السيّد عبّاس المدرسّي

كلمة الزهراء (ع)

خطبة الزهراء في أحدث قصيدة شعرية



مؤسسة عاشوراء
Ashura Foundation



( 3 )




( 4 )


( 5 )

الاهداء

أنـا لـلزّهراء أهـدي قــلمي هي وحي ـ وشعوري ـ ودمي
أنــا لااعــرف الاّ حــبها وألـى دِفءِ وَلاَهَــا أَحـتَمِي
هـي من روح النبيّ المصطفى وإليهــا أنـا روحـي تـنتمي
وهـي الجـوهرة الفـرد الّتي خصّهــا الله بكـلّ القـــيم
إن تسـد مـريم فـي أمّـتها فـلقد ســادت جـميع الأمـم
نسـبي منهـا ومنهـا حسـبي وكفـاني العـزً أنّـي فـاطمي


( 6 )


( 7 )

الفصل الأوّل

بين يدي الخطاب العظيم


( 8 )


( 9 )

بين يدي الخطاب العظيم !

بقدها النحيل ، وصوتها المضمخ بالألم ، وبعقلها النير الكبير ، وقلبها الشجاع البصير .. وقفت فاطمة الزهراء تلقي طابها العظيم في مسجد ابيها رسول الله (ص) بالمدينة لتجلو درب الرسول الذي رش النور على درب الانسان ، وضوّى برسالته ابعاد الزمان والمكان ، ولكي ترفع عن كاهل الاسلام ظلم الظالمين وعدوان المغتصبين ، ولتهزّ الأرض من تحت اقدام المستبدّين الحاكمين وحتى قيام الساعة .
ان خطاب الزهراء فاطمة (ع) في مسجد ابيها محمد (ص) احتجاجاً على غصب « فدك » لم يكن مجرد صرخة في وجه الظلم بل كان بالدرجة الأولى « تعرية » لمنهج خاطىء و « انذارا » لمستقبل خطير


( 10 )

تترقبة الجزيرة العربية جزاء زحزحة الوصي عن زعامة الامّة بعد الرسول الاعظم .
لقد جاء الخطاب في المسجد النبوي ، وبجوار قبر المصطفى محمد (ص) ليسجل اعتراض المسجد النبوي الذي كان دائماً محور الهدى الديني ـ على « سقيفة بني ساعدة » الذي جرى تحت سقفه أول مؤامرة على خط المسجد . وخط باني المساجد رسول الله محمد « ص » .
لم تكن فاطمة من النوع يقيم لحطام الدنيا وزناً ـ وهي التي اهدت حتّى ثياب عرسها لسائلة مسكينة ليلة الزفاف ـ وهي التي شهد القرآن لها ولألها في سورة ( هل أتى ) بالايثار في سبيل الله ولو كان بهم خصاصة ، وهي التي شهدت لها آية التطهير ( انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً ) بالصدق والعفّة ولكن اغتصاب « فدك » كان حجة على الذين غصبوا الخلافة وسنداً واضحاً يدين فعل « المغتصبين » .
لقد اثبتت الزهراء (ع) للتاريخ كلّه أنّ خلافة تقوم في أول خطوة لها بالاعتداء على « املاك رسول الله » ليست امتداداً للنبي بقدر ما هي انقلاب عليه ، كما هو شأن كلّ « الانقلابات » الّتي تتمّ في الدنيا حيث يصادر الرئيس الجديد ممتلكات الرئيس السابق الذي انقلب عليه ، بحجةٍ أو بأخرى ، حتّى لا يستطيع اعوانه واقربائه من الدفاع عن انفسهم والعودة الى مراكز الحكم والسلطة إن أي شخص يتجرّد من العصبية المذهبية ويفهم اوّليات السياسة يدرك مغزى مصادرة « فدك »


( 11 )

