الفصل الخامس


مناظرات واحتجاجات

ورد عن الاَئمة عليهم السلام وأعلام الطائفة عدّة مناظرات للدفاع عن عقيدة الرجعة ، أجابوا فيها عن شبهات المخالفين للقول بها ، أو مصححين بعض الآراء التي تعترض لاَصحابهم ، أو شارحين لهم بعض المفاهيم المتعلقة بها .
والدفاع عن هذه العقيدة لم يكن وليد الاَمس ، بل إنّه راسخ منذ عصر أمير المؤمنين علي عليه السلام وباقي الاَئمة عليهم السلام وأصحابهم ، فقد روي عن نجم ابن أعين أنّه كان مجاهداً في الرجعة (1)، وروى العلاّمة قدس سره في الخلاصة في ترجمة ميسّر بن عبدالعزيز عن العقيقي، قال: أثنى عليه آل محمد عليهم السلام ، وهو ممن يجاهد (2) في الرجعة (3).
قال المجلسي قدس سره : قيل : المعنى أنّه يرجع بعد موته مع القائم عليه السلام ويجاهد معه ، والاَظهر عندي أنَّ المعنى أنّه كان يجادل مع المخالفين ،
____________
(1) رجال ابن داود : 195 .
(2) هكذا في نسخة البحار ، وفي الخلاصة : يجاهر .
(3) الخلاصة ، للعلاّمة الحلي : 279 .

( 80 )
ويحتجّ عليهم في حقيّة الرجعة (1).

1 ـ احتجاج أمير المؤمنين علي عليه السلام :
روى الحسن بن سليمان الحلي بالاسناد عن الاَصبغ بن نباتة ، قال : إنّ عبدالله بن الكواء اليشكري قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّ أبا المعتمر تكلّم آنفاً بكلام لا يحتمله قلبي .
فقال عليه السلام : « وما ذاك ؟
قال : يزعم أنك حدّثته أنّك سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّا قد رأينا أو سمعنا برجل أكبر سناً من أبيه ؟
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : فهذا الذي كبر عليك ؟
قال : نعم ، فهل تؤمن أنت بهذا وتعرفه ؟
فقال عليه السلام : نعم ، ويلك يا ابن الكواء ، إفقه عني أُخبرك عن ذلك ، إنّ عزيراً خرج من أهله وامرأته في شهرها ، وله يومئذٍ خمسون سنة ، فلمّا ابتلاه الله عزَّ وجلَّ بذنبه أماته مائة عام ثم بعثه ، فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة ، فاستقبله ابنه وهو ابن مائة سنة ، وردَّ الله عزيراً في السنَّ الذي كان به .
فقال : أسألك ما نريد ؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : سل عمّا بدا لك .
فقال : نعم ، إنَّ أُناساً من أصحابك يزعمون أنّهم يردّون بعد الموت .

____________
(1) بحار الاَنوار 53 : 124 .

( 81 )
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : نعم ، تكلم بما سمعت ولا تزد في الكلام ، فما قلت لهم ؟
قال : قلت : لا أُؤمن بشيء ممّا قلتم .
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ويلك إنَّ الله عزَّ وجلَّ ابتلى قوماً بما كان من ذنوبهم ، فأماتهم قبل آجالهم التي سمّيت لهم ثم ردَّهم إلى الدنيا ليستوفوا أرزاقهم ، ثمّ أماتهم بعد ذلك .
قال : فكبر على ابن الكواء ولم يهتد له ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ويلك تعلم أنّ الله عزَّ وجلَّ قال في كتابه : ( واختارَ موسى قومَهُ سَبعِينَ رجُلاً لِميقَاتِنَا ) (1) فانطلق بهم معه ليشهدوا له إذا رجعوا عند الملاَ من بني إسرائيل إنَّ ربي قد كلمني ، فلو أنهم سلّموا ذلك له ، وصدّقوا به ، لكان خيراً لهم ، ولكنهم قالوا لموسى عليه السلام : ( لن نُؤمِنَ لكَ حتى نرى الله جهرةً ) قال الله عزَّ وجلَّ ( فاخذتكُم الصَّاعِقَةُ ) يعني الموت ( وأنتم تنظُرون * ثُمَّ بعثناكُم من بعدِ موتكم لعَلكم تشكُرونَ ) (2).
أفترى يا ابن الكواء أنَّ هؤلاء قد رجعوا إلى منازلهم بعدما ماتوا ؟
فقال ابن الكواء : وما ذاك ، ثمَّ أماتهم مكانهم ؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ويلك ، أوليس قد أخبرك الله في كتابه حيث يقول : ( وظَللنَا عليكُمُ الغَمامَ وأنزَلنا عليكُمُ المنَّ والسَّلوى ) (3) فهذا بعد
____________
(1) سورة الاعراف 7 : 155 .
(2) سورة البقرة 2 : 55 ـ 56 .
(3) سورة البقرة 2 : 57 .

( 82 )
الموت إذ بعثهم ، وأيضاً مثلهم يابن الكواء الملاَ من بني إسرائيل حيثُ يقول الله عزَّ وجل : ( ألم ترَ إلى الَّذينَ خرجُوا مِن دِيارِهِم وهُم ألوفٌ حذَرَ الموتِ فقالَ لهُم اللهُ موتُوا ثُمَّ أحياهُم ) (1).
وقوله أيضاً في عزير حيثُ أخبر الله عزَّ وجلَّ فقال : ( أو كالَّذي مَرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قالَ أنى يُحيي هذهِ اللهُ بعدَ موتِها فأماتَهُ اللهُ ) وأخذه بذلك الذنب ( مائةَ عامٍ ثُمَّ بَعثَهُ ) وردّه إلى الدنيا ( قالَ كم لَبثتَ قالَ لبثتُ يوماً أو بعضَ يومٍ قالَ بل لبثتَ مائةَ عامٍ ) (2) فلا تشكنَّ يا ابن الكواء في قدرة الله عزَّ وجل » (3).

