هل أدلة بقية فرق المسلمين أقوى من أدلة الإمامية؟

وبعد كل ذلك نذكر بما سبق في أول هذا الحديث من أن مسألة الإمامة لا تخص الشيعة، بل هي قضية إسلامية عامة ملحة.لأن من مات وليس له إمام، أو لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية، كما استفاضت بذلك النصوص على ما تقدم.

حيث يتعين بعد هذا العرض الطويل على كل مسلم يخشى الله واليوم الآخر أن ينظر في أدلته على إمامة أئمته الذين يدين الله تعالى بإمامتهم، وفي أدلة الشيعة المتقدمة وغيرها مما لسنا بصدد عرضه، ثم يقارن بينها بموضوعية كاملة، وتجرد من التراكمات والمسلمات، ويحكم ضميره ووجدانه، و((الإنسان على نفسه بصيرة))(1)، ثم يختار ما يراه الأقوى منها، والأحرى بالحق، ليكون على بصيرة من أمره، وعذر عند ربه يوم يفد عليه، حين ينادى ((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ))(2)، و((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ))(3).

((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا ً* وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً))(4).

وبذلك نكون قد أدينا ما علينا من التذكير والنصيحة، ثم لكل امرئ وما اختار. ((وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ))(5).

هذا، وبعد هذه الجولة الطويلة في جواب الأسئلة التسعة التي وجهتها، فالظاهر أنا لم نستوف الأجوبة حقها من الكلام، ولم نستقص الشواهد والقرائن الدخيلة في المواضيع المطروقة في هذه الأجوبة، لضيق الوقت عن ذلك. لكن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

ونرجو أن يكون الهدف من هذا الحوار الطويل هو الوصول للحقيقة والتعرف عليها، من أجل أداء حقها، والخروج عن مسؤوليتها، وعن عهدتها، ليكون الحوار مثمراً، حرياً بصرف الوقت، وبذل الطاقة والجهد.

 

التذكير بشدة المسؤولية وخطورة الموقف

وفي ختام هذا الحوار يحسن بنا التنبيه على أمر ينبغي لكل مسلم التوجه له، وعدم إغفاله. وهو أن الصراع قد اشتد في عصور الإسلام الأولى بين الأطراف، وبلغ الخصام بينهم الذروة. ولكل هدفه في صراعه، دينياً كان أو دنيوياً، نبيلاً كان أو شريراً، وعلم ذلك عند الله تعالى.

وكل طرف قد جنى ثمرة صراعه في الدنيا، أو تحمل مآسيه وآلامه، ثم هو يتحمل مسؤوليته في الآخرة، ويحاسب عليه يوم يفد على الله سبحانه ((ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى))(6)، وإن الله عز وجل لا يحابي أحداً، وليس بينه وبين أحد قرابة، بل كلهم عبيده، فأكرمهم عليه أطوعهم له وأتقاهم، وأهونهم عليه أشدهم محادة له وأعصاهم.

أما الأجيال اللاحقة فهي وإن بعدت عن ذلك الصراع والخصام، ولم تجن شيئاً من ثمراته، ولم تعش مآسيه وآلامه، إلا أنها تتحمل تبعاته في الآخرة، وتشارك في مسؤوليته، تبعاً لمن تختار موالاته في ذلك الصراع، وترضى عمله وتبرره، لأن من رضي بعمل قوم حشر معهم، والمرء مع من أحب، وإنما يجمع الناس الرضا والغضب، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) .

ففي حديث السكوني عن الإمام الصادق (عليه السلام)  عن أبيه عن علي (عليهما السلام): ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  من شهد أمراً، فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده))(7).

وفي حديث عبد الله قال: ((جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً، ولم يلحق بهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): المرء مع من أحب))(8).

وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: ((قلت يا رسول الله: إنا لنحب قوماً ما نبلغ أعمالهم، قال: فإنك مع من أحببت. فقال القوم: ونحن كذلك يا رسول الله قال: أنتم كذلك))(9).

وعن أمير المؤمنين  (عليه السلام) أنه قال: ((إنما يجمع الناس الرضا والسخط، فمن رضي أمراً فقد دخل فيه، ومن سخطه فقد خرج منه))(10)، ونحوها كثير(11).

