكفي في العلم بفسادها تصورها وتأمل الحديث.
وهذا التأويل الأخير وإن كان في الظاهر أقل فساداً، فهو أكذبها وأبطلها، وصريح الحديث يرده، فإنه قال: أم حبيبة أزوجكها. قال: نعم. فلو كان المسؤول تزويج أختها لما أنعم له بذلك (صلى الله عليه و سلم) . فالحديث غلط، لا ينبغي التردد فيه. والله أعلم))(6).
وقد ذكرنا هذه العينات الثلاث لننبه إلى وجود أمثالها من الأحاديث المعلومة البطلان في الأصول المذكورة. ونترك الباقي لمن يريد الاستقصاء.
ــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري ج:6 ص:2561 كتاب التعبير: باب أول مابدئ به رسول الله (صلى الله عليه و سلم) من الوحي الرؤيا الصالـحة، واللفظ له، ج:1 ص:4 كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه و سلم) وقول الله جل ذكره: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ))، ج:4 ص:1894 كتاب التفسير: باب تفسير سورة ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ...)) العلق. صحيح مسلم ج:1 ص:140 كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه و سلم) .
(2) صحيح مسلم ج:4 ص:2008 كتاب البر والصلة والآداب:باب من لعنه النبي (صلى الله عليه و سلم) أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة، واللفظ له. صحيح البخاري ج:5 ص:2339 كتاب الدعوات وقول الله تعالى ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)): باب قول النبي (صلى الله عليه و سلم) من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة.
(3) مسند أحمد ج:2ص:162 مسند عبدالله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) ، واللفظ له، ص:192 مسند عبدالله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) . سنن أبي داود ج:3 ص:318 أول كتاب العلم: باب كتاب العلم. سنن الدارمي ج:1 ص:136 باب من رخص في كتابة العلم. المستدرك على الصحيحين ج:1 ص:187 كتاب العلم. تحفة الأحوذي ج:7 ص:357 في شرح أحاديث باب ما جاء في الرخصة. المدخل إلى السنن الكبرى ج:2 ص:415 باب من رخص في كتابة العلم.... الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج:2 ص:36 الكتابة عن المحدث في المذاكرة.
(4) صحيح مسلم ج:4 ص:1945 كتاب فضائل الصحابة (رضي الله عنهم) من فضائل أبي سفيان بن حرب (رضي الله عنه) .
(5) إذا كانت الآفة فيه من عكرمة بن عمار هذا، وهو من الطبقة الأولى من التابعين فكيف خفي الأمر على من بعده من رواة الحديث طبقة بعد طبقة حتى انتهى الأمر إلى مسلم؟! وما هي المفاهيم التي كانوا يعيشونها، والدوافع التي كانوا يحملونها، حتى أغفلتهم عن هذا الخطأ الواضح؟!
(6) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود ج:6 ص:75ـ76، وقريب منه في زاد المعاد ج:1 ص:109 ـ 112 فصل في أزواجه (صلى الله عليه و سلم) : في ترجمة أم حبيبة، وجلاء الأفهام ص:248.