ظهور الميل في الكتب المذكورة على أهل البيت (عليهم السلام)

(الأمر الثالث): ظهور الميل في الأصول المذكورة على أهل البيت(صلوات الله عليهم) ومجافاتهم ..

(أولاً): بترك الرواية عن كثير منهم، ممن هو في القمة من الدين والصدق والقدسية، كالإمام الصادق، والأئمة من ولده (صلوات الله عليهم)، وغيرهم من أهل البيت، وروايتهم عن جماعة كثيرة من أعداء أهل البيت ممن لا تلتقي بذمهم الشفتان، كمروان بن الحكم، وسمرة بن جندب، وعمران بن حطان، وغيرهم.

(وثانياً): بالتقليل من ذكر الأحاديث المنوهة بأهل البيت (عليهم السلام)  ، والمتضمنة لفضائلهم ومناقبهم، أو تحويرها والحذف فيها. وحشر مايمكن حشره من الأحاديث المنوهة بمخالفيهم، وتخفيف حدة بعض الأحاديث المتضمنة لنقاط الضعف في أولئك المخالفين بالحذف والتحوير وغيرهما. خصوصاً كتابي البخاري ومسلم، حيث يظهر ذلك جلياً فيهما.

1 ـ فقد تقدم في أواخر جواب السؤال السابع من الأسئلة السابقة أن البخاري لم يذكر حديث الغدير، مع اشتهاره واستفاضته بما يزيد على التواتر.

2 ـ كما بتر مسلم من حديث الغدير ما يتضمن ولاية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، الذي هو المهم فيه، ومن أجله خطب النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في غدير خم.

3 ـ ولم يرو البخاري حديث الثقلين، مع استفاضته بنحو يزيد على التواتر.

4 ـ وروى البخاري ومسلم عن الأسود: ((ذكروا عند عائشة أن علياً (رضي الله عنهما) كان وصياً. فقالت: متى أوصى إليه؟! وقد كنت مسندته إلى صدري، أو قالت: حجري. فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري، فما شعرت أنه قد مات. فمتى أوصى إليه؟!))(1).

أما أم سلمة فقد صح عنها أنها قالت: ((والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه و سلم) . عدنا رسول الله (صلى الله عليه و سلم) غداة، وهو يقول: جاء علي؟ جاء علي؟ مراراً. فقالت فاطمة (رضي الله عنها) : كأنك بعثته في حاجة؟. قالت: فجاء بعد، فظننت أن له إليه حاجة. فخرجنا من البيت، فقعدنا عند الباب. وكنت أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ، وجعل يساره ويناجيه. ثم قبض رسول الله (صلى الله عليه و سلم) من يومه ذلك. فكان علي أقرب الناس عهداً))(2).

ورواية أم سلمة معتضدة بما استفاض عن أمير المؤمنين والأئمة من ولده (صلوات الله عليهم) من أن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) توفي في حجر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأنه (عليه السلام) كان آخر الناس عهداً به(3).

وقد أكد ذلك ابن عباس، وأنكر حديث عائشة. فقد روي عن أبي غطفان أنه قال: ((سألت ابن عباس: أرأيت رسول الله (صلى الله عليه و سلم) توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو لمستند إلى صدر علي. قلت: فإن عروة حدثني عن عائشة أنها قالت: توفي رسول الله (صلى الله عليه و سلم) بين سحري ونحري. فقال ابن عباس: أتعقل؟! والله لتوفي رسول الله (صلى الله عليه و سلم) وإنه لمستند إلى صدر علي. وهو الذي غسله وأخي الفضل بن عباس...))(4).

وكذا ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قال: ((إن كعب الأحبار قام زمن عمر، فقال ـ ونحن جلوس عند عمرـ: أمير المؤمنين ما كان آخر ما تكلم به رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ؟ فقال عمر سل علياً. قال: أين هو؟ قال: هو هنا، فسأله. فقال علي: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي، فقال: الصلاة الصلاة. فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء. وبه أمروا. وعليه يبعثون. قال: فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال: سل علياً. قال: فسأله، فقال: كنت أغسله، وكان العباس جالساً...))(5).

بل هي معتضدة بما روي عن عائشة نفسها، حين سألتها امرأتان، فقالتا: ((فأخبرينا عن علي. قالت: أي شيء، تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله (صلى الله عليه و سلم) موضعاً، فسالت نفسه في يده، فمسح بها وجهه، واختلفوا في دفنه، فقال: إن أحب البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيه. قالتا: فَلِمَ خرجت عليه؟ قالت: أمر قضي. لوددت أن أفديه ما على الأرض))(6).

وحديثها الآخر قالت: ((قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وهو في بيتي لما حضره الموت: ادعوا لي حبيبي. فدعوت أبا بكر فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ثم وضع رأسه. ثم قال: ادعوا لي حبيبي. فقلت: ويلكم، ادعوا له علي بن أبي طالب، فوالله ما يريد غيره. فلما رآه استوى جالساً وفرج الثوب الذي كان عليه ثم أدخله فيه، فلم يزل يحتضنه، حتى قبض، ويده عليه))(7).

واختلاف موقف عائشة في القضية الواحدة، تبعاً لاختلاف الظروف والدوافع، ليس غريباً، خصوصاً بعد موقفها في أمر عثمان.

ولا نظن أن أحداً يشك في أن ما تضمنته هذه الأحاديث هو الأنسب بمقام النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، وعظيم مسؤوليته، من موته بغتة في حجر امرأته من دون أن يعهد بما يهمه، ويوصي بما يريد. ولعله لذا قال ابن عباس منكراً على من روى ذلك: أتعقل؟!

