فتاوى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تقدم على فتاوى غيرهم

(الثالث): فتاوى منهم (عليهم السلام) غير مسندة للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) . فمن يقول بعصمتهم (عليهم السلام) يجب عليه الأخذ بها، وترك غيرها، لعلمه بكونها من الدين الذي يجب العمل به، وببطلان ما خالفها.

ومن لم يقل بعصمتهم (عليهم السلام) فهم في حقه كسائر المفتين، وليست العصمة شرطاً في المفتي بإجماع المسلمين أيضاً. ولذا عمل جمهور السنة بفتاوى أئمة المذاهب، من دون أن يقولوا بعصمتهم.

بل يترجح أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حينئذٍ على غيرهم لأمور...

(الأول): ما استفاض عنهم (عليهم السلام) من أنهم (عليهم السلام) لا يفتون برأيهم، بل بما ورثوه من العلم عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ففي حديث الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) : ((قال: لو أنا حدثنا برأينا ضللنا، كما ضل من كان قبلنا. ولكنا حدثنا ببينة من ربنا، بينها لنبيه (صلى الله عليه و آله و سلم) فبينها لنا))(1).

وفي حديث جابر: ((قال أبو جعفر (عليه السلام) : لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين. ولكنا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وأصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم))(2).

وفي حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((إن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) دعا علياً في المرض الذي توفي فيه، فقال: يا علي ادن مني، حتى أسر إليك ما أسر الله إلي، واءتمنك على ما اءتمنني الله عليه. ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بعلي (عليه السلام) . وفعله علي (عليه السلام) بالحسن (عليه السلام) ، وفعله الحسن (عليه السلام) بالحسين (عليه السلام) ، وفعله الحسين (عليه السلام) بأبي (عليه السلام) ، وفعله أبي (عليه السلام) بي (صلوات الله عليهم أجمعين)))(3).

وفي حديث عنبسة، قال: ((سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسالة، فأجابه فيها. فقال الرجل: إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟ فقال له: مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) . لسنا نقول برأينا من شيء))(4).

والنصوص في ذلك كثيرة جداً على اختلاف ألسنتها بنحو تزيد على التواتر الإجمالي(5).

(الثاني): احتمال عصمتهم (عليهم السلام) ـ كما تقول الشيعة ـ لعدم الدليل النافي لها، وغاية ما يدعى عدم وضوح الدليل عليها عند الجمهور. بخلاف غيرهم، حيث لا قائل بعصمتهم. بل من المعلوم ـ بالإجماع والضرورة ـ عدم عصمتهم.

(الثالث): الأدلة التي تقدم الاستدلال بها لعصمتهم (عليهم السلام) . فإنه لو فرض ـ جدلاً ـ عدم دلالتها على عصمتهم، فلا أقل من أنها تدل على لزوم الرجوع لهم، وترجيح أحاديثهم وفتاواهم على أحاديث وفتاوى غيرهم. فهم أولى من غيرهم بعلم الدين، وبالإمامة في المسلمين.

يقول ابن حجر الهيثمي تعقيباً على حديث الثقلين: ((وفي قوله (صلى الله عليه و سلم) : لا تقدموهما، فتهلكوا. ولا تقصروا عنهما، فتهلكوا، ولا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم. دليل على أن من تأهل منهم للمراتب العلية، والوظائف الدينية، كان مقدماً على غيره...))(6).

وهو المناسب لما روي عنهم(صلوات الله عليهم)، ففي خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) : ((أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى. إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلـح على سواهم، ولا تصلـح الولاة من غيرهم))(7).

وفي حديث زرارة، قال: ((كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له رجل من أهل الكوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : سلوني عما شئتم فلا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به.

قال: إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فليذهب الناس حيث شاؤوا، فوالله ليس الأمر إلا من ههنا. وأشار بيده إلى بيته))(8).

وفي حديث أبي بصير: ((سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا تجوز؟ فقال: لا.

قلت: إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز.

فقال: اللهم لا تغفر ذنبه، ما قال الله للحكم: ((إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ)) ، فليذهب الحكم يميناً وشمالاً فو الله لا يؤخذ العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل (عليه السلام) ))(9).

وفي حديث أبي مريم: ((قال أبو جعفر لسلمة بن كهيل والحكم ابن عتيبة: شرقاً وغرباً فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت))(10).

وبالجملة: عدم القول بعصمتهم (عليهم السلام) لا يقتضي الإعراض عنهم لغيرهم، بعد عدم القول بعصمة غيرهم أيضاً. بل غاية ما يقتضي التخيير بينهم (عليهم السلام) وبين غيرهم، أو ترجيحهم على غيرهم، لما سبق.

ولا يفسر إعراض جمهور السنة عن أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ـ مع ذلك ـ إلا بتفاعل الجمهور مع النواصب، وشعورهم بمباينة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لهم في الفقه والعقائد، بنحو يقتضي مجافاتهم لهم، كما سبق ذكر الشواهد لذلك في غير موضع مما تقدم.

هذا ما تسنى لنا في الجواب عن سؤالك. ونرجو أن يكون وافياً بالمطلوب، وبإيضاح الحقيقة التي تريد التعرف عليها.

ونسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وفضله أن يمدنا بالتوفيق والتسديد، ويعصمنا من الخطل والزلل، في القول والعمل. إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، ((وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ))(11). وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج:2 ص:172.

(2) بحار الأنوار ج:2 ص:172.

(3) بحار الأنوار ج:2 ص:174.

(4) بحار الأنوار ج:2 ص:173.

(5) الكافي ج:1 ص:221 ـ 223 باب: فرض طاعة الأئمة، والباب الذي بعده، والباب الذي بعده، وباب أن الأئمة (عليهم السلام) ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم، والباب الذي بعده، والباب الذي بعده. وغيرها. وبحار الأنوار ج:2 ص:172 ـ 179.

(6) الصواعق المحرقة ج:2 ص:654 تتمة: باب وصية النبي.

(7) نهج البلاغة ج:2 ص:27.

(8) الكافي ج:1 ص:399.

(9) الكافي ج:1 ص:400.

(10) الكافي ج:1 ص:399.

(11) سورة هود الآية: 88.