2 ـ احتجاج الشيخ أبي محمد الفضل بن شاذان : (4)
ذكر الشيخ ابن شاذان قدس سره في احتجاجه على هذه المسألة روايات عديدة في إحياء الموتى مروية بطرق العامّة ، وقد ذكرنا بعضاً منها مراعاة للاختصار :

قال في ذكر الرجعة من كتاب (الايضاح) :
ورأيناكم عبتم عليهم ـ أي على الاِمامية ـ شيئاً تروونه من وجوه كثيرة
____________
(1) سورة البقرة 2 : 243 .
(2) سورة البقرة 2 : 259 .
(3) مختصر بصائر الدرجات ، للحسن بن سليمان : 22 . وبحار الاَنوار 53 : 72 | 72 . والايقاظ من الهجعة : 185 | 42 . والرجعة ، للاسترآبادي : 49 | 23 .
(4) وهو أبو محمد الفضل بن شاذان الاَزدي النيسابوري ، روى عن أبي جعفر الثاني والهادي والعسكري عليهم السلام ، وقيل : روى عن الاِمام الرضا عليه السلام ، وكان ثقة جليلاً ، وفقيهاً ومتكلماً ، ذُكر أنّه صنّف 180 كتاباً ، وترحّم عليه الاِمام أبو محمد العسكري عليه السلام مرتين وقيل : ثلاثاً ، وتوفي سنة 260 هـ . رجال النجاشي : 306 | 840 . والخلاصة : 132 | 2 .

( 83 )
عن علمائكم وتؤمنون به وتصدّقونه ، ونحن مفسّرون ذلك لكم من أحاديثكم بما لا يمكنكم دفعه ولا جحوده .
من ذلك ما رويتم عن إبراهيم بن موسى الفرّاء ، عن ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : جاء يزيد بن النّعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبدالرّحمن بكتاب أبيه النعمان بن بشير إلى أُم عبدالله بنت أبي هاشم ـ يعني إلى أُمه ـ بسم الله الرحمن الرحيم ، من النعمان بن بشير إلى أُم عبدالله بنت أبي هاشم ، سلامٌ عليكم ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لاإله إلاّ هو .
أما بعد ، فإنّي كتبت إليك بشأن زيد بن خارجة ، وأنّه كان من أمره أنّه أخذه وجعٌ في كتفه ، وهو يومئذٍ من أصحّ أهل المدينة حالاً في نفسه فمات ، فأتاني آتٍ وأنا أُسبّح بعد الغروب فقال لي : إنَّ زيداً تكلّم بعد وفاته .
ورويتم عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبدالملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، قال : كنّا أربع إخوة ، وكان الرّبيع أخونا أصومنا في اليوم الحار ، وأطولنا صلاة ، فخرجت فقيل لي : إنّه قد مات ، فاسترجعت، ثمَّ رجعت حتى دخلت عليه فإذا هو مسجّى عليه ، وإذا أهله عنده ، وهم يذكرون الحنوط ، فجلست فما أدري أجلوسي كان أسرع أم كشف الثوب عن وجهه ، ثمّ قال : السلام عليك ، فأخذني ما تقدّم وما تأخّر من الذّعر ، ثمَّ قلت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، أبعد الموت ؟! قال : نعم ، إنّي لقيت ربي بعدكم فتلقاني بروحٍ وريحانٍ وربّ غير غضبان ، فكساني ثياب السندس والاِستبرق ، وإنَّ الاَمر أيسر ممّا في أنفسكم ولا تغترّوا ، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقسم عليّ أن لا يسبقني حتى أُدركه ، فاحملوني إلى
( 84 )
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فما شبّهت موته إلاّ بحصاةٍ رمى بها في ماءٍ ، ثم ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت : ما سمعت بمثل حديث صاحبكم في هذه الاُمّة ، ولقد صدقكم .
وروى عدّة روايات عن إحياء الموتى بطرق العامّة ، إلى أن قال :
فهذه رواياتكم وروايات فقهائكم في الرجعة بعد الموت ، وأنتم تنحلون الشيعة ذلك جرأةً على الله وقلّة رعةٍ وقلّة حياءٍ لا تبالون ما قلتم.
وروى علي ابن أُخت يعلى الطنافسي ومحمّد بن الحسين بن المختار كلاهما عن محمد بن الفضيل ، عن إسماعيل ابن أبي خالد ، عن فراس ، عن الشعبي ، قال : أُغمي على رجل من جهينة في بدء الاِسلام ، كان اسمه المفضّل ، فبينا نحن كذلك عنده وقد حفر له ، إذ مرَّ بهم رجلٌ يقال له المفضّل ، فأفاق الرجل ، فكشف عن وجهه ، وقال : هل مرَّ بكم المفضّل ؟ قالوا : نعم ، مرَّ بنا الساعة ، فقال : ويحكم كاد أن يغلط بي ، أتاني حين رأيتموني أُغمي عليَّ آت ، فقال : لاُمّك الهبل ، أما ترى حفرتك تُنثل ، وقد كادت أُمّك أن تثكل ، أرأيت أن حوّلناها عنك بمحوّل، وجعلنا في حفرتك المفضّل ، الذي مشى فاجتذل ، إنّه لم يؤدّ ولم يفعل ، ثمَّ ملاَنا عليه الجندل ، أتشكر لربك وتصلّ ، وتدع سبيل من أشرك وأضلَّ ؟
قال : قلت : أجل، قال : فأطلق عني ، فعاش هو ، ودفن المفضل مكانه .
فلم ترضوا بالرجعة حتى نسبتم ملك الموت إلى الغلط جرأةً منكم ، ثم لم ترضوا أن تحيوا الموتى من الناس برواياتكم حتى أحييتم البهائم من الحمر وغير ذلك .