واخراج عمّال فاطمة منها وبالقوة او كما يعبر صاحب الصواعق المحرقة « انتزاع فدك من فاطمة ».. كما يدرك مغزى اصرار فاطمة الزهراء (ع) على المطالبة بحقّها حتّى الموت ... فلم تكن فدك هي المطلوبة بل « الخلافة الاسلامية » ـ ولم يكن اصرار الخليفة على موقفه ، الاّ لكي يقطع المدد عن المطالبين بالخلافة .
من هنا قامت فاطمة (ع) تطالب حقّها المغتصب باعتبارة « نحلة » من رسول الله اليها فطالبها الخليفة بالشهود.. وشهد على ذلك « عليّ » و «أمّ ايمن » و « الحسنان » فردت شهادة امّ ايمن بحجّة انّها امرأة ـ علماً بأن الرسول قد شهد لها بأنّها من اهل الجنة ، ـ وردت شهادة عليّ ـ بحجّة أنّه يجر النار إلى قرصه !! وردّت شهادة سيّدا شباب اهل الجنة الحسن والحسين بحجّة انّهما صغيران !! علماً ـ بأن صاحب اليد على الملك ، لا يطالب بالشهود في أيّ مذهب من مذاهب الاسلام ولا في ايّ قانون من قوانين الارض أو السماء فلا يحقّ لأي كان ان ينتزع يد احد على ملك ، ثم يطالبه باثبات ملكيته له .
ولما رفضت شهود فاطمة بالنحله.. قالت اذن : فهي « ملكي » بالإرث ، فرتّبوا على الفور حديثاً على لسان النبي الاكرم يقول : ( نحن معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا ديناراً .. ) ناسين أنّه مخالف لصريح القرآن الكريم في آيات كثيرة ومتفرقة ( مذكورة في خطاب الزهراء ) .
ولم يكن أمام فاطمة الزهراء (ع) إلا لتلقي حجّتها في المسجد وعلى رؤوس الاشهاد.. فجاء خطابها قاصعاً قامعاً دامغاً لا يدع مجالاً للريب عند أحد..


( 12 )

المناورة
ولم يجد « الخصم » المهزوم بمنطق الزهراء المؤزّر بآيات الذكر الحكيم ، الاّ ان يناور باسم الجماهير ، ويعتذر عمّا فعل بانّه استجابة لطلب الناس ! ولا ادري متى كان طلب « الاغتصاب » مبررا « للاغتصاب » أياً كان الطالب ، وأياً كان المغتصب ، فكيف والغصب لأملاك النبي الأعظم التي انتقلت الى فاطمة نحلة أو ارثاً .. ( وذلك بنصّ الكتاب العزيز الذي يعطي الانفال ـ وهي كلّ أرض لم يحررها الجيش الإسلامي للنبي الأكرم (ص) ، وفدك أرض صالح عليها أهلها رسول الله وسلمت صلحاً لا حرباً ـ ) .
وفي الأخير .. وبعد أخذ ورد صرّح الخليفة أمام الجماهير بعدم شرعيّة انتزاع فدك من الزهراء .. ولم يجد بدّاً من الاعتراف ، ولكنّه حاول الالتفاف على حجّتها برمي الكرة في مرمى الجماهير الحاضرة في المسجد .. فصار حقّ الزهراء المسلّم رهناً برضى قوم يعرفون تماماً وجه الحقّ ومقصد الخليفة من هذه المناورة ، ولكن سيف الارهاب الذي شهر في السقيفة ما كان يدع لأحد مجالاً للاعتراض ..
ولم يكن يخفى على احد حقّ فاطمة في فدك .. وما بعد « فدك » غير أن بطش كان أقوى .. وما فعل بالصحابي الجليل « مالك بن


( 13 )

