علم الزهراء

المعرفة العلمية والفكرية لها ألا هل إلى طول الحياة سبيل * وأنى وهذا الموت ليس يحول وأني وإن أصبحت بالموت موقنا * فلي أمل من دون ذاك طويل وللدهر ألوان تروح وتغتدي * وأن نفوسا بينهن تسيل ومنزل حق لا معرج دونه * لكل امرئ منها إليه سبيل قطعت بأيام التعزز ذكره * وكل عزيز ما هناك ذليل أرى علل الدنيا علي كثيرة * وصاحبها حتى الممات عليل وأني وإن شطت بي الدار نازحا * وقد مات قبلي بالفراق جميل وقد قال في الأمثال في البين قائل * أضر به يوم الفراق رحيل لكل اجتماع من خليلين فرقة * وكل الذي دون الفراق قليل وأن افتقادي فاطما بعد أحمد * دليل على أن لا يدوم خليل وكيف هناك العيش من بعد فقدهم * لعمرك شئ ما إليه سبيل وليس جليلا رزء مال وفقده * ولكن رزء الأكرمين جليل يتساوى الناس في الحقوق والواجبات من جهة التشريع الإسلامي ومنطلقاته الأصلية ، فهم سواسية كأسنان المشط في المظهر الخارجي ، ولكن من حيث حقيقة وجوهر كل إنسان تختلف من شخصية إلى أخرى ، وقديما قيل : الناس مخابر ، وليسوا بمناظر أي الإنسان بجوهره وحقيقته ، وذلك أن المخبر يكشف عن سلوك الإنسان ويبدو على سيرته الذاتية بشكل واضح لا لبس فيه . . فما أضمر ابن آدم شيئا إلا وظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه ، كما قال أمير المؤمنين ذلك في نهج البلاغة " تكملوا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت طيات لسانه " فالكلمة تعرف حقيقة الإنسان وطبيعة شخصيته ، حيث أثبت العلم النفسي الحديث أن معرفة أي حقيقة لأي شخصية يكون عبر توجيه بعض الأسئلة إليه ومن خلال الجواب عليها يظهر طبع شخصيتها وحقيقتها ومدى سعتها واستيعابها ، وهل هي شخصية عالية ذا همة كبيرة أم لا ؟ وغير ذلك من الأمور المعمة ، ذلك أن الكلمة التي تخرج من الفم تحمل معها صورة قائلها ونبضات قلبه ، وخلجات نفسه ودخائل شخصيته ، وهذه حقيقة معروفة لدى علماء النفس والتربية والاجتماع ، كل ذلك نقوله لكي نهتدي إلى سواء السبيل . وعلى هذا الأساس إننا نهتدي إلى معرفة الشخصية العلمية والفكرية بها سلام الله عليها من خلال عدة أمور مهمة ومن خلالها نعبر إلى شخصيتها وندخل في فهم حقيقتها وهذه الأمور هي :

الأمر الأول : يمكن معرفة شخصيتها من خلال سيرتها الذاتية التي يرويها لنا أهل البيت والأقربون من ذويها ، ذلك لأن أهل البيت أدرى بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل . إذ أن هناك أمور في الحياة صحيحة وثابتة وفق مقاييس العقل والبرهان ولا تحتاج إلى إثبات إثبات أحقيتها وأصحيتها إلى دليل من الخارج ولا تحتاج إلى إثبات صحة دعواها أيضا إلى شاهد فدليلها مستمد منها ، ومن هذه الأمور الثابتة في حياة الإنسان الكامل " فاطمة الزهراء " هي سيرتها الذاتية التي تثبت من خلالها معرفتها الحقيقية فهذه السيرة هي السبيل الصحيح للوقوف على حياتها .

فهي الضابط والمعيار الصحيح للحكم عليها من خلالها . فالإنسان لا يعرف المعرفة الصحيحة إلا من خلال هذه السيرة على وجه الدقة أما بقية المسائل الأخرى في حياة المسائل الأخرى في حياة الإنسان من الشعارات والأطروحات والأدلة والشواهد وغير ذلك لا تمثل سوى الجانب النظري من حياة الإنسان الشخصية ، ومدى صدق هذه الدعوى فهي متروكة للجانب التطبيقي في حياته ، إذن السيرة الذاتية الصديقة الطاهرة تمثل جانب تطبيقي من حياتها الشخصية على كافة المستويات ، ولا نريد الوقوف مع السيرة الذاتية لفاطمة في هذا الكتاب بصورة تفصيلية حيث قد أعطينا بعض النماذج للسيرة الذاتية لها في نفس هذا الكتاب وكانت هذه النماذج ، على شكل أمور متناثرة في طيات البحوث فلا نقف تفصيليا معها هنا .

