مشاكل ما بعد تدوين السنة النبوية الشريفة

أما بعد التدوين فما أكثر المشاكل والمحن التي تعرض لها الحديث النبوي الشريف. والتي لا نستوفيها مهما أسهبنا في الموضوع.

 

امتناع أصحاب كتب الحديث عن تدوين كثير مما رووه

1 ـ فما أكثر ما ترك حملة الحديث ومن دونوه كثيراً من الحديث الذي رووه لم يدونوه.

فقد تقدم في أواخر الكلام حول أصول الحديث المعتمدة عند الجمهور عن أحمد بن حنبل أنه انتقى مسنده من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث.

وقد ذكر أبو علي الغساني عن البخاري أنه قال: ((خرجت الصحيح من ستمائة ألف حديث))(1).

وقال الإسماعيلي عنه أيضاً: ((لم أخرج في الكتاب إلا صحيحاً. وما تركت من الصحيح أكثر))(2).

وقال إبراهيم بن معقل: ((سمعت البخاري يقول: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول))(3).

وورد عن البخاري أيضاً أنه قال: ((أحفظ مائة ألف حديث صحيح))(4).

مع أن كتابه لم يتضمن إلا تسعة آلاف واثنين وثمانين حديثاً بما فيه المكرر(5).

وعن أبي بكر بن داسة أنه قال: ((سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب (يعني:كتاب السنن) جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثماني مائة حديث. ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه...))(6).

وروى البيهقي: ((أن أبا زرعة قد حفظ ستمائة ألف حديث))(7). وذكر صالـح بن محمد عن أبي زرعة أنه قال: ((أنا أحفظ عشرة آلاف حديث في القراءات...))(8).

وعن أحمد بن حنبل: ((صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر))(9) ، مع أن الموجود أقل من ذلك بكثير جداً... إلى غير ذلك مما لا يسعنا استقصاؤه.

 

ما هي معايير الانتقاء

ويا ترى كيف كانت معايير الانتقاء؟ وما هو المؤمن من اشتمال كثير مما ترك وأهمل على الحق، وأن يكون قد أهمل لعدم ملاءمته لميول المدونين وأهوائهم، وميول العامة الذين كانوا يجارونهم، خصوصاً بعد ماسبق من الحديث عنهم.

ولنذكر مثالاً واحداً من ذلك، ليتضح مدى تلاعب الأهواء بالحديث. قال الخلال: ((وأخبرني محمد بن علي قال: ثنا مهنى، قال سألت أحمد. قلت: حدثني خالد بن خداش. قال: قال سلام. وأخبرني محمد بن علي. قال: ثنا يحيى قال: سمعت خالد بن خداش قال: جاء سلام بن أبي مطيع إلى أبي عوانة، فقال: هات هذه البدع التي قد جئتنا بها من الكوفة. قال: فأخرج إليه أبو عوانة كتبه. فألقاها في التنور.

فسألت خالداً: ما كان فيها؟ قال: حديث الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) : استقيموا لقريش. وأشباهه.

قلت لخالد: وأيش؟ قال: حديث علي: أنا قسيم الجنة والنار. قلت لخالد: حدثكم به أبو عوانة عن الأعمش؟ قال: نعم. إسناده صحيح. وأخبرنا عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: سلام بن أبي مطيع من الثقات من أصحاب أيوب. وكان رجلاً صالحاً، حدثنا عنه عبدالرحمن بن مهدي.

ثم قال أبي: كان أبو عوانة وضع كتاباً فيه معايب أصحاب النبي (صلى الله عليه و سلم) وفيه بلايا، فجاء إليه سلام بن أبي مطيع، فقال: يا أبا عوانة أعطني ذلك الكتاب، فأعطاه، فأخذه سلام، فأحرقه. إسناده صحيح))(10).

2 ـ ثم ما أكثر ما تركوا الرواية عن بعض حملة الحديث لا لعدم وثاقتهم، بل لمخالفتهم لهم في المذهب والهوى.

ولنذكر مثالاً واحداً لذلك. ففي حديث الجراح بن مليح قال: ((سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر عن النبي (صلى الله عليه و سلم) كلها))(11).

ويقول محمد بن عمر الرازي: ((سمعت جريراً يقول: لقيت جابر ابن يزيد الجعفي فلم أكتب عنه، كان يؤمن بالرجعة))(12).

ومن المعلوم أن الإيمان بالرجعة ليس من شواهد الكذب، وإنما هو عقيدة مستمدة من أدلة وأحاديث لا يعجبه التصديق بها، وقد اختص بها طائفة تخالفه في المذهب والهوى.

ــــــــــــــــــــ

(1) مقدمة فتح الباري ج:1 ص:7.

(2) سير أعلام النبلاء ج:12 ص:471 في ترجمة أبي عبدالله البخاري، واللفظ له. تغليق التعليق ج:5 ص:426 فصل في ترجمة البخاري والتعريف بقدره وجلالته وذكر نسبته و نسبه ومولده وصفته: فصل في بيان شرطه فيه وما اتصل بذلك من قصته مع الذهلي. مقدمة فتح الباري ج:1 ص:7.

(3) مقدمة فتح الباري ج:1 ص:7، واللفظ له. سير أعلام النبلاء ج:10 ص:96 في ترجمة الإمام الشافعي. تهذيب التهذيب ج:9 ص:42 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم. تهذيب الكمال ج:24 ص:442 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة. تاريخ بغداد ج:2 ص:9 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة. وغيرها من المصادر.

(4) التقييد ص:33، واللفظ له. تذكرة الحفاظ ج:2 ص:556 في ترجمة البخاري. سير أعلام النبلاء ج:12 ص:415 في ترجمة أبي عبدالله البخاري، ج:24 ص:461 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة. تاريخ بغداد ج:2ص:25 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة. وغيرها من المصادر.

(5) مقدمة فتح الباري ج:1 ص:465 في آخر الفصل العاشر في عد أحاديث الجامع.

(6) سير أعلام النبلاء ج:13 ص:209، 210 في ترجمة أبي داود.

(7) تهذيب التهذيب ج:7 ص:30 في ترجمة عبيدالله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ.

(8) تهذيب التهذيب ج:7 ص:29 في ترجمة عبيدالله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ.

(9) تهذيب التهذيب ج:7 ص:30 في ترجمة عبيدالله بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، واللفظ له. سير أعلام النبلاء ج:13 ص:69 في ترجمة أبي زرعة الرازي. تهذيب الكمال ج:19 ص:96 في ترجمة عبيدالله بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، وغيرها من المصادر.

(10) السنة للخلال ج:3 ص:510في التغليظ على من كتب الأحاديث التي فيها طعن على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و سلم) .

(11) صحيح مسلم ج:1 ص:20 باب: بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة، واللفظ له. ميزان الاعتدال ج:2 ص:107 في ترجمة جابر بن يزيد ابن الحارث الجعفي. الضعفاء للعقيلي ج:1 ص:193 في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي. وغيرها من المصادر.

(12) صحيح مسلم ج:1 ص:20 باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة، واللفظ له. ميزان الاعتدال ج:2 ص:104 في ترجمة جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي. الضعفاء للعقيلي ج:1 ص:192 في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي. وغيرها من المصادر.