( 85 )
من ذلك ما رواه عدّة من فقهائكم منهم محمد بن عبيد الطنافسي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر الشعبي : أنَّ قوماً أقبلوا من الدّفينة متطوّعين ـ أو قال : مجاهدين ـ فنفق حمار رجل منهم ، فسألوه أن ينطلق معهم ولا يتخلّف ، فأبى فقام فتوضأ ثمَّ صلى ، ثم قال : اللهم إنك تعلم أني قد أقبلت من الدّفينة مجاهداً في سبيلك ابتغاء مرضاتك ، وإني أسألك أن لا تجعل لاَحدٍ عليَّ منّة ، وأن تبعث لي حماري ؛ ثمَّ قام فضربه برجله ، فقام الحمار ينفض أُذنيه ، فأسرجه وألجمه ، ثمَّ ركب حتى لحق أصحابه ، فقالوا له : ما شأنك ؟ قال : شأني أنّ الله بعث لي حماري .
قال محمد بن عبيد : قال إسماعيل بن أبي خالد : قال الشعبي : فأنا رأيت حماره بيع بالكناسة .
فهذا من عجائبكم ورواياتكم ، ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى ، ولكنّا نعجب أنكم إذا بلغكم عن الشيعة قولٌ عظّمتموه وشنّعتموه ، وأنتم تقولون بأكثر منه ، والشيعة لا تروي حديثاً واحداً عن آل محمد عليهم السلام أنّ ميّتاً رجع إلى الدنيا كما تروون أنتم عن علمائكم ، إنّما يروون عن آل محمد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاُمّته : « أنتم أشبه شيء ببني إسرائيل ، والله ليكونن فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه » .
وهذه الرواية أنتم تروونها أيضاً ، وقد علمتم أنّ بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت ، ورجعوا إلى الدنيا ، فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء ، وولد لهم الاَولاد ، ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى ، فإن شاء أن يردّ من مات من هذه الاُمّة كما ردّ بني إسرائيل فعل ، وإن شاء لم يفعل .

( 86 )
فهذا قول الشيعة ، وأنتم تروون أن قوماً قد رجعوا بعد الموت ثمَّ ماتوا بعد ، ثم تنكرون أمراً أنتم تروونه وتقولون به ظلماً وبهتاناً (1).

3 ـ احتجاج السيد الحميري قدس سره : (2)
روى الشيخ المفيد قدس سره عن الحارث بن عبيدالله الربعي ، أنه قال : كنت جالساً في مجلس المنصور ، وهو بالجسر الاَكبر ، وسِوار القاضي عنده والسيد الحميري ينشده :

إنَّ الاِله الذي لا شيء يشبهه * آتاكم الملك للدنيا وللدين

حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور ، فقال سِوار : هذا والله ياأمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه ، والله إنّ القوم الذين يدين بحبّهم لغيركم ، وإنّه لينطوي في عداوتكم ، إلى أن قال : يا أميرالمؤمنين ، إنّه يقول بالرجعة ، ويتناول الشيخين بالسبّ والوقيعة فيهما .
فقال السيّد : أمّا قوله بأنّي أقول بالرجعة ، فإنّ قولي في ذلك على ما قال الله تعالى : ( ويومَ نَحشُرُ مِن كُلِّ أُمّةٍ فَوجاً مِمن يُكذِّبُ بآيَاتِنا فَهُم يُوزعُونَ) (3).

____________
(1) الايضاح ، لابن شاذان : 189 ـ 195 .
(2) هو إسماعيل بن محمد بن يزيد الحميري ، أبو هاشم ، شاعر إمامي متقدم ، أكثر شعره في مدح آل البيت عليهم السلام ، كان ثقة جليل القدر ، عظيم المنزلة ، لقي الاِمام الصادق عليه السلام ، وعدّه أبو عبيدة من أشعر المحدثين ، وجعله أبو الفرج ثالث ثلاثة هم أكثر الناس شعراً في الجاهلية والاِسلام . ولد في نعمان سنة 105 هـ ومات ببغداد سنة 173 هـ .
(3) سورة النمل 27 : 83 .

( 87 )
وقال : قال في موضع آخر : ( وحشرناهُم فَلَم نُغَادِر مِنهُم أحَداً ) (1) فعلمت أنّ هاهنا حشرين : أحدهما عامّ ، والآخر خاصّ .
وقال سبحانه : ( ربَّنا أمَتَّنا اثنَتَينِ وأحييتَنا اثنَتينِ فاعتَرفنا بِذُنُوبِنَا فَهَل إلى خُرُوجٍ مِن سَبيلٍ ) (2)، وقال الله تعالى : ( فأماتَهُ اللهُ مائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) (3) وقال الله تعالى : ( ألم ترَ إلى الَّذينَ خَرجُوا من دِيارِهِم وهُم ألُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أحيَاهُم ) (4)، فهذا كتاب الله عزَّ وجلَّ .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يحشر المتكبّرون في صور الذرّ يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « لم يجرِ في بني إسرائيل شيء إلاّ ويكون في أُمّتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف » . وقال حذيفة : والله ما أبعد أن يمسخ الله كثيراً من هذه الاُمّة قردة وخنازير .
فالرجعة التي أذهب إليها ، هي ما نطق به القرآن ، وجاءت به السُنّة ، وأنّي لاَعتقد أنّ الله تعالى يردّ هذا ـ يعني سِواراً ـ إلى الدنيا كلباً أو قرداً أو خنزيراً أو ذرّة ، فإنّه والله متكبّر متجبّر كافر .
فضحك المنصور وأنشأ السيد يقول :

جاثيت سوّاراً أبا شملة * عنـد الاِمـام الحـاكم العادلِ
فقـال قـولاً خـطـأ كـلـّه * عند الورى الحافي والناعلِ


____________
(1) سورة الكهف 18 : 47 .
(2) سورة غافر 40 : 11 .
(3) سورة البقرة 2 : 259 .
(4) سورة البقرة 2 : 243 .

( 88 )
حتى أتى على القصيدة ، قال : فقال المنصور : كفّ عنه . فقال السيد : يا أمير المؤمنين ، البادىء أظلم ، يكفّ عني حتى أكفُّ عنه .
فقال المنصور لسِوار : تكلّم بكلام فيه نَصَفة ، كفّ عنه حتى لايهجوك(1) .