الأمر الثاني : يمكن أن نعرف شخصيتها من خلال مواقفها لأن الموقف عمل والعمل ما هو إلا انعكاس لطبيعة شخصية الفرد وهذا ما أثبته التاريخ الإسلامي لفاطمة حيث أخبرنا بمواقفها الفذة في جميع الحالات التي مرت بها . فعندما كانت قريش تؤذي رسول الله وتتعرض له بأنواع المواجهة كانت الزهراء تقف إلى جانبه صابرة محتسبة ، فيدخل إلى البيت وقد حثى الكافرون التراب على رأسه الشريف ، فتستقبله الزهراء وتغسل التراب عن رأسه وهي باكية ، فيقول لها الرسول : لا تبكي فإن الله ناصر أباك . وعندما رمى أبو لهب رسول الله بروث البقر اندفعت فاطمة لتذب عن أبيها الرسول ، وتسمع أبا لهب من الكلام ما يتوقف خلاله من الاندفاع بالسخرية برسول الله .

كما أنها التحقت بأبيها بعد هجرته إلى المدينة مجازفة بحياتها ومضحية بروحها في سبيل نصر الإسلام وإعزاز مبادئه المثلى ، ولا يمكن أن يغفل دورها في الوقوف إلى جانب رسول الله أيام دعوته المباركة ، تؤنسه وتزيح عنه الهموم والآلام ، وتعيد البسمة إلى وجهه المبارك إذا اشتدت عليه الخطوب . أضف إلى مواقفها الرسالية أيام الحروب وهي صغيرة السن بعد ، ففي معركة أحد تكسر رباعية رسول الله ويشج جبينه ، فتقبل الزهراء لتغسل وجهه ، وتزيل الدماء عن محياه ، وتعالج نزيف جراحاته ، فقد جاء في صحيح مسلم : " قال سهل بن سعد : جرح وجه رسول الله وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة عن رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمحن ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم " .

ونقل أبي نعيم في ( حلية الأولياء ) عن أبي ثعلبة أنه قال : " قدم رسول الله من غزاة له ، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم خرج فأتى فاطمة فبدأ بها قبل بيوت أزواجه ، فاستقبلته فاطمة وجعلت تقبل عينيه ووجهه وتبكي " والأعجب من ذلك أن فاطمة كانت تهئ لأبيها السلاح في المعركة التي جرت في اليوم القادم . وفي معركة الخندق تقبل على أبيها بأقراص من الخبز معدودة بعد أن بقي أياما بلا طعام ، فجاء في ذخائر العقبى : " روي عن علي في حفر الخندق عن رسول الله أن فاطمة جاءت إليه بكسرة من خبز فرفعتها إليه فقال : ما هذه يا فاطمة ؟ قالت : من قرص اختبزته لابنتي جئتك منه بهذه الكسرة . فقال : يا بنية أما أنها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث " .

وفي الفتح المبين نرى الزهراء تضرب لأبيها خيمة وتهئ له طعاما ليستحم ويغتسل حتى يزول عن جسده المبارك غبار الطريق ، ويرتدي ثيابا نظيفة يخرج بها إلى المسجد الحرام . ومن موقع الأمومة وكونها زوجة وفية مخلصة لعلي نرى أنها زهدت في الدنيا وترفعت عن الدنيا ، ولم يكن لها من هم إلا تحمل المسؤولية الإلهية بجدارة واستحقاق وتجسيد الصفات الإلهية كأمثل ما يكون . فيروى أن عليا قد اشترى لها عقدا من أموال الفئ ، وتقلدته الزهراء وتقبلت هذه الهدية من زوجها بسرور ، وبينما هي متقلدة ذلك وإذا برسول الله يأتي لزيارتها ، فسلمت عليه وسلم عليها ، إلا أنها وعلى غير المعتاد رأت مسحة من الحزن يقولون ابنة محمد تلبس لباس الجبابرة ، ويوصيها أن تذخر ذلك لآخرتها لتكون أسوة في الزهد ومثالا للإيثار والقناعة ، فتنزع الزهراء ذلك العقد وتتصدق بثمنه في سبيل الله وهي مليئة بالرضا والقناعة . ويروى أن رسول الله يدخل يوما على فاطمة فيراها قد علقت سترا على أحد الأبواب لتزين الدار ، فيتألم رسول الله لذلك ويقول لابنته : " أني لا أحب أن يأكل أهل بيتي طيباتهم في حياتهم الدنيا " .