ومع كل ذلك اقتصر البخاري ومسلم على حديث عائشة الأول، وأهملا حديث أم سلمة، مع صحته ـ حتى استدركه الحاكم عليهما ـ واعتضاده بما ذكرنا.

5 ـ ويذكر البخاري ومسلم رزية يوم الخميس، حين أراد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أن يكتب لأمته كتاباً يعصمهم من الضلال. لكن إن أبهم ذكر الراد على رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ولم يصرح باسمه يكون التعبير هكذا: ((هجر رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ))(8).

أما حين يصرح باسم الراد عليه (صلى الله عليه و آله و سلم) ، وهو عمر، فيكون التعبير: ((إن النبي (صلى الله عليه و سلم) قد غلب عليه الوجع))(9). لتخفيف حدة التعبير وبشاعته.

6 ـ وقد تقدم عن الصحيحين حديث عمرو بن العاص عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) : ((أنه قال: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء. إنما وليي الله وصالـح المؤمنين))(10).

7 ـ كما تقدم قريباً رواية مسلم حديث أبي سفيان مع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، من أجل أن يرد اعتباره حين قاطعه المسلمون، الذي تقدم أنه مخالف لإجماع المؤرخين على زواج النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان... إلى غير ذلك مما لايسعنا استقصاؤه.

وهو يكشف عن أن التعصب ضد أهل البيت يتحكم في كتب الجمهور، خصوصاً كتابي البخاري ومسلم اللذين هما أصحها عندهم.

 

منشأ تقديم كتابي البخاري ومسلم على غيرهما عند الجمهور

ولعل تخصيص الجمهور لكتابي البخاري ومسلم بمزيد العناية والتعظيم ينعكس فيهم ـ ولو لا شعورياً ـ نتيجة ما سبق في جواب السؤال الثالث وغيره من انحرافهم عن أهل البيت(صلوات الله عليهم) ومجافاتهم لهم. وإلا فلا يظهر منشأ معتد به لتمييزهما بمزيد الإجلال والتعظيم والتصحيح.

ــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري ج:3 ص:1006 كتاب الوصايا: باب الوصايا وقول النبي (صلى الله عليه و سلم) وصية الرجل مكتوبة عنده وقول الله تعالى ((كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية...))، واللفظ له، ج:4 ص:1619 كتاب المغازي: باب مرض النبي (صلى الله عليه و سلم) ووفاته وقول الله تعالى ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)). صحيح مسلم ج:3 ص:1257 كتاب الوصية: باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(2) المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:149 كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مما لم يخرجاه: ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) ، واللفظ له، وقال بعد ذكر الحديث: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)).مجمع الزوائد ج:9ص:112 كتاب المناقب:باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : باب منه في منزلته ومؤاخاته، وقال بعد ذكر الحديث: ((رواه أحمد وأبو يعلى إلا أنه قال فيه كان رسول الله (صلى الله عليه و سلم) يوم قبض في بيت عائشة والطبراني باختصار ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة)). المصنف لابن أبي شيبة ج:6 ص:365 كتاب الفضائل: فضائل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) . مسند إسحاق بن راهويه ج:1 ص:129ـ130 فيما يروى عن رجال أهل البصرة مثل بريدة وسفينة ومسة الأزدية وغيرهم عن أم سلمة (رضي الله عنها) عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ، وقال بعد ذكر الحديث: ((لايقل عن درجة الحسن إن شاء الله)). مسند أحمد ج:6 ص:300 في حديث أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه و سلم) . مسند أبي يعلى ج:12 ص:364،404 فيما روته أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه و سلم) . فضائل الصحابة لابن حنبل ج:2 ص:686. البداية والنهاية ج:7ص:360 أحداث سنة أربعين من الهجرة: شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

(3) الطبقات الكبرى ج:2 ص:263 ذكر من قال توفي رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في حجر علي بن أبي طالب. فتح الباري ج:8 ص:139.

(4) الطبقات الكبرى ج:2 ص:263 ذكر من قال توفي رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في حجر علي بن أبي طالب، واللفظ له. فتح الباري ج:8 ص:139. كنز العمال ج:7 ص:253 ـ 254 حديث:18791.

(5) الطبقات الكبرى ج:2 ص:263 ذكر من قال توفي رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في حجر علي بن أبي طالب. فتح الباري ج:8 ص:139.

(6) مسند أبي يعلى ج:8 ص:279 في مسند عائشة، واللفظ له. مجمع الزوائد ج:9 ص:112 كتاب المناقب: باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : باب منه في منزلته ومؤاخاته. تاريخ دمشق ج:42 ص:394 في ترجمة علي بن أبي طالب. البداية والنهاية ج:7 ص:360ـ361 أحداث سنة أربعين من الهجرة: شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

(7) المناقب للخوارزمي ص:68، واللفظ له. تاريخ دمشق ج:42 ص:393 في ترجمة علي بن أبي طالب. ينابيع المودة ج:2 ص:163. ذخائر العقبى ص:72 باب في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ذكر أنه أدخله النبي في ثوبه يوم توفي واحتضنه إلى أن قبض.

(8) كما في صحيح البخاري ج:3 ص:1111 كتاب الجهاد والسير: باب جوائز الوفد هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم، واللفظ له. صحيح مسلم ج:3 ص:1259 كتاب الوصية: باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه.

(9) كما في صحيح البخاري ج:5 ص:2146 كتاب المرضى: باب قول المريض قوموا عني، واللفظ له. صحيح مسلم ج:3 ص:1259 كتاب الوصية: باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه.

(10) تقدمت مصادره في جواب السؤال الأول في ج:2 ص: 59.