4 ـ احتجاج الشيخ المفيد قدس سره : (2)
روى السيد المرتضى قدس سره عن الشيخ المفيد ، أنّه قال : سأل بعض المعتزلة شيخاً من أصحابنا الاِمامية وأنا حاضر في مجلس قد ضمَّ جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة ، فقال له : إذا كان من قولك إنّ الله يردَّ الاَموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم ليشفي المؤمنين كما زعمتم من الكافرين ، وينتقم لهم منهم كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتم حتى تتعلقون بقوله تعالى : ( ثُمَّ رَدَدنَا لَكُمُ الكَرةَ عَلَيهِم وأمدَدنَاكُم بأموالٍ وبَنِينَ وجَعلنَاكُم أكثَرَ نَفيراً ) (3) فخبّرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر وعبدالرحمن بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم ، ويصيروا في تلك الحال إلى طاعة الاِمام ، فيجب عليك ولايتهم والقطع بالثواب لهم ، وهذا نقض مذهب الشيعة ؟

____________
(1) الفصول المختارة ، للسيد المرتضى : 93 ـ 95 .
(2) هو الاِمام أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ، المعروف بالشيخ المفيد ، وابن المعلم ، انتهت رئاسة الاِمامية في وقته إليه ، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ، وكان؛ ، خاشعاً متعبداً متألهاً كثير الصلاة والصوم والصدقات ، توفي في بغداد سنة 413 هـ .
(3) سورة الاِسراء 17 : 6 .

( 89 )
فقال الشيخ المسؤول : القول بالرجعة إنّما قبلته من طريق التوقيف ، وليس للنظر فيه مجال ، وأنا لا أُجيب عن هذا السؤال لاَنّه لا نصَّ عندي فيه ، وليس يجوز أن أتكلّف من غير جهة النصّ الجواب ، فشنّع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع .
فقال الشيخ المفيد قدس سره : فأقول أنا : إنَّ على هذا السؤال جوابين :
أحدهما : إنَّ العقل لا يمنع من وقوع الاِيمان ممّن ذكره السائل ، لاَنّه يكون إذ ذاك قادراً عليه ومتمكناً منه ، لكن السمع الوارد عن أئمة الهدى عليهم السلام بالقطع عليهم بالخلود في النار والتدين بلعنهم والبراءة منهم إلى آخر الزمان ، منع من الشكّ في حالهم ، وأوجب القطع على سوء اختيارهم ، فجروا في هذا الباب مجرى فرعون وهامان وقارون ، ومجرى من قطع الله عزَّ اسمه على خلوده في النار ، ودلَّ بالقطع على أنهم لا يختارون أبداً الاِيمان ، وأنهم ممّن قال الله تعالى في جملتهم : ( ولو أننا نَزَّلنَا إليهُمُ الملائكَةَ وكَلَمهُم الموتى وحَشرنا عَليهِم كُلَّ شَيءٍ قُبُلاً ما كانُوا ليُؤمِنُوا إلاّ أن يَشاءَ اللهُ ) (1) يريد إلاّ أن يلجئهم الله ، والذين قال الله تعالى فيهم (إنَّ شَرَّ الدوابِ عِندَ اللهِ الصُمُ البُكمُ الَّذينَ لا يعقلُونَ * ولو عَلِمَ اللهُ فِيهِم خَيراً لاَسمَعَهُم ولو أسمَعَهُم لتَولَوا وهُم مُعرِضُونَ ) (2).
ثم قال جلَّ من قائل في تفصيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس : (لاَملاَنَّ جَهنَّم مِنكَ ومِمن تَبِعَكَ مِنهُم أجمَعينَ ) (3) وقوله : ( وإنَّ عَليكَ لَعنَتي
____________
(1) سورة الانعام 6 : 111 .
(2) سورة الانفال 8 : 22 ـ 23 .
(3) سورة ص 38 : 85 .

( 90 )
إلى يَومِ الَّدِينِ ) (1) وقال : ( ولَو ردُّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ ) (2)وقال : ( تَبَّت يَدا أبي لهبٍ وَتَبَّ * ما أغنى عنهُ مالُهُ وما كَسَبَ * سَيَصلَى ناراً ذَاتَ لَهبٍ ) (3) فقطع عليه بالنار ، وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب ، وإذا كان الاَمر على ما وصفناه بطل ما توهّموه على هذا الجواب .
والجواب الآخر : أنّ الله سبحانه إذا ردّ الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة ، وجروا في ذلك مجرى فرعون لمّا أدركه الغرق ( قالَ آمنتُ أنّهُ لا إلهَ إلاّ الَّذي آمنَت بهِ بَنُوا إسرائِيلَ وأنا مِنَ المُسلمِينَ ) ، وقال الله سبحانه : ( ءَالآنَ وقد عَصيتَ قَبلُ وكُنتَ مِنَ المُفسِدِينَ ) (4) فرد الله عليه إيمانه ، ولم ينفعه في تلك الحال ندمه وإقلاعه ، وكأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم ، لاَنّهم كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل ، ولاَنَّ الحكمة تمنع من قبول التوبة أبداً ، وتوجب اختصاص بعض الاَوقات بقبولها دون بعض .
وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الاِمامة ، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد عليهم السلام حتى روي عنهم في قوله سبحانه : ( يَومَ يَأتِي بَعضُ آياتِ رَبِكَ لا يَنفَعُ نَفسَاً إيمانُها لَم تَكُن آمنَت مِن قبلُ أو كَسَبتْ في إيمانِها خَيرَاً قُلِ انتَظرُوا إنّا مُنتظِرُونَ ) (5) فقالوا : إنَّ هذه الآية هو القائم عليه السلام ، فإذا ظهر لم تقبل توبة المخالف ، وهذا يسقط ما اعتمده السائل .

____________
(1) سورة ص 38 : 78 .
(2) سورة الانعام 6 : 28 .
(3) سورة المسد 111 : 1 ـ 3 .
(4) سورة يونس 10 : 90 ـ 91 .
(5) سورة الانعام 6 : 158 .

