موقفهم من أحمد لا يتناسب مع موقفهم من مسنده

ولعل من أقوى الشواهد على ذلك أن أحمد بن حنبل إمام الجمهور من السنة في الأصول، وهو المقدم فيهم، لموقفه الصلب في المحنة، حتى قال علي بن المديني: ((إن الله أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة))(1).

وقال أبو عبيد: ((انتهى العلم إلى أربعة أفقههم أحمد))(2).

وقال الشافعي: ((خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، من أحمد بن حنبل))(3).

وهو بعد إمام الحنابلة ـ الذين هم أشد الناس تعصباً ـ في الفروع. وهو أقدم طبقة من جميع أصحاب الأصول الستة: البخاري فمن بعده.

وقد ألف أحمد المسند ليكون مرجعاً للأمة، فقد روى أبو موسى محمد بن عمر المديني بسنده عنه أنه قال: ((إن هذا الكتاب قد جمعته واتقنته ((انتقيته.ظ)) من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً. فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله (صلى الله عليه و سلم) فارجعوا إليه، فإن كان فيه ((وإلا.ظ)) فليس بحجة))(4).

وروى بسنده عن عبدالله بن أحمد بن حنبل أنه قال: ((قلت لأبي(رحمه الله تعالى): لمَ كرهت وضع الكتب، وقد عملت المسند؟ فقال: عملت هذا الكتاب إماماً إذا اختلف الناس في سنة

رسول الله (صلى الله عليه و سلم) رجع إليه))(5).

وقال أبو موسى المديني المذكور في كلام له عن مسند أحمد: ((ولم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طعن في أمانته...))، ثم ذكر الشاهد على ذلك(6).

ومن ثم ذكر السبكي أن مسند أحمد أصل من أصول الأمة(7)، وقال السيوطي: ((كل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن))(8).

ومع كل ذلك لم يعد في جملة الصحاح عندهم، فضلاً عن أن يقرن بصحيحي البخاري ومسلم، أو يفضل عليهما. بل كثيراً ما يحاول بعضهم تهوين أمر الحديث الذي لا يعجبه بأنه لم يذكر إلا في مسند أحمد.

ولا يظهر لنا سبب لذلك إلا اشتمال المسند المذكور على كثير من مناقب أمير المؤمنين وأهل البيت (صلوات الله عليهم) وفضائلهم مما لم يذكره غيره، فلو جعلوه في جملة الصحاح المعدودة عندهم، أو قدموه عليها ـ لتقدم أحمد عندهم ـ لفتحوا على أنفسهم باباً يصعب عليهم التخلص من تبعات فتحه.

وعلى كل حال فمهما كان منشأ تقديمهم للأصول الستة المذكورة، وتسالمهم المدعى على قبول أحاديثها، فإن سلبياتها لا تبرر التعويل عليها من دون تمحيص وعرض على ضوابط الحجية المعروفة عند العقلاء التي عليها المعول شرعاً.

ولا ينفعهم مع ذلك ما أحاطوها به من هالات التعظيم والتقديس، وما استعانوا به لتركيزها من الكلمات الرنانة، والنعوت الضخمة، والتهويلات الرادعة، مثل ما تقدم عن كتابي البخاري ومسلم من أنهما أصح الكتب بعد القرآن المجيد، وقول الدهلوي المتقدم: ((كل من يهون أمرهما فهو مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين))، ونحو ذلك مما تقتضيه طبيعة الجمود والتقليد التي تتحكم في مواقف كثير من الناس، فتفرض عليهم مسلمات لا حقيقة لها، بل هي ((كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ))(9).

وبعد هذا الاستعراض الطويل يتضح مدى اضطراب الجمهور، وخروجهم عن الطرق العقلائية التي عليها المعول في قبول الأخبار، وأنهم يفقدون المبررات العقلية، والحجج الشرعية المعذرة مع الله تعالى يوم العرض الأكبر ((يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ))(10).