فتبادر الزهراء من حينها للقيام ونزع الستر ممتثلة أوامر أبيها ، ومن أورع أمثلة للإيثار ما طفحت به كتب الحديث والتفسير من تقديم الزهراء وزوجها وولديها لطعامهم لثلاثة أيام متوالية لمسكين ويتيم وأسير وبقائهم جياعا طيلة هذه المدة قربة لوجه الله الكريم ، فنزل بشأنهم : * ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، عينا يشرب بها عباد الله ويفجرونها تفجيرا ، يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا ) * .

 ومن المواقف التي خلدت من خلالها الزهراء الزهد والإيثار والقناعة أنها قد طلبت من أبيها أن يكون مهرها الشفاعة للمذنبين من أمته يوم القيامة ، فنزل جبرئيل على رسول الله مخبرا إياه بتلبية الله تعالى لطلب فاطمة وبما أن درع علي كان المهر التقليدي لفاطمة فإن أغلى قيمة ذكرت لذلك الدرع هي خمسمائة درهم .

الأمر الثالث وتستطيع معرفة فاطمة وشخصيتها الربانية من خلال نور كلامها الشريف الذي هو عبارة عن صورة حقيقية وانعكاس صادق لشخصيتها الإلهية ، فمن خلال أقوالها وكلماتها نستطيع أن نستدل عليها ، ونكتشف حقيقتها في سهولة ويسر وبساطة . ولقد تجلت أنوار كلماتها المضيئة في مختلف أبواب العلوم والفنون كعلم الفقه والأخلاق وسائر العلوم الأخرى التي تكلمت فيها ، أو عرف عنها على اختلاف أنواعها من علوم رتيبة أو غريبة ظاهرة أو باطنة ، نقلية أو عقلية ، علمية أو أدبية إنسانية أو طبيعية إلهية أو دنيوية فإنها سلام الله عليها قد كشف القناع عن الكثير من الأسرار التي تخص هذا الوجود وبينت الكثير من عجائبه وفي كل ذلك نستطيع أن نلتمس منه وفيه شيئا يسيرا من معرفتها سلام الله عليها أما أنوار كلامها فهذا ما بينته الكثير من الكتب الروائية التي نقلت لنا بين طياتها أحاديثها وعد ذاتها أحرازها وأدعيتها وولايتها وغير ذلك فراجع المطويات للاطلاع والوقوف على هذه الأنوار الفاطمية .

قصيدة للشيخ المنصوري لك ذكرى تمر في كل عام * وعليها تمر مر الكرام هي ذكرى لها نقيم احتفالا * بابتهاج وفرحة وابتسام هي ذكرى ولادة سر فيها * سيد المرسلين خير الأنام بصبوح يشع في الكون شمسا * لا كشمس الضحى وبدر التمام هي شمس والشمس يا صاح فيها * إن تقسمها فما لها من مقام هي شمس الهدى وشمس المعالي * وهي أحرى بالذكر والاحترام من سواها فخلني وسروري * لحظات بعد الدموع السجام إن قلبي من الهموم ملئ * وملئ من الخطوب الجسام ثم أمسى خلي بال طروبا * راقدا بين ، نايه ، والمدام إن ضرب الأمثال في مثل هذا * هو ضرب ، ومن فضول الكلام فالتزامي بحب آل رسول الله * يغني عن البيان التزامي فمصاب الزهراء روحي فداها * هو في وسط قلبي المستظام والحسين الشهيد في الطف ليلا * يتراءى لمقلتي في المنام فكأن السيوف تنهل منه * نصب عيني والظالمون أمامي هو مرمى فوق الصعيد ومرمى * بعد وخز الضبا لرشق السهام فسماحا أم الحسين إذا ما * شط بي مزبر الشجا عن مرامي وطأة الرزء أثقلتني فراحت * دون قصد تخطه أقلامي علمتها أناملي أن تطيل * القول في وذم اللئام فعليك السلام مني يترى * إن تفضلت في قبول سلامي يا ابنة المصطفى ويا خير أم * لبني المرتضى الهداة الكرام إمنحينا بنظرة منك فضلا * فسماها ملبد بالظلام أنت باب النجاة من كل سوء * فادفعي السوء عن ربى الإسلام واحرسينا من خصنا بدعاء * هو أمضى من ألف ألف حسام المستوى الرابع .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>