فرض الأئمة (عليهم السلام) شخصيتهم واحترامهم على الجمهور

(الثالث): أن من الظاهر أن دعوى الشيعة في الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) دعوى عريضة جداً، فهم يعتقدون..

(أولاً): باستحقاقهم الإمامة والخلافة بالنص بنحو يقضي بعدم شرعية خلافة غيرهم من المتقدمين والمتأخرين.

(وثانياً): بتميزهم عن بقية الأمة بالعلم والمعرفة والخلق الرفيع، وسائر جهات الكمال، حتى بلغوا مرتبة العصمة، وشاركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك.

(وثالثاً): بقدسيتهم ورفعة شأنهم عند الله تعالى، وتمييزه لهم بألطافه وعنايته، فهم أفضل الأمة عنده، وأقربها إليه، وأخصها به، حتى أقدرهم على فعل المعجز، ومكنهم من مفاتيح علمه وقدرته.

(ورابعاً): بأن موالاتهم من أسس الدين، وأنه: ((لايدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه))(1).

 وإن هذه الدعوى ـ وبهذه السعة ـ معروفة عن الشيعة من الصدر الأول، على ما ذكرناه آنفاً.

 كما لا ريب في أنه كان للشيعة كيان ظاهر ووجود واسع منتشر في كافة طبقات الأمة وشرائحها الاجتماعية، وهي مع ذلك تحاول إثبات دعوتها، والاستدلال عليها، وحمل الناس على اعتناقها.

ومن الظاهر أن هذه الدعوى بهذه المقارنات التي تحيط بها يضيق منها الجمهور ـ بجميع فئاته ـ غاية الضيق، ويأباها أشد الإباء. فهي تهدد السلطان الغالب في سلطانه، وتكسر كبرياء العلماء وذوي الشأن والكلمة المسموعة في الجمهور، وتثير العامة الذين يقدسون الخلفاء الأولين ويرفعون من شأنهم، نتيجة الإعلام المعادي لأهل البيت (صلوات الله عليهم). بل يضيق منها حتى بقية أهل البيت ومن سار في فلكهم من غير الإمامية.

ومن الظاهر أن الأئمة (صلوات الله عليهم) لم يكونوا محجوبين عن عموم الناس، ولا معزولين عنهم، ولا بعيدين منهم، بل كانوا يخالطونهم ويعاشرونهم، ويحتكون بهم. فلو لم يتميزوا (صلوات الله عليهم) بواقعهم الرفيع، وسلوكهم السليم، وكانوا أناساً عاديين، لكانوا معرضين للهفوات والزلات في العلم والعمل.

ولو صدر ذلك منهم لاتخذه أعداؤهم نقطة ضعف عليهم، وظاهرة سلبية فيهم، ولضخموها وأضافوا إليها، من أجل التشنيع عليهم، وتبشيع صورتهم، وإسقاطهم في نفوس عموم المسلمين.

نظير ما جهد به الإعلام الأموي من إشاعة أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ومن والاه قد قتلوا عثمان، تشبثاً منهم بحجج واهية، من أجل تبرير موقفهم العدواني منه (صلوات الله عليه).

ولاسيما مع ما يملكه أعداء الشيعة من قوى إعلامية هائلة. وبذلك يضعفون دعوة الشيعة بل يجهزون عليها من أيسر الطرق وأقربها.

مع أن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل أمدّ الله تعالى الأئمة (صلوات الله عليهم) بعنايته وتسديده، وعصمهم من الهفوات والزلات، وطهرهم من الرجس تطهيراً، وسد الطريق على أعدائهم ومناوئيهم. ففرضت شخصيتهم على العدو والولي، وبخعت لمقامهم الرفيع أعناق الخلائق، وأجمعت الكلمة على جلالتهم وتقديسهم وتعظيمهم.

وإن كانت النفوس تأبى الإذعان لهم بحقهم، وتضيق من تعاليمهم ومفاهيمهم، والصدور تغلي على شيعتهم ومواليهم الذين ثبتوا تلك المفاهيم وركزوها، وجرّوا على تلك التعاليم، وروجوها، وقد حمل ذلك السلطات المتعاقبة على التضييق على الأئمة (صلوات الله عليهم) وظلمهم، من دون مبرر ظاهر، بل بوجه عدواني سافر.

ثم انصبت نقمتها ونقمة من سار في فلكها، وتبنى مفاهيمها الدينية، على أتباع أئمة أهل البيت(عليهم السلام)  وشيعتهم، فجدوا في ظلمهم، والتنكيل بهم، والافتراء عليهم، وتبشيع صورتهم، والتشنيع عليهم، ونحو ذلك مما يفرضه الضعف والإفلاس المبدئي على من يملك القوة المادية أمام خصمه، كما قال الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه): ((وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف))(2).

 

موقف المأمون العباسي ومشروعه الخطير

نعم خرج عن ذلك المأمون العباسي، فحاول ـ بما أوتي من دهاء وبعد نظر ـ أن يلتف على الإمام الرضا(عليه السلام) ، ويجره للدخول في السلطة، والتوحل فيها، من أجل أن يتعرض لما يتعرض له السلطان من مفارقات وسلبيات تشوه صورته عند الناس، وتسقطه عن عرش الجلالة والتقديس.

 

محاورة المأمون مع الإمام الرضا  (عليه السلام)

فقد روى أبو الصلت الهروي حديث محاورته الطويلة مع الإمام الرضا(عليه السلام) حين امتنع (صلوات الله عليه) من الدخول في السلطة.

وفيه: ((فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا. فقال الرضا(عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا. وأني لأعلم ما تريد. فقال المأمون: وما أريد؟ قال: الأمان على الصدق؟ قال: لك الأمان.

قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه. ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟

فغضب المأمون، ثم قال: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وأمنت سطوتي. فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلا أجبرتك على ذلك. فإن فعلت وإلا ضربت عنقك.

فقال الرضا(عليه السلام): قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي التهلكة. فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل على أني لا أولي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً، ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً. فرضي منه بذلك، وجعله ولي عهده على كراهة منه(عليه السلام) بذلك))(3).

ــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة ج:2 ص:40 ـ 41.

(2) الصحيفة السجادية الدعاء الثامن والأربعون دعاؤه(عليه السلام) يوم الضحى والجمعة.

(3) عيون أخبار الرضا ج:1ص:151ـ152. علل الشرائع ج:1ص:237ـ238. الأمالي للصدوق ص:125ـ127.