وقد قال الله تعالى في الحديث عن اليهود الذين كانوا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا يخاصمونه:(( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ))(12)، فنسب قتل الأنبياء والرسل لهم، مع أنهم لم يباشروا قتلهم، وإنما قتلهم أسلافهم.

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في أحاديث متعددة أنهم لما رضوا بفعل أسلافهم ولم يبرؤوا منهم، كان ذلك منشأ لنسبة القتل لهم وتحملهم إثمه وإن لم يباشروه بأنفسهم(13).

ونتيجة لذلك فعلى العاقل الرشيد أن يرتاد لنفسه، ويحكم أمره، ويكون على بصيرة من دينه، وبينة من موقفه، فيوالي من هو أهل للموالاة، ويبرأ ممن يستحق البراءة، مع كمال التثبت والتروي. أما إذا فرط في ذلك فهو قد يتحمل تبعة أعمال الماضين من دون أن يجني ثمارها وينعم بلذتها، وبذلك يخسر الدنيا والآخرة ((ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ))(14).

وعما قريب يرفع الغطاء، وتنكشف الحقائق، وتبلى السرائر، ولات حين مناص ((إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ))(15).

هذا ما أردنا التنبيه عليه، وإلفات نظر المسلمين إليه، و((الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ))(16)، ((وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )) (17).

ونسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا جميعاً ممن أجاب دعوته واهتدى بهداه، ووالى أولياءه، وعادى أعداءه، وأن يمدنا جميعاً بالتأييد والتسديد، لتحقيق الحقائق الدينية الشريفة، وإيضاحها، ودفع غائلة التشكيك والشبهات عنها، والدعوة لها بالحكمة والموعظة الحسنة. مع خلوص النية وحسن السريرة والطوية. وأن ينبهنا جميعاً من نومة الغافلين، وسِنة المسرفين، ونعسة المخذولين، ويبعدنا عن اللجاج والعناد، والإصرار والاستكبار، ويجعلنا ممن دعي فأجاب، ووعظ فأناب، وذكر فاذكر، وبصر فاستبصر. إنه الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا، ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير.

والحمد لله رب العالمين، وله الشكر واصباً أبداً، دائماً سرمداً. وصلى الله على رسوله الأمين، وآله الغر الميامين، وسلم تسليماً كثيراً.

والسلام عليك وعلى إخوانك جميعاً، ورحمة الله وبركاته.

ــــــــــ

(1) سورة القيامة الآية:14.

(2) سورة الصافات الآية: 24ـ 25.

(3) سورة النحل الآية: 111.

(4) سورة الإسراء الآية: 71 ـ 72.

(5) سورة النحل الآية:9.

(6) سورة النجم الآية: 41.

(7) وسائل الشيعة ج:11 ص:409 باب:5 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما حديث:2.

(8) صحيح البخاري ج:5 ص:2283 كتاب الأدب: باب علامة حب في الله عزوجل لقوله: ((إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))، واللفظ له. صحيح مسلم ج:4 ص:2034 كتاب البر والصلة والآداب: باب المرء مع من أحب. صحيح ابن حبان ج:2 ص:316 باب الصحبة والمجالسة : ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن خطاب هذا الخبر قصد به التخصيص دون العموم. وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(9) المعجم الأوسط ج:8 ص:85، واللفظ له. الكامل في ضعفاء الرجال ج:3 ص:59 في ترجمة الخليل بن مرة.

(10) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 411 ، باب 5 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ، حديث 9.

(11) راجع صحيح البخاري ج:3 ص:1349 كتاب فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي(رضي الله عنه)، وج:5 ص:2283 كتاب الأدب: باب ما جاء في قول الرجل ويلك، وصحيح مسلم ج:4 ص:2032،2033 كتاب البر والصلة والآداب: باب المرء مع من أحب، وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(12) سورة آل عمران الآية:183.

(13) وسائل الشيعة ج:11 ص:412 باب:5 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما حديث:13، 14، وص:509 باب:39 من الأبواب المذكورة حديث:5، 6.

(14) سورة الحج الآية:11.

(15) سورة البقرة الآية:166 ـ 167.

(16) سورة القيامة الآية:14.

(17) سورة هود الآية:88.