نويرة » أخمد أصوات الجميع !
فدك .. عبر التاريخ
غير أنّ « فدك » لم تذهب الى « خزينة الدولة » الا لفترة قصيرة .. ثمّ سلّمها عمر لابناء فاطمة ، ثمّ انتزعها عثمان ليعطيها لصهره مروان بن الحكم ، ثمّ عادت لعليّ في خلافته ـ وكانت له معها موقف حكيم ! وجاء معاوية فانتزعها من اصحابها ولم يردّها الى خزينة الدولة بل قسّمها بين أقرباءه ثلاث أقسام : فئلث لمروان وثلث لعمر بن عثمان ، وثلث لولده يزيد ( قاتل الحسين بن علي «ع» ) وهكذا بقيت في كف الامويين حتّى خلقت لمروان وحده .. ثمّ ورثها عمر بن عبد العزيز فردّها على أولاد فاطمة ثمّ اضطر تحت ضغط أعوانه الى توزيع غلّتها عليهم فقط واستبقاء الاصل في يده ، ثمّ انتزعها يزيد بن عيد الملك لنفسه ، وبقيت في يد المروانيين حتى زالت دولتهم وعلى زمن العباسيين .. ردّها ابو العباس السفّاح الى ابناء فاطمة ( عبدالله بن الحسن بن الحسن ) ثمّ انتزعها ابو جعفر المنصور ثمّ ردّها ولده المهدي بن المنصور الى ابناء فاطمة ، ثمّ انتزعها ولده موسى بن المهدي..
وبقيت في يد العباسيين حتّى عام 210 فردّها المأمون على ابناء فاطمة ، وكتب بذلك كتاباً ضمنّة ادلّة امتلاك فاطمة لفدك (1) .. ثم انتزعها
____________
1 ـ كتب المأمون العباسي الرسالة التالية الى واليه على المدينة قثم بن جعفر : ( أما بعد ، فانّ
( 14 )

المتوكل ووهبها لابن عمر البازيار ، وكان فيها احدى عشرة نخلة غرسها النبي (ص) بيده الكريمة فوجّه البازيار رجلا يقال له « بشران فصرم تلك النخيل ، ثمّ عاد ففلج !! ولا يذكر التاريخ شيئاً عن فدك بعد ما صارت في يد البازيار المعادي للنبي وآله عليهم السلام .
وهكذا كلما كان الحكم يميل « للانصاف » لاهل البيت كان يعيد فدكاً الى ابناء فاطمة وكلّما جنح للظلم ، اغتصبها من جديد ، ولكّن حقّ
____________
أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والقرابة به أولى من استن بسنته وسلّم لمن منحه منحة وتصدّق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته واليه في العمل بما يقرّه اليه رغبته ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى فاطمة بنت رسول الله وتصدق بها عليها وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم تدعى منه ما هو اولى به من صدق عليه فرأى امير المؤمنين ان يردها الى ورثتها ويسلمها اليهم تقرباً الى الله تعالى ، باقامة حقه وعدله والى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتنفيذ أمره وصدقته فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتاب إلى عماله فلئن كان ينادي في كلّ موسم بعد أن قبض نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ان يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وتنفّذ عدته إنّ فاطمة ( رضى الله عنها ) لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لها وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين بأمره بردّ فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلاّت وغير ذلك وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمد بن عبدالله ابن الحسن بن على بن الحسين بن علي بن ابي طالب لتولية أمير المؤمنين ايّاها القيام بها لأهلها . فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرّب اليه وإلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعلمه من قبلك وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبدالله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاّتها إن شاء الله والسلام . ( راجع ص 28 كتاب فدك ) .
( 15 )

فاطمة في فدك صار اظهر من الشمس في رابعة النهار واصبح حديث ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) مثل ( قميص عثمان ) في التاريخ ، يستمر من وراءه طلاب الحكم ليقصوا عن الخلافة اهلها الحقيقيين ، وكفى ب ( فدك ) شهادة على صدق وطهارة وحقّ منهج وقف على رأسه أهل البيت ـ عليّ وفاطمة والحسن والحسين .. الحماة الحقيقيون للرسالة .
ومن المفارقات الطريفة ، أن الذين استلبوا الخلافة في سقيفة بني ساعدة من ( أهل البيت ) كانوا يشعرون بالضعف لانّه كان ينقصهم قوة الحقّ في خلافتهم ، فراحوا يرمّمون ذلك النقص بقوة المال المغتصب ، والسيف المشتهر .. أمّا عليّ أمير المؤمنين (ع) والذي كان ازهد النّاس في الدنيا ، وأحرصهم على الرسالة فما كان ليشعر بشيء من الضعف في خلافته حتّى يغطّيه بالمال فلا نقص « الاجماع الجماهيري » وقد تدافعت نحوه كالسيل وكانّها تعتذر عن تقصيرها القديم .. ولا نقص « النصّ الجلي » وقد صرّح الرسول الاكرم في غدير خمّ وغير غدير خمّ بخلافته له من بعده ولا نقص « القرابة » الى الرسول وهو بن عمه وزوج سيدة نساء أهل الجنة « فاطمة » ولا « الجهاد » والا سبقيّة الى الاسلام وقد كان الاوّل في كلّ تلك المناقب لذلك فانّه ما أن امتلك السلطة حتّى رفض أن يستفيد من « فدك » شخصياً وكان ينفق جميع عائداتها على الفقراء ليدلّل على ان مطالبة أهل البيت « بفدك » لم يكن لاجل الدنيا ، وان الذين اغتصبوها منهم ما فعلو ذلك .. للآخرة !


