تعظيم المسلمين لقبر الإمام الرضا وقبور آبائه (عليهم السلام)

ثم صار قبر الإمام الرضا(صلوات الله عليه) في طوس كعبة للوافدين من جميع المسلمين يتقربون بزيارته إلى الله تعالى، ويتوسلون إليه به في حل مشاكلهم وكشف مهماتهم وقضاء حوائجهم، من دون أن يختص ذلك بالشيعة.

فهذا ابن حبان قد تقدم منه في جواب السؤال الثالث أنه ذكر في ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام) أنه يحتج بروايته ما كان من غير رواية أولاده، ومع ذلك يقول عن قبر الإمام الرضا (عليه السلام): ((قد زرته مراراً كثيرة. وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس، فزرت قبر علي بن موسى الرضا (صلوات الله على جده وعليه)، ودعوت الله إزالتها عني، إلا استجيب لي، وزالت عني تلك الشدة. وهذا شيء جربته مراراً، فوجدته كذلك. أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته، صلى الله عليه وسلم الله عليه وعليهم أجمعين))(1).

وقال أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى: ((خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي، مع جماعة من مشايخنا، وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه ـ يعني: ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا))(2).

وحال قبره (صلوات الله عليه) في ذلك حال قبور آبائه وأبنائه (صلوات الله عليهم) حيث صارت كعبة للوافدين، ووسيلة للراغبين، وملجأ للمكروبين. يقول شيخ الحنابلة أبو علي الخلال: ((ما أهمني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب))(3).

كل ذلك لجلالتهم وقدسيتهم ورفعة شأنهم عند عموم المسلمين.

ويزيد في غرابة هذا الأمر..

(أولاً): أن بعض الأئمة (صلوات الله عليهم) قد تسنم منصب الإمامة، وهو في شرخ شبابه، حيث تكون شهوات الإنسان في أوجها، وغرائزه في عنفوانها. بل كان بعضهم في عهد الطفولة المبكرة ـ كما سبق في الإمامين محمد بن علي الجواد وابنه علي بن محمد الهادي (عليهما السلام) ـ حيث لا ينتظر من مثله الاستقلال بإدارة أموره الخاصة، فضلاً عن القيام بأعباء هذا المنصب الخطير.

(وثانياً): الحفاظ على الكمال في سلسلة نسبية واحدة، حيث ورث عشرة رجال، كل منهم عن أبيه العلم والكمال والهيبة والجلال، واستطاع كل منهم أن يفرض شخصيته، وقدسيته، واحترامه، على العدو والصديق، من دون قوة تدعمه. بل على خلاف الاتجاه العام، مع إنكار شرعية السلطان الغالب. وقد تميز بذلك عن بقية أهل البيت ممن يشاركهم في بعض آبائهم الكرام (صلوات الله عليهم)، فضلاً عن غير أهل البيت من بقية المسلمين.

وذلك بمجموعه خارق للعادات، ولا تفسير له إلا بمميزات ذاتية أودعها الله تعالى فيهم، ورفعهم بها عن مستوى البشر، وحاطهم بعنايته ورعايته، وتسديده وتأييده، تثبيتاً للحجة وتأكيداً لها، وقطعاً للمعاذير ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ))(4). وكفى بذلك عاضداً للنصوص المتقدمة، وقرينةعلى صدقها، وشاهداً على المدعى في المقام.

(الرابع): ما أشرنا إليه في جواب السؤال السادس من أن الحق لابد أن يكون من الوضوح والجلاء بحد لا يخرج عنه إلا مكابر معاند، أو جاهل مقصر لا ينفعه جهله عذراً عند الله تعالى، كي تقوم بذلك الحجة على الناس ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ))(5)، وكما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))(6).

فإن ذلك يستلزم أن يكون في جميع العصور ناطق بالحق ظاهر يدعو الناس إليه، وينبههم من غفلتهم، من أجل أن يبحثوا عن الحق، وينظروا في أدلته، وإلا كانوا معذورين في ترك الحق لغفلتهم،

ولم يعاقبوا عليه، وهو خلاف ما تضمنته الأدلة السابقة في جواب السؤال المذكور.

وقد صرح بذلك في الحديث المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))(7).

ومن ثم تعين (أولاً): امتناع اجتماع الأمة على الضلال، كما صرح به غير واحد. بل تكاد الأمة تجتمع على ذلك.

(وثانياً): أن يكون اندثار بعض الفرق، وعدم ظهور الناطق بها الداعي إليها، شاهداً ببطلانها، ومخالفتها للحق.

وبعد أن أثبت الشيعة أن الحق لأهل البيت(صلوات الله عليهم) وأن النجاة باتباعهم والائتمام بهم، وبالتمسك بحبلهم، وركوب سفينتهم. فاللازم النظر في الترجيح بين الفرق التي ترى أن الخلافة والإمامة في أهل البيت(عليهم السلام). فإذا ثبت بطلان قول غير الإمامية من هذه الفرق تعين كون الحق مع الإمامية، من دون حاجة للدخول في التفاصيل.