( 91 )
سؤال : فإن قالوا في هذا الجواب : ما أنكرتم أن يكون الله سبحانه على ما أصّلتموه قد أغرى عباده بالعصيان ، وأباحهم الهرج والمرج والطغيان ، لاَنّهم إذا كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال ، وقد يئسوا من قبل التوبة ، لم يدعهم داعٍ إلى الكفّ عمّا في طباعهم ، ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلى النفع العاجل ، ومن وصف الله سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب ، فقد أعظم الفرية عليه ؟
جواب : قيل لهم : ليس الاَمر على ما ظننتموه ، وذلك أنَّ الدواعي لهم إلى المعاصي ترتفع إذ ذاك ، ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجهٍ من الوجوه ولا سببٍ من الاَسباب ، لاَنّهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلى وقت الرجعة على خلاف أئمتهم عليهم السلام ، ويعلمون في الحال أنهم معذّبون على ما سبق لهم من العصيان ، وأنّهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب ، ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب ، بل تتوفّر لهم دواعي الطباع والخواطر كلّها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان ، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع أهل الاِسلام مثله في أهل الآخرة وحالهم في إبطال توبتهم ، وكون توبتهم غير مقبولة منهم ، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلك ، فهو جوابنا بعينه .
سؤال آخر : وإن سألوا على المذهب الاَول والجواب المتقدم فقالوا : كيف يتوهّم من القوم الاِقامة على العناد والاصرار على الخلاف ، وقد عاينوا فيما يزعمون عقاب القبور ، وحلّ بهم عند الرجعة العذاب على مايعلمون ممّا زعمتم أنّهم مقيمون عليه ، وكيف يصحّ أن تدعوهم الدواعي إلى ذلك ، ويخطر لهم في فعله الخواطر ، وما أنكرتم أن تكونوا
( 92 )
في هذه الدعوى مكابرين ؟
الجواب : قيل لهم : يصحّ ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من أصحابنا بأن نقول : إنَّ جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في استحسان الخلاف ، لاَنَّ القوم يظنون أنّهم إنّما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم وليلوا الدنيا كما كانوا ، ويظنون أنَّ ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطاً منهم ، وإذا حلَّ بهم العقاب ثانيةً توهّموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أنّ ذلك ليس من طريق الاستحقاق ، وأنّه من الله تعالى ، لكنّه كما تكون الدول ، وكما حلّ بالاَنبياء .
ولاَصحاب هذا الجواب أن يقولوا : ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب من كفر قوم موسى وعبادتهم العجل ، وقد شاهدوا منه الآيات ، وعاينوا ما حلَّ بفرعون وملئه على الخلاف ، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتى به القرآن ، ويشهدون معجزاته وآياته عليه وآله السلام ، ويجدون مخبرات أخباره على حقائقها من قوله تعالى : ( سَيهُزَمُ الجَمعُ ويُولّونَ الدُبُرَ ) (1) وقوله : ( لَتدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرامَ إن شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) (2). وقوله : ( ألم * غُلِبَتِ الرُومُ * في أدنى الاَرضِ وهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيغلِبُونَ ) (3) وماحلَّ بهم من العقاب بسيفه عليه وآله السلام ، وهلاك كلّ من توعّده بالهلاك ، هذا وفيمن أظهر الاِيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل الشرك والضلال .

____________
(1) سورة القمر 54 : 45 .
(2) سورة الفتح 48 : 27 .
(3) سورة الروم 30 : 1 ـ 3 .

( 93 )
على أنَّ هذا السؤال لا يسوغ لاَصحاب المعارف من المعتزلة ، لاَنّهم يزعمون أنّ أكثر المخالفين على الاَنبياء كانوا من أهل العناد ، وأنَّ جمهور المظهرين للجهل بالله يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم ، ولكنّهم في الخلاف على اللجاجة والعناد ، فلا يمنع أن يكون الحكم في الرجعة وأهلها على هذا الوصف الذي حكيناه ، وقد قال الله تعالى : ( ولَو تَرى إذ وُقِفُوا على النَارِ فقَالُوا يَاليتَنا نُردُّ ولا نُكذّبَ بآياتِ ربّنا ونَكُونَ مِن المؤمِنينَ * بَل بَدا لَهُم ما كَانُوا يُخفُونَ مِن قَبلُ ولَو رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهوا عَنهُ وإنّهُم لكَاذِبُونَ ) (1). فأخبر سبحانه أنَّ أهل العقاب لو ردّهم الله تعالى إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الاَهوال وما ذاقوا من أليم العذاب (2).

5 ـ احتجاج السيد محسن الاَمين العاملي : (3)
في معرض ردوده على أحمد أمين في افتراءاته على الشيعة الاِمامية التي أوردها في كتابه (ضحى الاِسلام) وتراجع عن بعضها في أواخر حياته .
يقول أحمد أمين : وأمّا الرجعة ، فقد بدأ قوله ـ أي ابن سبأ ـ بأنّ محمداً يرجع ، ثم تحول إلى القول بأنّ عليّاً يرجع ، وفكرة الرجعة أخذها ابن سبأ من اليهودية ، فعندهم أنّ النبي إلياس صعد إلى السماء ، وسيعود
____________
(1) الانعام 6 : 27 ـ 28 .
(2) الفصول المختارة ، للمرتضى : 153 ـ 157 .
(3) هو العالم الكبير السيد محسن بن عبدالكريم الاَمين الحسيني العاملي ، من أشهر علماء عصره ، ولد في شقراء بلبنان نحو سنة 1284 هـ ، وتوفي في بيروت 1371 هـ ، له كتاب أعيان الشيعة ، والرحيق المختوم «شعر» ، والحصون المنيعة ، والمجالس السنية ، وغيرها .

( 94 )
فيعيد الدين والقانون ، ووجدت الفكرة في النصرانية أيضاً في عصورها الاُولى (1).
يقول السيد محسن الاَمين قدس سره في مقام الاحتجاج والاِلزام : فكرة الرجعة أول من قال بها عمر بن الخطاب ، روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن ابن عباس ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً » ، قال عمر : من لفلانة وفلانة ـ مدائن الروم ـ إنَّ رسول الله ليس بميت حتى نفتحها ، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى .
وقال الطبري وابن سعد وغيرهما : لمّا توفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عمر : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم زعموا أنّه قد مات (2).