( 16 )

المطالبة بفدك .. والمطالبة والخلافة
وممّا يكشف عن « مرمى » خطاب الزهراء في مسجد الرسول خطابها الاخر في فراش الموت عندما جاء لزيارتها نساء المهاجرين والانصار حيث لم تتطرق الى « فدك » من قريب أو بعيد بل كانت « الخلافة » هي المحور .. أولاً وأخيراً .. ( ويلهم أنّى زحزحوها عن مراسي الرسالة ، ومهبط الوحي الأمين ، والطيبين ( العالمين ) بأمر الدنيا والدّين وما الذي نقموا ما ابي الحسن ؟ نقموا منه ـ والله ـ نكير سيفه ، وشدة وقعته ، وتنمره في ذات الله ) .
ولقد أشار الامام الكاظم موسى بن جعفر (ع) (حفيد فاطمة ) الى « قضية فدك » اذ حدّد تلك الجنينة المغروسة في خصر الصحراء عندما طلب منه الخليفة هارون العباسي تحديد فدك ليردّها عليه فقال : ( الحدّ الاول : عدن ، والحدّ الثاني : سمرقند ، والحدّ الثالث : افريقية ، والرابع : سيف البحر ممّا يلي الجزر ، وارمينية ) .
والسؤال : هل استطاعت الزهراء بخطابها ان تسترجع فدك ؟
الجواب : لم تسترجع الزهراء فدكاً ولكنها استرجعت صوت الحقّ الذي كاد يضيع في تهريج السقيفة .


( 17 )

« وهكذا هزم الخصم »
لقد سجّلت الزهراء على خصومها « غصب الارض » ولم يستطع الحديث المكذوب على النبي أن يثبت الشرعيّة لاغتصاب « فدك » ورواية ( نحن معاشر الانبياء لا نورث .. ) فرية مفضوحة بلا ريب ـ فهي أوّلاً مخالفة لنصوص القرآن الكريم ـ في الآيات العامّة للارث وفي الآيات الخاصّة بخصوص ارث الأنبياء ـ كما تشير اليه الزهراء في خطابها .
وثانياً : لأنّ الخصم تراجع في نهاية المطاف عن التمسّك بهذا الحديث ليتشبث بموقف « الحاضرين في المسجد » والذين كان اغلبهم من حزبه او ممّن جرى تسليمهم بالقوة أو بالتطميع .
وثالثاً : انّ الخليفة قد ناقض نفسه هذا الحديث عندما استأذن عائشة حصّتها من الارث في بيت النبي وأوصى بأن يدفن عند رسول الله (ص) ( علماً بانّ الزوجة لا ترث من الارض بل من البناء فقط ) ـ كيف ترث عائشة زوجة الرسول ولا ترث فاطمة بنت الرسول ؟
وأيضاً اذا صحّ هذا الحديث فلماذا لم يصادر الخليفة بيوت النبي من ازواجه ؟ ولكن المشكلة أنّ الدلائل على صدق الزهراء لم تكن


( 18 )