ومن هنا نقول: تترجح فرقة الإمامية ـ وهي التي تدين بإمامة الأئمة الاثني عشر المعهودين (صلوات الله عليهم) ـ بأمور يشهد كلها أو بعضها ببطلان دعوى بقية الفرق المنتسبة لأهل البيت (صلوات الله عليهم). بل حتى الفرق الأخرى التي لا تنتسب لهم.

(الأول): بقاء الشيعة الإمامية وظهور دعوتهم، وسماع صوتهم بنحو يصلـح لتنبيه الغافل ورفع عذره، واندثار كثير من الفرق التي شغلت الساحة في بعض الفترات الزمنية المحدودة، كالفطحية والواقفة وغيرهما.

(الثاني): ما تضمن أن الأرض لا تخلو من إمام تجب معرفته وطاعته، وقد تقدم التعرض له في جواب السؤال الرابع من الأسئلة السابقة. حيث سبق أن ذلك يناسب كون الإمامة بالنص، بنحو لا يحتاج إلى أمر قد لا يحصل، كبيعة الناس للشخص، كما يقول به الجمهور، والخوارج، وكجهاده بالسيف، كما ينسب للزيدية،

وغير ذلك.

(الثالث): ما تضمن أن الأئمة اثنا عشر، خصوصاً بعد ما تقدم عند الكلام في الطائفة الثانية من نصوص الإمامة، من ظهور جملة كثيرة من النصوص في أن الإمامة عهد معهود من الله، عهده إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده.

(الرابع): قاعدة اللطف القاضية بعصمة الإمام، والتي تقدم الكلام فيها في جواب السؤال الخامس من الأسئلة السابقة، كما تقدم ما يؤيد ذلك في أواخر جواب السؤال الثامن من هذه الأسئلة، عند التعرض لما منيت به السنة الشريفة من المآسي والمحن.

فإن هذه الأمور بمجموعها تكفي في ترجيح فرقة الإمامية. على غيرها من الفرق التي تدين بأن الحق لأهل البيت(عليهم السلام) والإمامة فيهم. بل على جميع فرق المسلمين.

وإذا ثبت أنها هي الفرقة المحقة الناجية من بين هذه الفرق كان إجماعها وتسالمها في أمر الإمامة حجة، لئلا يلزم ضلال الأمة بأجمعها. وحينئذٍ تثبت إمامة من تسالمت وأجمعت على إمامته من الأئمة الاثني عشر، بنحو يغني عن تواتر النص على إمامة كل منهم، لو فرض عدم حصوله. وكفى بهذا قرينة قاطعة تضاف للقرائن السابقة الشاهدة بصدق النصوص المتقدمة على إمامتهم (صلوات الله عليهم).

هذا ما تيسر لنا عاجلاً من عرض النصوص على إمامة الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) والقرائن العاضدة لها. وقد اختصرنا الحديث في بعض الجهات أو تجاوزناه، لضيق المجال، واكتفاء بما ذكره علماؤنا (رضوان الله تعالى عليهم) في المطولات.

ونحن على قناعة تامة بأن ما ذكرناه كاف في قيام الحجة المعذرة مع الله سبحانه وتعالى يوم نفد عليه، ونوقف بين يديه و((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))(8). ونسأله بمنه وفضله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يعصمنا في مهاوي الهلكات. إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين.

ــــــــــــــــــــ

(1) الثقات ج:8 ص:457 في ترجمة علي بن موسى الرضا.

(2) تهذيب التهذيب ج:7 ص:339 في ترجمة علي بن موسى الرضا.

(3) تاريخ بغداد ج:1 ص:120 باب ما ذكر في مقابر بغداد المخصوصة بالعلماء والزهاد.

(4) سورة الأنفال الآية:42.

(5) سورة الأنفال الآية:42.

(6) تقدمت مصادره في جواب السؤال السادس في (ج2 : ص334).

(7) صحيح مسلم ج:3 ص:1523، واللفظ له، ص:1524 كتاب الإمارة: باب قوله(صلى الله عليه و سلم): لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم. صحيح البخاري ج:3 ص:1331 كتاب المناقب: باب سؤال المشركين أن يريهم النبي(صلى الله عليه و سلم) آية فأراهم انشقاق القمر. صحيح ابن حبان ج:1 ص:261 كتاب العلم: ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة، ج:15 ص:248 باب وفاته(صلى الله عليه و سلم) ذكر البيان بأن الفتن إذا وقعت والآيات إذا ظهرت كان في خللها طائفة على الحق أبداً. وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(8) سورة الأعراف الآية:43.