 

ما ينبغي للجمهور بعد ما تقدم

والأولى بهم نتيجة ما سبق أن يتفرغوا أولاً: لتمهيد قواعد قبول الحديث بالنحو المناسب للأدلة الشرعية، والعقلية المعول عليها عند العقلاء كافة، في جميع الأمور. ثم تطبيق تلك القواعد، والجري عليها، بشجاعة، في عملية انتقاء الأحاديث والعمل بها، مع التجرد عن جميع التراكمات والمسلمات، التي أفرزتها الخلافات والتعصبات، ونسجتها الأوهام التي ما أنزل الله بها من سلطان.

 

موقف الشيعة السليم

أما الشيعة فهم ـ بحمد الله تعالى ـ قد جروا على ذلك بطبيعتهم المبنية على التزام الدليل والوقوف عليه، فالباحث منهم لا يكون مجتهداً في عمل نفسه، ومرجعاً لغيره من عامة الناس في دينهم، إلا بعد أن يخرج بمحصلة كاملة في قواعد العمل بالحديث، وتعيين ما هو الحجة منه.

وهم لا يعتمدون في الجرح والتعديل إلا على من تمت الموازين العقلائية والشرعية على معرفته ودينه، بحيث يبتني جرحه وتعديله على مراعاة الواقع والشهادة به، من دون تدخل للهوى والتعصب الشخصي وغيره.

كما لا يعتمدون من كتب الحديث إلا على ما ألفه من تسالموا على معرفته ودينه وورعه من دون أي قدح مسقط للوثوق به.

ثم هم لا يقطعون على صحة جميع أحاديث تلك الكتب، حتى لو عمل بها أصحابها وصححوها، بل لابد من النظر في أسانيدها ودلالتها، بمقتضى الضوابط التي يجري كل مجتهد حسب الأدلة التي اعتمدها.

وباب الاجتهاد عندهم في جميع ذلك مفتوح. ولا يشرع التقليد لهم إلا في حق العامي العاجز عن النظر في أدلة الأحكام.

كل ذلك بفضل أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، حيث أدبوهم فأحسنوا أدبهم، وعلموهم فأحسنوا تعليمهم، وسلكوا بهم سبل الاستدلال العلمي الرصين، حتى ألفوه، وتركز في نفوسهم، وعرفوا به، وعليه قام كيانهم. و((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ))(11). وله الشكر على ذلك أبداً واصباً. وهو حسبنا، ونعم الوكيل. نعم المولى، ونعم النصير.

 

المطلب الثاني: قولك في سؤالك هذا: ((وهذا غير لازم لأهل السنة ـ أي الاعتماد على كتب الشيعة ـ لأنهم اكتفوا بالرواية عن الرسول (ص)، ولعدم قولهم بعصمة الأئمة)).

ونقول: تذكر في كلامك هذا مبررين لعدم الاعتماد على كتب الشيعة..

ــــــــــــــــــــ

(1) تذكرة الحفاظ ج:1 ص:432 في ترجمة أحمد بن حنبل.

(2) تذكرة الحفاظ ج:1 ص:432 في ترجمة أحمد بن حنبل.

(3) تذكرة الحفاظ ج:1 ص:432 في ترجمة أحمد بن حنبل.

(4) خصائص مسند أحمد ص:13، واللفظ له. التقييد ص:161. المقصد الأرشد ج:1 ص:366 في ترجمة حنبل بن إسحاق بن حنبل.

(5) خصائص مسند أحمد ص:14، واللفظ له. التقييد ص:161.

(6) خصائص مسند أحمد ص:14 ـ15.

(7) طبقات الشافعية الكبرى ج:2 ص:31 في ترجمة أحمد بن محمد بن حنبل.

(8) كشف الخفاء للعجلوني ج:1 ص:9، واللفظ له. كنز العمال ج:1 ص:10.

(9) سورة النور الآية: 39.

(10) سورة الدخان الآية: 41.

(11) سورة الأعراف الآية: 43.