تعوز الخليفة الجديد .. بل الدوافع والغايات ، والاّ كانت تكفي شهادة النّبي (ص) عندما قال لعلي : ( عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار ) وقول الله تعالى عن أهل البيت ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
كل ذلك كان كافياً للرضوخ للحقّ ، والحكم لصالح فاطمة الزهراء ، ولكن كلّ تلك الشهادات قد ردّت ، ومعها آيات الذكر الحكيم في الميراث .. وبقي الحديث ـ الفرية صامداً بوجه كلّ الشهود والآيات... لماذا ؟ لأنّ الخليفة لم يكن حكماً ، بل كان طرفاً .
ولذلك فان الزهراء ـ وبعد اليأس من الخليفة وحاشيته نادت : ( فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ) .
ان التناقض في مواقف الخليفة من ارث الرسول ربّما كان هو سبب شعوره بالنّدم العميق ممّا صنعه تجاه ( فدك فاطمة ) خصوصاً في اللحظات الأخيرة من حياته ولكن بعد ان كان كلّ شيء قد انتهى ..
لقد ماتت فاطمة في ريعانة العمر مقهورة متألمة وهي ساخطة على الخليفة اشدّ السخط .. وعلى صاحبه ايضاً .. حتّى أنّها رفضت أن تتكلّم معهما بعد خطاب المسجد ! وكانت تدعوا عليهما في كلّ صلاة ، واوصت بأن لا يشهد أحد منهما جنازتها .. وشدّدت في الوصيّة ، حتّى أنّها أوصت أن تدفن في مكان مجهول .. حتّى لا تتيح لأحد منهما الصلاة على قبرها.. ولكي تسجل اعتراضيها على ( سقيفة بني ساعدة ) وجميع افرازتها والى الأبد ..


( 19 )

تأملات في نصوص الخطبة المعجزة
انّ تحليل خطبة الزهراء بحاجة الى كتاب ضخم ! لانّه ليس مجرّد خطاب سياسي محض .. بل هو خطاب ديني ـ تاريخي ـ قانوني ـ سياسي ـ اجتماعي ـ ثوري .. ذات أبعاد متعدّدة ..
ولكن ذلك لا يمنع من ان نتقرّب الى الخطّ العام للخطبة ، ونتعرّف على غايتها الكبرى ..
تبدأ الخطبة بحمد الله والثناء عليها .. وتعرّج على التذكير بنعمه ثمّ عن توحيد الله وعظمته ، وفلسفة الخلقة ، وبعث الرسل ، وعلّة الثواب والعقاب ثمّ تنتقل الى ابيها العظميم محمّد (ص) ذلك الرسول الذي شرّفه الله وفضّله على جميع المخلوقات قبل ان يخلق الخلق اجمعين ثم تعطي صورة سريعة عن الوضع الجاهلي والظروف التي بعث فيها رسول الله ثمّ عن مقامه العظيم عند الله .. مع إشارة ذات معنى الى خلاصة من أتعاب الدنيا ومشاكلها وأوضارها .. ثمّ تتحدث عن ( القرآن العظيم ) ودور المسلمين ( الحاضرين في المسجد ) في المحافظة على دساتيره وقوانينه وأحكامه .
وفي نقته جميلة تنتقل الى أهم ما جاء في القرآن الكريم من أحكام


( 20 )

وشرائع .. مع بيان مقتضب وعميق لفلسفة الأحكام .. كالصلاة والصيام ، والحج والجهاد والقصاص .... الخ مع توصية الحاضرين بالالتزام بالتقوى وخشية الله والخضوع لاحكامه .
بعد ذلك تنتقل الى صلب الموضوع ـ مع تذكير ذات معنى بشخصيّتها ، وتأكيد على وعيها لما تقول ، وفهمها العميق لدورها ، وخطابها ، وكلامها ، وتأثير هذا الخطاب على مرّ التأريخ . منادية : ( إعلموا أنّي فاطمة .. وأبي محمّد ، أقول عوداً وبدءاً ، لا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً .. ) .
وتنحدر في التعريف بدور أبيها الرسول الأعظم في أنقاذهم من الضلالة والعمىوالجهود الجبارة التي بذلها في هذا السبيل .. حتّى خضع الجميع للسلام ، بعد ضياع طويل في ظلمات الجاهليه الجهلاء .. مع وصف دقيق لحالهم اقتصادياً ومعيشياً وأمنياً حتّىجاء الرسول .. وأنقذهم من الضلال العريض بعد حروب مدمّرة ومؤامرات طاحنة .. كان البطل الأول في اخمادها ، وأبطال فتيلها ، والسيطرة عليها هو الإمام الهمام ( علي بن أبي طالب «ع» ) مع وصف دقيق لشخصيّة زوجها العظيم .. ( مكدود في ذات الله ، مجتهد في أمر الله قريب من رسول الله سيّد في أولياء الله ) .