____________
(1) ضحى الاِسلام 1 : 356 .
(2) أعيان الشيعة 1 : 53 . وراجع السيرة النبوية ، لابن هشام 4 : 305 . والطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 266 .

( 95 )

الفصل السادس

شبهات وردود

لا يخفى ، أنه لا يكاد يوجد حقّ يخلو من شبهة تعارضه ، ولقد تعرضت عقائد أهل بيت النبوة الحقة لشبهات المعاندين على طول مسيرة التاريخ ، وواقع الاَحداث مليء بالشواهد التي يطول بذكرها المقام، وما ذلك إلاّ من محض التعصب المقيت الذي أولده الاَمويون والعباسيون بما كانوا يحقدون على أعدال وقرناء كتاب الله العالمين الصادقين عترة المصطفى الاَمين .
والرجعة التي تعتبر من أسرار آل البيت عليهم السلام ، واحدة من تلك العقائد التي أُحيطت بالشبهات واتخذت ذريعة ووسيلة للتشنيع على شيعتهم من قبل بعض المخالفين ، وفيما يلي أهم الشبهات التي أثارها منكري الرجعة مع جوابها :

الشبهة الاُولى : الرجعة تنافي التكليف .
الجواب : القول بمنافاة الرجعة للتكليف جعل بعض الشيعة يتأولونها على وجه إعادة الدولة لا إعادة أعيان الاَشخاص ، وبما أنّ هذا الاَمر من الاَمور الغيبية ، فلا يمكن إصدار الحكم القطعي عليه ، لكن عامة أعلام
( 96 )
الطائفة يقولون إنّ الدواعي معها متردّدة ، أي إنها لا تستلزم التكليف ولاتنافيه ، وإنّ تكليف من يعاد غير باطل ، وقد أجابوا على مايترتّب على ذلك من إشكالات .
يقول السيد المرتضى قدس سره : إنَّ الرجعة لا تنافي التكليف ، وإنّ الدواعي مترددة معها حتى لا يظنَّ ظان أنّ تكليف من يعاد باطل ، وإنّ التكليف كما يصحّ مع ظهور المعجزات والآيات القاهرة ، فكذلك مع الرجعة لاَنّه ليس في جميع ذلك ملجىء إلى فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح (1).
أما من هرب من القول بإثبات التكليف على أهل الرجعة لاعتقاده أنّ التكليف في تلك الحال لا يصحّ ، لاَنّها على طريق الثواب وإدخال المسرّة على المؤمنين بظهور كلمة الحقّ ، فيقول السيد المرتضى : هو غير مصيب، لاَنّه لا خلاف بين أصحابنا في أنَّ الله تعالى ليعيد من سبقت وفاته من المؤمنين لينصروا الاِمام وليشاركوا إخوانهم من ناصريه ومحاربي أعدائه وأنّهم أدركوا من نصرته ومعونته ما كان يفوتهم لولاها ، ومن أُعيد للثواب المحض فمما يجب عليه نصرة الاِمام والقتال عنه والدفاع (2).
وهؤلاء المتهربون من القول باثبات التكليف ، تأولوا الرجعة على أنها تعني إعادة الدولة والاَمر والنهي لا عودة الاَشخاص ، ذلك لاَنهم عجزوا عن نصرة الرجعة ، وظنوا أنها تنافي التكليف ، يقول الشيخ أبو علي الطبرسي قدس سره : وليس كذلك ، لاَنه ليس فيها ما يلجيء إلى فعل الواجب
____________
(1) رسائل الشريف المرتضى 1 : 126 المسائل التي وردت من الري .
(2) المصدر السابق 3 : 136 الدمشقيات .

( 97 )
والامتناع من القبيح ، والتكليف يصحّ معها كما يصحّ مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعباناً وما أشبه ذلك .
ولاَنّ الرجعة لم تثبت بظواهر الاَخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها ، وإنّما المعول في ذلك على اجماع الشيعة الاِمامية ، وإن كانت الاَخبار تعضده وتؤيده (1).

توبة الكفار :
إن قيل : إذا كان التكليف ثابتاً على أهل الرجعة ، فيجوز تكليف الكفار الذين استحقوا العقاب ، وأن يختاروا التوبة .
قال الشيخ المفيد قدس سره : إذا أراد الله تعالى (رجعة الذين محضوا الكفر محضاً) أوهَمَ الشياطين أعداء الله عزَّ وجل أنهم إنّما رُدّوا إلى الدنيا لطغيانهم على الله ، فيزدادوا عتّواً ، فينتقم الله منهم بأوليائه المؤمنين ، ويجعل لهم الكرة عليهم ، فلا يبقى منهم أحد إلاّ وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب ، وتصفو الاَرض من الطغاة ، ويكون الدين لله ، والرجعة إنما هي لممحضي الاِيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الاُمم الخالية (2).
وأجاب السيد المرتضى قدس سره عن هذا بجوابين :
أحدهما : إنّ من أُعيد من الاَعداء للنكال والعقاب لا تكليف عليه ،
____________
(1) مجمع البيان 7 : 367 .
(2) المسائل السروية : 35 وقد تقدم في الفصل الخامس جواب مفصل للشيخ المفيد قدس سره عن هذه المسألة .

( 98 )
وإنّما قلنا إنّ التكليف باقٍ على الاَولياء لاَجل النصرة والدفاع والمعونة .
والجواب الآخر : إنَّ التكليف وإن كان ثابتاً عليهم ، فيجوز أنهم لايختارون التوبة ، لاَنا قد بيّنا أنّ الرجعة غير ملجئةٍ إلى قول القبيح وفعل الواجب وإنّ الدواعي متردّدة ، ويكون وجه القطع على أنهم لا يختارون ذلك ممّا علمنا وقطعنا عليه من أنهم مخلدون لا محالة في النار (1)، قال تعالى : ( وعَدَ اللهُ المنافِقِينَ والمنُافِقاتِ والكُفارِ نَارَ جَهَنَمَ ) (2)، وقال تعالى : ( وَليستِ التَوبةُ للَّذينَ يَعملُونَ السَيئاتِ حتى إذا حَضَرَ أحدَهُمُ المَوتُ قالَ إني تُبتُ الآنَ ولا الَّذينَ يموتُونَ وهُم كُفارٌ ) (3).

