مجموع النصوص الدالة على إمامة الإمام الجواد (عليه السلام)

هذا ما عثرنا عليه من النصوص الدالة على إمامة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الجواد (صلوات الله عليه). وربما تكون هناك نصوص أخر يحتاج دلالتها إلى كلام لا يسعنا في هذه العجالة، وإذا أضيفت إلى نصوص الطائفة الرابعة، المتضمنة لذكر الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) بأسمائهم قاربت النصوص الدالة على إمامته (عليه السلام) التسعين حديثاً.

 

أحاديث ثبوت الإمامة في الأعقاب

ويؤكد ذلك أمران:

(الأول): النصوص الكثيرة عن آبائه (صلوات الله عليهم) ـ الذين ثبتت إمامتهم بما سبق ـ المتضمنة أن الإمامة بعد الحسن والحسين (صلوات الله عليهما) في الأعقاب وأعقاب الأعقاب. ولا تنتقل إلى أخ أو عم أو خال. وقد تقدم التعرض لها ولمصادرها عند الكلام في نصوص إمامة الإمام الصادق (عليه السلام)، وهي وإن كانت تنفع فيمن سبقه من الأئمة أيضاً ـ كما ذكرناه آنفاً ـ إلا أنها فيه وفيمن بعده من الأئمة من ولده أوضح، لتكثر النصوص المتضمنة لذلك تدريجياً بتعاقب الأئمة (عليهم السلام). بل في جملة منها التأكيد على أن استمرار الإمامة في عقب الإمامين الكاظم والرضا (عليهم السلام)، وأن المهدي من ذريتهما نتيجة ذلك، وقد تقدم بعضها.

ومن أجل ذلك كان ظاهر جملة من الأحاديث المتقدمة المتضمنة للنص على الإمام الجواد (عليه السلام) المفروغية عن ذلك بين الشيعة في عصر الإمام الرضا (عليه السلام)، وتسالمهم عليه، وأنهم كانوا ينتظرون ولادة ولد له، مع مفروغيتهم عن ثبوت الإمامة في عقبه، وأن خصومه كانوا يحاولون الإنكار على دعواه الإمامة ـ قبل ولادة الإمام الجواد (عليه السلام) ـ بأنه لا عقب له. ومن المعلوم أن الإمام الرضا (عليه السلام) لم يعقب حين وفاته غير الإمام أبي جعفر الجواد، فيكون هو المتعين للإمامة. ولاسيما مع عدم دعوى غيره الإمامة بالنص.

ومن هنا كان الظاهر مفروغية الشيعة عن إمامة الإمام الجواد بعد أبيه، وإنما كان السؤال من بعضهم إما قبل ولادته، لتحيرهم في الأمر، أو بعد ولادته، للتأكد والتثبت، والجمود على التشبث بالنص.

ولذا روى أحمد بن محمد بن عيسى عن الإمام الجواد (صلوات الله عليه) نفسه حديثاً طويلاً قال فيه: ((فقال لي أبو جعفر (عليه السلام) ابتداء منه: ذهبت الشبهة. ما لأبي ولد غيري. قلت: صدقت، جعلت فداك))(1).

 

صغر سن الإمام الجواد (عليه السلام) من شواهد التسديد الإلهي

(الثاني): أن من المعلوم أهمية الإمامة عند الشيعة وقدسيتها، تبعاً لما ورد عن أئمتهم (عليهم السلام) من تميز الإمام بالكرامة على الله تعالى ورفعة الشأن عنده، حتى مكنه من مفاتيح علمه وورثه مواريث الأنبياء (صلوات الله عليهم)، وسلطه على التصرف في الكون، بنحو يستطيع خرق نواميس الطبيعة بالمعجز، وأوجب على الناس طاعته والتسليم له، والخضوع لحكمه.

كما أن هذا المنصب مما يضيق به الجمهور الذين هم على خلاف خط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وخصوصاً ذوي السلطان منهم، حيث يرون فيه إنكاراً لشرعية خلافتهم وسلطانهم.

ومن الظاهر أن الإمام الجواد (صلوات الله عليه) قد تقلد هذا المنصب العظيم في الثامنة من عمره الشريف. وهو عمر لا يؤهل الإنسان العادي لتحمل مسؤولية بيت واحد، بل ولا لتحمل مسؤولية شخصه وحده. فلو لم يكن (صلوات الله عليه) حقيقاً بهذا المنصب الرفيع، ومورداً للعناية الربانية والتسديد الإلهي، لانهار أمام هذه المسؤولية العظمى، وفضح أمام الناس خاصتهم وعامتهم، وكانت نهاية منصب الإمامة، وفشل دعوتها، على يديه.