( 21 )

الانقلاب على خطّ الرسول الأعظم !
وبعد التذكير بدور عليّ وأهل البيت في إقامة الإسلام .. تبيّن دور « الحزب المعارض » حزب السقيفة مراقبة الأحداث ، وضع المؤامرات ، والفرار حين القتال مع التربّص بأهل البيت لاقصاهم عن السلطة .
لقد فضحت الزهراء « حزب السقيفة » بصراحة مع تحيل مسؤولية الانحراف عن خطّ النبّي على عاتق المسلمين الساكتين وتحذّرهم من دور « الشيطان » الذي دعم النوازع الشريرة الّتي دبّرت ذلك الانحراف في غفلة من العقل والفكر والضمير ..
وتتساءل فاطمة الزهراء متعجبة من ما حصل من تغيير سريع بعد وفاة النبّي الأكرم كيف حصل كلّ ذلك والرسول لا يزال مسجى لم يقبر ، والجرح عميق لم يندمل ، ثمّ تفنّد « الاعذار » التي تشبّت بها أنصار السقيفة .. خوف الفتنة ! ( ابتداراً ، زعمتم ـ خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا وأنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ) .
لقد مزّقت الزهراء الاعذار الواهية ، والاقنعة الكاذبة ، فاضحة كوامن النفوس المريضة ، وانّ ( السقيفة ) لم تكن مجرّد فكرة طارئة فرصة غياب


( 22 )

القائد الأعظم ، كما استغلّ السامري فرصة غياب موسى عن قومه .
وبعد أن أدانت الزهراء انقلاب السقيفة .. انعطفت نحو قضية « فدك » كمستمسك على خطأ الاسباب التي أدّت الى خطيئة النتائج ( افحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون ! أفلا تعلمون ؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية ! ) .
فدك .. اغتصب من الزهراء عنوة وجهاراً .. وهي ان لم تكن نحلة من النّبيّ لها ، فهو إرث لا ريب فيه ! فاذا كان في وسع الخليفة ان يرفض شهود النحلة ـ فهل بوسعه أن يرفض آيات الارث ؟!
أيها المسلمون ءأغلب على ارثيه ؟
ثمّ تخاطب الخليفة : يابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ ثمّ تذكرهم بآيات الذكر الحكيم الصريحة في ارث الآباء للأبناء بشكل عام ، وارث الأنبياء أولادهم بشكل خاص .. وعندما لا تجد من الخليفة استجابة لكلامها تهدّده بعذاب الله ومحكمة القيامة ( فذونكما مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله الزعيم محمّد والموعد القيامة ، وعندئذ يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم اذ تندمون ) .
الدعوة الى النهضة
ولكن الخطبة لا تنتهي عند هذا الحد ، انّ للزهراء رسالة الثورة على خطّ الانحراف ، رسالة تحميل المسؤليّة ، للخاصرين والتذكير بدورهم


( 23 )

في تصحيح المسيرة : ( ليحي من حيّ عن بيّنة ، ويهلك من هلك عن بيّنة ) .
« يامعشر السقيفة ، وأعضاد الملّة ، وحضنة الاسلام ما هذه الغميزة في حقّي والسنة عن ظلامتي أما كان رسول الله الى أبي يقول : المرء يحفظ في ولده ؟ سرعان ما أخلفتم وعجلان ذا أهالة ( مثل على سرعة التحوّل ) ولكم طاقة بما احاول ، وقوة على ما أطلب » .
وتزداد وتيرة الكلمات حدّة في التصريح بضرورة النّهضة ، والوقوف الى جانب الحقّ .. تثير الضمائر وتتنهّض الهمم ، وتذكرهم بالقرآن مرّة ، وبالنّبيّ وتراثه العظيم ، وما يهدّد خطّه من انحراف نحو الجاهلية مرة أخرى .. ( إيهاً بني قيلة أأهضم تراث أبي ؟ وأنتم بمرآى منّي ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والادارة والقوّة ، وعندكم السلام والجنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تعينون ؟ وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح .. ) وتستمرّ الزهراء في خطبتها القاصعة مندّدة ومحذّرة ، متحدّية جبروت الحكم الذي تحميه سيوف أبناء السقيفة .. الى أن تبلغ ذروة التحريض حيث تكشف عن أن وراء « الانقلاب في السقيفة » حزب المنافقين الذين همّوا باخراج الرسول وانّ الهدف ليس شخص عليّ بل هو خطّ الرسول الذي يمثّله علي بن أبي طالب فتقول : ( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول ، وهم بدؤكم أوّل مرّة ، اتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) .