الشبهة الثانية : قال أبو القاسم البلخي : لا تجوز الرجعة مع الاِعلام بها ، لاَنَّ فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتكال على التوبة في الكرة الثانية .
الجواب : إنَّ من يقول بالرجعة لا يذهب إلى أنّ الناس كلهم يرجعون ، فيصير إغراء بأنّ يقع الاتكال على التوبة فيها ، بل لا أحد من المكلفين إلاّ ويجوز أن لا يرجع ، وذلك يكفي في باب الزجر (4).

الشبهة الثالثة : كيف يعود كفار الملة بعد الموت إلى طغيانهم ، وقد عاينوا عذاب الله تعالى في البرزخ ، وتيقنوا بذلك أنهم مبطلون .
قال الشيخ المفيد قدس سره : ليس ذلك بأعجب من الكفار الذين يشاهدون في البرزخ ما يحلَّ بهم من العذاب ويعلمونه ضرورة بعد المدافعة لهم
____________
(1) رسائل الشريف المرتضى 3 : 137 الدمشقيات .
(2) سورة التوبة 9 : 68 .
(3) سورة النساء 4 : 18 .
(4) مجمع البيان ، للطبرسي 1 : 242 .

( 99 )
والاحتجاج عليهم بضلالهم في الدنيا ، فيقولون حينئذ ( يَاليتَنَا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بآياتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ ) فقال الله عزَّ وجل : ( بَل بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخفُونَ مِن قَبلُ وَلَو رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ وإنَّهُم لكاذِبُونَ ) (1).

الشبهة الرابعة : الرجعة تفضي إلى القول بالتناسخ .
وللجواب على هذه الشبهة لا بدَّ من بيان عدّة أُمور :
1 ـ تواترت الروايات عن أئمة الهدى عليهم السلام على بطلان التناسخ وامتناعه، واتّفقت كلمة الشيعة على ذلك وقد كتبوا في ذلك مقالات ورسائل .
سأل المأمون الاِمام الرضا عليه السلام : ما تقول في القائلين بالتناسخ ؟ فقال عليه السلام : «من قال بالتناسخ فهو كافر مكذّب بالجنة » (2).
ويقول الشيخ الصدوق قدس سره : القول بالتناسخ باطل ، ومن دان بالتناسخ فهو كافر ، لاَنّ في التناسخ إبطال الجنة والنار (3).
2 ـ إنَّ الذين يقولون بالتناسخ هم أهل الغلو الذين ينكرون القيامة والآخرة ، وقد فرق الاَشعري في (مقالات الاِسلاميين) بين قول الشيعة بالرجعة وقول الغلاة بالتناسخ بقوله :
واختلف الروافض في رجعة الاَموات إلى الدنيا قبل القيامة ، وهم فرقتان :

____________
(1) المسائل السروية ، للشيخ المفيد : 36 والآيتان من سورة الانعام 6 : 27 ـ 28 .
(2) بحار الاَنوار ، للمجلسي 4 : 320 .
(3) الاعتقادات ، للصدوق : 62 .

( 100 )
الاُولى : يزعمون أنّ الاَموات يرجعون إلى الدنيا (1) قبل يوم الحساب ، وهذا قول الاَكثر منهم (2)، وزعموا أنه لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ ويكون في هذه الاُمّة مثله ، وإنّ الله سبحانه قد أحيا قوماً من بني إسرائيل بعد الموت ، فكذلك يحيي الاَموات في هذه الاُمّة ويردّهم إلى الدنيا قبل يوم القيامة .
والثانية : وهم أهل الغلو ، ينكرون القيامة والآخرة ، ويقولون ليس قيامة ولا آخرة ، وإنّما هي أرواح تتناسخ في الصور ، فمن كان محسناً جُوزيَ بأن ينقل روحه إلى جسد لا يلحقه فيه ضرر ولا ألم ، ومن كان مسيئاً جُوزيَ بأن ينقل روحه إلى أجساد يلحق الروح في كونه فيها الضرر والاَلم ، وليس شيء غير ذلك ، وأنّ الدنيا لا تزال أبداً هكذا (3).
ومن درس تاريخ أهل البيت الاَطهار عليهم السلام وشيعتهم الاَبرار يلمس أنهم يكفّرون الغلاة ويبرأون منهم ، ولهم في هذا الباب مواقف مشهورة يطول شرحها .
يقول الدكتور ضياء الدين الريس بعد تعداده لفرق الشيعة : وقد تزاد عليهم فرقة خامسة هي الغلاة ، ولكنها في الحقيقة ليست منهم ، بل يخرجها غلوّها عن دائرة الاِسلام نفسه (4).

____________
(1) لا يرجع جميع الاَموات ، بل الرجعة خاصة كما بيّناه في الفصل الثالث .
(2) بيّنا في الفصل الثالث أن بعض الاِمامية قد تأولوا الرجعة بمعنىً يخالف ما عليه ظواهر أحاديثها.
(3) مقالات الاِسلاميين ، لاَبي الحسن الاَشعري 1 : 114 .
(4) النظريات السياسية الاسلامية : 64 ط4 سنة 1967 م .

( 101 )
3 ـ إنَّ من طعن في الرجعة باعتبار أنها من التناسخ الباطل ، فلاَنه لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني ، والرجعة من نوع المعاد الجسماني ، فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الاَول ، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني ، فإنَّ معناه رجوع نفس البدن الاَول بمشخصاته النفسية ، فكذلك الرجعة .
وإذا كانت الرجعة تناسخاً ، فإنَّ إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام كان تناسخاً ، وإذا كانت الرجعة تناسخاً كان البعث والمعاد الجسماني تناسخاً(1).
وبعد هذا ليس لمتطفّل على العلم أن يقول : وفكرة الرجعة شبيهة مع فارق كبير إلى الفكرة التناسخية التي جاء بها فيثاغورس... (2).

