كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن المحن التي مني بها الحديث الشريف

فقد ورد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال (عليه السلام) : ((إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً. ولقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) على عهده، حتى قام خطيباً، فقال: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم، ولا يتحرج، يكذب على رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) متعمداً. فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله. ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، رأى وسمع منه، ولقف عنه، فيأخذون بقوله. وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك. ثم بقوا بعده (عليه وآله السلام)، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلا من عصم الله. فهو أحد الأربعة(1).

ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً. فهو في يديه يرويه، ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) . فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) شيئاً يأمر به، ثم نهى عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثم أمر به، وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، ولم يحفظ الناسخ. فلو علم أنه منسوخ لرفضه. ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب، خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ولم يهِم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه، ولم ينقص منه. فحفظ الناسخ، فعمل به، وحفظ المنسوخ، فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه.

وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) الكلام له وجهان، فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، فيحمله السامع، ويوجهه على غير معرفة بمعناه، وما قصد به، وما خرج من أجله. وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) من كان يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله (عليه السلام) حتى يسمعوه. وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه، وحفظته.

فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم))(2).

ويبدو أن سؤال السائل لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان نتيجة شيوع أحاديث البدع، واختلاف الخبر، بنحو أوجب تحير السائل والتباس الأمر عليه، بحيث لا يستطيع تمييز الحق بنفسه، حتى رجع لأمير المؤمنين (عليه السلام) وسأله. كما يبدو من جواب أمير المؤمنين (عليه السلام) أن عامة المسلمين في غفلة عن هذا الاختلاط والالتباس، فكل منهم يعمل بما وصل إليه من الحديث عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، لحسن ظنه بمن حدثه به من الصحابة، من دون أن يتسنى لهم التمييز بينهم، ومعرفة المنافق المتعمد للكذب من غيره، والواهم من غيره، والذي يروي الناسخ من الذي يروي المنسوخ.

 

أسباب المحن التي مني بها الحديث الشريف

كل ذلك بسبب الحجر على الحديث النبوي، والمنع من تدوينه، ومن الحديث به إلا في حدود ضيقة، تحت إشراف السلطة، وتبعاً لها، كما أشرنا إليه في جواب السؤال السابع من الأسئلة السابقة.

وبسبب ما هو المعلوم من عدم انتشار كبراء الصحابة وصلحاءهم في البلدان إلا ضمن رقابة مشددة، لا يأخذون معها حريتهم في نشر حديث النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ، إما لمجافاتهم للسلطة القائمة وعدم تعاونهم معها، أو لتخوفها منهم، حتى حجرت عليهم، خصوصاً في عهد عمر حيث منعهم من الانتشار في البلاد. وكان اعتماد السلطة وتعاونها مع كثير من المنافقين والمؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح ونحوهم، كما تضمنه كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقدم، وتقدمت الإشارة إليه في جواب السؤال الرابع من هذه الأسئلة.

كل ذلك أوجب اختلاط الأوراق والتباس الحق بالباطل، وضياع الأمر على المسلمين، فكان عامتهم يعملون بكل ما وصل إليهم، ويعتقدون صدقه غفلة عن حقيقة الحال، وقد أدرك بعض الخاصة ذلك، فبقي متحيراً قد خفيت عليه معالم الحق، حتى اضطر للسؤال.

هذا كله في الصدر الأول بعد مضي أقل من ثلاثة عقود من السنين على وفاة النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ، والصحابة متوافرون، وفيهم العدد الكثير من أهل الورع والمعرفة، وقد أخذوا حريتهم في بيان الحقيقة، وفي نشر الحديث الصادق عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) عندما ضعفت سيطرة السلطة في أواخر عهد عثمان. وخصوصاً في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، الذي كان عهده عهد انتصارهم، وانتصار أفكارهم التي يحملونها ويؤمنون بها، كما تقدم في جواب السؤال الرابع.

ــــــــــــــــــــ

(1) تقدم التعرض لهذا المقطع من كلامه (عليه السلام) في جواب السؤال الأول من هذه الأسئلة. كما تقدم منا التعليق عليه بما ينبغي الرجوع له والتدبر فيه. وإنما أعدناه هنا لتسهيل الإحاطة بمراده (عليه السلام) من كلامه بتمامه.

(2) نهج البلاغة ج:2 ص:188 ـ 191، واللفظ له. ينابيع المودة ج:3 ص:409.