( 24 )

الانذار من المستقبل الخطير
وعندما وجدت الزهراء أن لا أمل في النهضة من نفوس طوعتها الاطماع واستراحت الى دعة العيش والوعود الخلاّبة بالغنائم القادمة راحت تكشف ذلك لهم بصراحة ، ( الا : قد أرى ان قد أخلدتم الى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وخلدتم الى الدّعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم ما تسوغتم ) .
لقد ألانت النفوس المتحمّسة بريق المال وخفض العيش وحبّ الراحة .. وفاطمة الزهراء تعلم ذلك كلّه ، ولكنّها ( بثّة الصدر وتقدمة الحجّة ) فهل ستنتهي الأمور بمثل هذه السهولة ، اينعم الأنصار بالدّعاة والراحة اذا اغلقوا عيونهم وأصمّوا آذانهم عن ظلامة الزهراء ودعوتها الحقّة أم انّ الفتن من ورائهم ستأتي سوداء مظلمة تدع فيئهم زهيداً ، وجمعهم حصيداً ( فدونكموها ، فاحتقبوها ـ احلبوا ناقة الخلافة ـ دبرة الظهر ، نقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بغصب الله ، وشنار الأبددد ، موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ! ( فاعملوا انّا عاملون ، وانتظروا انّا منتظرون ) .


( 25 )

وفي جلسة اخرى نساء المهاجرين والانصار كانت أكثر توضيحاً لما ينتظر أبناء الصمت والسكون من ويلات .. على مرمى أبصارهم تقف الفتنة العمياء الطاحنة .. حين قالت لهم : ( أما لعمري لقد نضجت ، فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً ، وذعافاُ مبيداً ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسّسه لأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً ، واطمأنّوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم ، وهرج شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فياحسرة لكم ، وأنّى بكم ؟ وقد عميت عليكم ، انلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟! ) .
وصدق التاريخ مقالة الزهراء ..فكم من دم ساخن جرى على أرض المدينة وعلى طول تاريخ الاسلام وأمّا الانصار فلم يروا العزّ الا على عهد الرسول .. ثمّ نام حظهم ، وأبعدوا عن جميع مراكز الحكم والى الأبد .. وذلك جزاء الخانعين .
الحديث الفرية ، ومحاولات التغطية
جواب الخليفة لخطاب الزهراء جاء باهتاً وضعيفاً .. ومتهاوباً و.. فبعد أن حاول التخفيف من حدّتها وصرامتها وقوّة الحجّة لديها عبر الإشارة بمقام الزهراء ، ومقام أبيها العظيم محمّد (ص) ، وزوجها الكبير عليّ (ع) حاول أن يفلسف ( عدوان الحكم ) على « فدك » بانّ «الشرع » الذي جاء به الرسول هو الذي دعاء الى ذلك ! وذلك أنّه سمع من


( 26 )