الشبهة الخامسة : ظهور اليهودية في التشيع بالقول بالرجعة .
يقول أحمد أمين في كتابه (فجر الاِسلام) : فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة ! وقد أجاب أعلام الطائفة بما يفنّد مدّعاه الذي لا يقوله ذو مِسكه إذا أراد الانصاف .
يقول الشيخ المظفر : فأنا أقول على مدّعاه : فاليهودية أيضاً ظهرت في القرآن بالرجعة ، كما تقدم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة (3)، ونزيده فنقول : والحقيقة أنه لا بدَّ أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من
____________
(1) عقائد الاِمامية ، للمظفر : 110 . والالهيات 2 : 809 . والملل والنحل 6 : 364 .
(2) الشيعة والتصحيح ، موسى الموسوي : 142 ـ 143 .
(3) ذكرنا الآيات التي آشار إليها في مقدمة البحث ، وهي تدل على وقوع الرجعة في الاُمم السابقة، وقد صرّح القرآن الكريم بذكرها بما لا يقبل التأويل .

( 102 )
المعتقدات والاَحكام الاِسلامية ، لاَنَّ النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم جاء مصدّقاً لما بين يديه من الشرائع السماوية ، وإنْ نسخ بعض أحكامها ، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الاِسلامية ليس عيباً في الاِسلام ، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذه الكاتب (1).
ويقول الشيخ كاشف الغطاء قدس سره : ليت شعري هل القول بالرجعة أصل من أصول الشيعة وركن من أركان مذهبها حتى يكون نبزاً عليها ، ويقول القائل : ظهرت اليهودية فيها ! ومن يكون هذا مبلغ علمه عن طائفة ، أليس كان الاَحرى به السكوت وعدم التعرّض لها ؟ إذا لم تستطع أمراً فدعه .
وعلى فرض أنها أصل من أصولهم ، فهل اتّفاقهم مع اليهود بهذا يوجب كون اليهودية ظهرت في التشيع ، وهل يصحّ أن يقال إنّ اليهودية ظهرت في الاِسلام ، لاَنّ اليهود يقولون بعبادة إله واحد والمسلمون به قائلون ؟! وهل هذا إلاّ قول زائف واستنباط سخيف (2).

الشبهة السادسة : الظاهر من قوله تعالى :( حَتَّى إذَا جَآءَ أحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ * لَعَلِّي أعمَلُ صَالِحاً فِيما تَرَكتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قآئلُهَا وَمِن وَرآئهِم بَرزَخٌ إلى يَومِ يُبعَثُونَ ) (3) نفي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت ، فكيف يمكن التوفيق بين القول بالرجعة وبين ما يدلّ عليه ظاهر الآية ؟

____________
(1) عقائد الاِمامية ، للمظفر : 112 .
(2) أصل الشيعة وأُصولها : 167 وللسيد محسن الاَمين العاملي قدس سره ردٌّ على هذه المسألة أورده في مقدمة أعيان الشيعة 1 : 56 ـ 57 .
(3) سورة المؤمنون 23 : 99 ـ 100 .

( 103 )
الجواب من عدّة وجوه :
أولاً : إنّه ليس في الآية شيءٌ من ألفاظ العموم ، فلعلَّ المشار إليهم لا يرجع أحد منهم ، لاَنَّ الرجعة خاصّة كما تقدّم .
ثانياً : إنَّ الذي يفهم من الآية أنّ المذكورين طلبوا الرجعة قبل الموت لا بعده ، والذي نقول به ونعتقده هو الرجعة بعد الموت ، فالآية لا تنافي صحّة الرجعة بهذا المعنى .
ثالثاً : إنَّ الظاهر من الآية هو إرادة الرجعة مع التكليف في دار الدنيا ، بل يكاد يكون صريح معناها ، ونحن لا نجزم بوقوع التكليف في الرجعة ، وأنّ الدواعي معها متردّدة ، وأنه أمر منوط بعلم الغيب ، ولا يفصح عنه إلاّ المستقبل (1).

الشبهة السابعة : أحاديث الرجعة موضوعة .
الجواب : هذه الدعوى لا وجه لها ، ذلك لاَنَّ الرجعة من الاُمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت عليهم السلام من الاَخبار المتواترة ، وعلى تقدير صحّة هذه الدعوى ، فإنه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوّلها خصوم الشيعة ، وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين لم يثبت فيها نصّ صحيح ، ولكنها لم توجب تكفيراً وخروجاً عن الاِسلام ؟
ولذلك أمثلة كثيرة ، منها الاعتقاد بجواز سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عصيانه ، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن ، ومنها القول بالوعيد ، ومنها الاعتقاد بأنّ
____________
(1) راجع الايقاظ من الهجعة ، للحر العاملي : 422 .

( 104 )
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينصّ على خليفةٍ من بعده (1).
وقد بيّنا في الدليل الثالث من الفصل الثاني ثبوت الاعتقاد بالرجعة عند أئمة الهدى من عترة المصطفى عليهم السلام وذلك لتواتر الروايات التي نقلها الثقات عنهم عليهم السلام .

الشبهة الثامنة : الرجعة محدودة في زمان النبوة .
قيل : إنَّ الرجعة لا تجوز إلاّ في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون معجزاً له ودلالة على نبوته .
قال الشيخ الطبرسي : وذلك باطل ، لاَنَّ عندنا بل عند أكثر الاُمّة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الاَئمة والاَولياء ، والاَدلة على ذلك مذكورة في كتب الاَُصول (2).

ولله الحمد والمِنّة أولاً وآخراً
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين

____________
(1) عقائد الاِمامية ، للمظفر : 110 .
(2) مجمع البيان ، للطبرسي 1 : 242 .