لكنه(صلوات الله عليه) قد قام على قدميه، وفرض شخصيته واحترامه على القريب والبعيد، والعدو والصديق، وكان له كيانه المعتد به عند السلطة، وعند الجمهور، فضلاً عن شيعته ومواليه.

 ومن الملفت للنظر حقاً خضوع بعض مشايخ الطالبيين له ممن يشاركونه في النسب، ويتقدمون عليه في الطبقة، حيث لا يظهر لهم داع لذلك إلا الإذعان لأمر الله تعالى فيه، والبخوع لحكمه، لكونهم على بصيرة من حقه (عليه السلام)، كعمه الحسين بن موسى بن جعفر، وعم أبيه السيد الجليل علي بن جعفر العريضي.

يقول الحسين بن موسى: ((كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) بالمدينة، وعنده علي بن جعفر، وأعرابي من أهل المدينة جالس. فقال لي الأعرابي: من هذا الفتى؟ وأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام).

قلت: هذا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: يا سبحان الله! رسول الله قد مات منذ مائتي سنة وكذا وكذا سنة، وهذا حدث، كيف يكون هذا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

قلت: هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى وصي جعفر بن محمد، وجعفر وصي محمد بن علي، ومحمد وصي علي بن الحسين، وعلي وصي الحسين، والحسين وصي الحسن، والحسن وصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر، فقال: يا سيدي يبدأني، لتكون حدة الحديد فيَّ قبلك، قال: قلت (يعني للأعرابي الذي كان يحدثه): يهنك. هذا عم أبيه. قال: فقطع له العرق. ثم أراد أبو جعفر (عليه السلام) النهوض، فقام علي بن جعفر، فسوى له نعليه حتى يلبسهما))(2).

وعن علي بن جعفر أنه قال: ((قال لي رجل أحسبه من الواقفة: ما فعل أخوك أبو الحسن؟ قلت: قد مات. قال: وما يدريك بذاك؟ قال: قلت: اقتسمت أمواله، وأنكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده؟ قلت: ابنه علي. قال: فما فعل؟ قلت له: مات. قال: وما يدريك أنه مات؟ قلت: قسمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده؟ قلت: أبو جعفر ابنه. قال: فقال له: أنت في سنك وقدرك، وابن جعفر بن محمد، تقول هذا القول في هذا الغلام؟! قال: قلت: ما أراك إلا شيطاناً. قال: ثم أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء، ثم قال: فما حيلتي إن كان الله رآه أهلاً لهذا، ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلاً؟))(3).

وعن محمد بن الحسن بن عمار قال: ((كنت عند علي بن جعفر ابن محمد جالساً بالمدينة. وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه ـ يعني: أبا الحسن (عليه السلام) ـ إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) المسجد، مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبل يده وعظمه. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): يا عم اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم؟ فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه، ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل! فقال: اسكتوا إذا كان الله عزوجل ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة، وأهّل هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه أنكر فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون. بل أنا له عبد))(4).

والإنصاف أن ذلك من أقوى الأدلة على إمامته (عليه السلام) وإمامة آبائه (عليهم السلام) من قبله، لأن إمامته فرع إمامتهم، وأصدق البراهين على حقية دعوة الإمامة الظافرة وسلامتها، وعلى عناية الله تعالى بها ورعايته لها، وقد ((كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))(5).

ويجري هذا بعينه في الإمام الهادي (عليه السلام) الذي تسنم هذا المنصب العظيم في مثل سن أبيه الإمام الجواد (عليه السلام)، على ما يأتي التعرض له.

بل الإنصاف أن هذا يجري في جميع الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)، كما يأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر القرائن المؤيدة للنصوص. إلا أن للإمامين الجواد وولده الهادي (صلوات الله عليهما) تميزهما بسبب صغر السن. ومن ثم خصصناهما بهذا الحديث.

ــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج:50 ص:67 ـ 68. اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:859.

(2) معجم رجال الحديث ج:12 ص:316 ـ 317 في ترجمة علي بن جعفر، واللفظ له. اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:729.

(3) اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:728، واللفظ له.معجم رجال الحديث ج:12 ص:316 في ترجمة علي بن جعفر.

(4) الكافي ج:1 ص:322. معجم رجال الحديث ج:12 ص:317 في ترجمة علي بن جعفر.

(5) سورة المجادلة الآية:21.