الكتب المتبادلة بينه ومعاوية

- قال أبو الفرج : وكتب الحسن إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزدي :

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإن الله تعالى عز وجل بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة على المؤمنين ، وكافة إلى الناس أجمعين ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) فبلغ رسالات الله ، وقام على أمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان ، حتى أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، ونصر به المؤمنين ، وأعز به العرب ، وشرف به قريشا خاصة ، فقال تعالى : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) فلما توفى تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه ، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش ، وأن الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد فأنعمت لهم العرب وسلمت ذلك ، ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاجت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياؤه إلى محاجتهم ، وطلب النصف منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا ، والعنت منهم لنا ، فالموعد الله ، وهو الولي النصير .

وقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا ، وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام ، فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده ، فاليوم فليعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله ، ولكن الله خيبك وسترد فتعلم لمن عقبى الدار ، تالله لتلقين عن قليل ربك ، ثم ليجزينك بما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد . إن عليا لما مضى لسبيله يوم قبض ، ويوم من الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيا - ولاني المسلون الأمر بعده ، فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته ، وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلت الحظ الجسيم ، وللمسلمين فيه صلاح ، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنك تعلم إني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ، ومن له قلب منيب ، واتق الله ، ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فوالله مالك من خير في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به ، فادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ، ومن هو أحق به منك ، ليطفئ الله النائرة بذلك ، وتجمع الكلمة ، وتصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك نهدت إليك بالمسلمين ، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .

فكتب إليه معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو .

 أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت به رسول الله من الفضل ، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله ، قديمه وحديثه ، وصغيره وكبيره ، فقد والله بلغ فأدى ، ونصح وهدى ، حتى أنقذ الله به من التهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته ، وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حيا .

وذكرت وفاة النبي ، وتنازع المسلمين من بعده ، فرأيتك صرحت بتهمة أبي بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وأبي عبيدة الأمين ، وحواري الرسول ، وصلحاء المهاجرين والأنصار ، فكرهت ذلك لك ، فإنك امرؤ عندنا وعند الناس غير ظنين ، ولا المسئ ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل .

إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من النبي ، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها ، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما وأعلمها بالله وأحبها له وأقواها على أمر الله ، واختاروا أبا بكر ، وكان ذلك رأي ذوي الحجى والدين والفضيلة والناظرين للأمة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا بمتهمين ، ولا فيما أتوا بمخطئين ، ولو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه ، أو يذب عن حريم المسلمين ذبه ، ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبة عنه ، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله ، فالله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا .

وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد النبي ولو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية ، وأقدم منك لهذه الأمة تجربة ، وأكثر منك سياسة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ تحمله إلى حيث أحببت ولك خراج أي كور العراق شئت ، معونة لك على نفقتك ، يجيبها لك أمينك ، ويحملها إليك في كل سنة ، ولك ألا يستولي عليك بالإساءة ولا تقضي دونك الأمور ، ولا تعصي في أمر أردت به طاعة الله عزوجل ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء ، والسلام .

قال جندب : فلما أتيت الحسن بن علي بكتاب معاوية قلت له : إن الرجل سائر إليك ، فابدأ أنت بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله ، فأما أن تقدر أنه يتناولك فلا والله حتى يرى يوما أعظم من يوم صفين ، فقال : أفعل ثم قعد عن مشورتي وتناسي قولي .

وقال أيضا : وكتب معاوية إلى الحسن بن علي : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد ، فإن الله عزوجل يفعل في عباده ما يشاء ( لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ) فاحذر أن تكون منيتك على يد رعاع من الناس ، وايئس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجزت لك ما شرطت ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة : وإن أحد أسدى إليك أمانة * فأوف بها تدعى إذا مت وافيا ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى * ولا تجفه إن كان في المال فانيا ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها ، والسلام .

- قال أبو الفرج : فأجابه الحسن بن علي : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد ، وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت ، فتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني من أهله ، وعلي إثم أن أقول فأكذب ، والسلام .

فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه ، ثم كتب إلى عماله على النواحي نسخة واحدة : بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو .

أما بعد ، فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فاقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

قال : فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان ، وسار قاصدا إلى العراق وبلغ الحسن خبر مسيره ، وأنه بلغ [ جسر ] منبج ، فتحرك لذلك ، وبعث حجر بن عدي يأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير ، ونادى المنادي : الصلاة جامعة ، فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون ، فقال الحسن : إذا رضيت جماعة الناس فاعلمني وجاء سعيد بن قيس الهمداني ، فقال : اخرج ، فخرج الحسن فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله كتب الجهاد على خلقه ، وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين : ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون ، إلا بالصبر على ما تكرهون ، إنه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه ، فتحرك لذلك ، فأخرجوا - رحمكم الله - إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا . قال : وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس إياه .

قال : فسكتوا فما تكلم منهم أحد ، ولا أجاب بحرف . فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قال : أنا ابن حاتم ، سبحان الله ، ما أقبح هذا المقام ؟ ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم ، أين خطباء مضر ؟ أين المسلمون ؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها .

ثم استقبل الحسن بوجهه فقال : أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، فقد سمعنا مقالتك ، وانتهينا إلى أمرك ، وسمعنا منك ، وأطعناك فيما قلت وما رأيت ، وهذا وجهي إلى معسكري ، فمن أحب أن يوافيني فليواف .ثم مضى لوجهه ، فخرج من المسجد ودابته بالباب ، فركبها ومضى إلى النخيلة ، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، وكان عدي أول الناس عسكرا .

ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التيمي فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم ، وكلموا الحسن بمثل كلام عدي ابن حاتم في الإجابة والقبول .

فقال لهم الحسن ، صدقتم - رحمكم الله - ما زلت أعرفكم بصدق النية ، والوفاء بالقول والمودة الصحيحة ، فجزاكم الله خيرا ثم نزل وخرج الناس ، فعسكروا ، ونشطوا للخروج ، وخرج الحسن إلى معسكره ، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه ، فجعل يستحثهم ويخرجهم ، حتى التأم العسكر .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>