النبيّ (ص) حديثاً يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لانورث ذهباً ولا ديناراً ولا ارضاً ولا عقاراً ...) .
عجباً.. كيف يمكن ان يخالف الرسول نصّ القرآن ؟ وما هي الحكمة في أن يكون أبناء المهاجرين والأنصار في غنى وعزّ وأبناء الرسول الأعظم وحدهم يعيشون في الفقر والذلّ ؟ لماذا لا يصادر أموال الأغنياء من المسلمين ، ويصادر فقط أموال النبيّ (ص) .
ثمّ كيف سمع الخليفة هذا الحديث الخطير من الرسول ، ولكن الزهراء فاطمة بنته لم تعلم بذلك ، وعليّ بن أبي طالب ـ أعلم الصحابة جميعاً ـ، لم يسمع بهذا الحديث !
ولكن الزهراء فاطمة انبرت بسرعة لتكذّب الحديث بقوّة : (سبحان الله ! ما كان رسول الله عن كتاب الله صادفاً ( معرضاً ) ولا لاحكامه مخالفاً ، بل كان يتبع اثره ، ويقفو سورة ، افتجمعون الى الغدر ، اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ! ( هذا كتاب الله حكماً عدلاً ، وناطقاً فصلاً يقول ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) ( وورث سليمان داود ) فبيّن « عزّ وجلّ » فيما وزع عليه من الاقساط ، وشرع من الفرائض والميراث وأباح من حظّ الذكران والاناث ما أزاح علّة المبطلين ، وازال التظنّي والشبهات في الغابرين كلاً .. بل سوّلت لكم انفسكم أمراً فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ) .
وأخيراً اضطرّ الخليفة ان يعترف بصدق فاطمة قائلاً ( صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته ) ولكنّه حاول الالتفاف على اعترافه


( 27 )

بقوله : ( هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما تقلّدت وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ) .
وبهذه المناورة حاول الخليفة ـ أن يجعل الزهراء في مواجهة الجماهير الموعودة بخيرات فدك ، أو على الاصحّ في مواجهة الحزب الذي كان يمنّي نفسه بخيرات النظام الجديد .. ولكن الزهراء كانت قد القت تحت كرسي الخليفة قنبلة شديدة الانفجار ، قنبلة الحقّ الذي لا يزيده مرور الايام الاقوة وهديراً .
فاذا كانت السقيفة قد غيرت مجرى سفينة الاسلام ، فانّ خطبة الزهراء قد بعثت بوجهها عاصفة قويّة ستمنعها من الوصول الى غايتها البعيدة .
اذا كانت السقيفة ستلد يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم فانّ خطبة الزهراء ولدت ثورات لا تنتهي بوجه الانحراف ولصرخة الحق دويّ أقوى من صوت الرعد القاصف ، وان انطلق من حنجرة مظلوم ضعيف . فكيف اذا كان ينطلق من فم سيدة نساء العالمين ، وبنت أعظم نبيّ وأكرم مخلوق على وجه الأرض ؟
ليس قليلاً أن يهضم ( أهل البيت ) بهذه الصورة .. فمع أمتداد ازمن سينكشف للناس مدى طهرهم ونزاهتهم وحرصهم على الاسلام .. ومقامهم العلمي والديني من مركز الرسالة محمّد (ص) ومع بروز دورهم ، وانبلاج عظمتهم ، ينكشف الستر عن حرص اعدائهم على الدنيا وحطامها وصغر نفوسهم ، وقلّة مداركهم ، وضحالة مفاهيمهم ووعيهم بحركة التاريخ وسنن الله في الارض ..!


( 28 )

وكلّما انفرج الزمان .. انفرج الخطان أحدهما باتجاه الصدق والصراحة وتمثيل الرسالة والمباديء والمثل والآخر باتجاه الحكم والسلطة والدسائس والمؤامرات والغرق في الملذّات والشهوات الدنيويّة !
انّ الزهراء فاطمة كانت تعرف منذ البدء أنّها لن تسترجع « فدك » ، لانّ الذي يغتصب الخلافة ليس كثيراً عليه أن يختلس قطعة أرض ، وانّ الذين خلقوا من أجل الرسالة ، وضحّوا بكلّ ما لديهم في سبيلها ليس كثيراً عليهم أن يصبروا على حرمانهم من قطعة أرض .
ولكن فدك.. كانت الخلافة ، والخلافة كانت الرسالة ، والرسالة كانت هاجس عليّ وفاطمة .. عاشوا من أجلها ، واستشهدوا من أجل بقاءها .
وكانت الطالبة بفدك ـ مطالبة بالخلافة ، والمطالبة بالخلافة مطالبة بالالتزام بالحقّ والعدل ونهج الرسول وسنّته الطاهرة .