شهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ( رضوان الله عليهما )

ارتأى الإمام الحسين ( عليه السلام ) أن يُرسل مندوباً عنه إلى الكوفة يهيئ له الأجواء ، وينقل له واقع الأحداث ، ليستطيع أن يقرّر الموقف المناسب ، ولابد لهذا السفير من صفات تؤهله لهذه السفارة ، فوقع الاختيار على مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، لما كان يتصف به من الحكمة والشجاعة والإخلاص .

انطلق مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) من مكّة متوجّهاً إلى العراق في الخامس عشر من شهر رمضان سنة ( 60 هـ ) ، ودخل الكوفة في الخامس من شهر شوال من نفس السنة ، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، واتخذها مقرّاً لعمله السياسي في الكوفة .

ومنذ وصول مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) إلى الكوفة ، أخذ يعبئ أهلها ضد حكم يزيد ويجمع الأنصار ، ويأخذ البيعة للإمام الحسين ( عليه السلام ) ، حتّى تكامل لديه عدد ضخم من الجند والأعوان ، فبلغ عدد مَن بايعه واستعد لنصرته ثمانية عشر ألفاً ، كما ورد في كتاب مروج الذهب .

لم تكن مثل هذه الأحداث لتخفى على يزيد وأعوانه ، إذ كتب عملاء الحكم الأموي رسائل كثيرة إلى السلطة المركزية ، نقتطف لكم ما جاء في أحد تلك الرسائل :  أمّا بعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدِم الكوفة ، وبايعته الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ، ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يَتَضَعَّف .

وتسلّم يزيد تلك الرسالة ، وراح يناقش الأمر ، ويبحث عن أكثر الناس قسوة وقدرة على التوغّل في الإرهاب والجريمة ، وأخيراً وقع الاختيار على عبيد الله بن زياد ، ومنذ وصوله إلى قصر الإمارة ، أخذ يتهدّد ويتوعّد المعارضين والرافضين لحكومة يزيد .

وننقل هنا هذه الجملة من أقواله : سوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي .

وهكذا بدأ الانعطاف ، وبدأت مسيرة الجماهير الصاخبة تتخذ مجرى آخر ، إذ لاحت بوادر النكوص والإحباط تظهر على جماهير الكوفة وبعض رجالاتها .

وراحت سلطة عبيد الله بن زياد تقوّي مركزها ، وتمسك بالعصا الغليظة ، وبوسائل القوّة والسيطرة المألوفة لديها ، من المال والرشوة والإرهاب وتسخير الجواسيس لجمع المعلومات وبث الأراجيف .

أمّا موقع مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، فبدأ يضعف ويهتز ، واضطر إلى تغيير أسلوب عمله وموقعه .

فانتقل من دار المختار الثقفي إلى دار هانئ بن عروة متخفّياً بعيداً عن أعين السلطات ، إلى أن كشفته عناصر الاستخبارات ، وأخبرت عبيد الله بن زياد بمكانه ، فاستدعى ابن زياد هانئ بن عروة - المدافع عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) - بشكل سري وغير مثير ، بحجّة أنّ الوالي بعث إليه ليزوره حتّى تزول الجفوة بينهما .

وما أن دخل هانئ القصر حتّى وجد نفسه أمام محكمة ، والتهم موجهة إليه ، والجواسيس شاهدة عليه في أنّه يوالي الإمام الحسين ( عليه السلام ) .

حاول هانئ الإنكار إلاّ أنّه فوجئ بالهجوم عليه من قبل ابن زياد بقضيب كان بيده وراح يهشم به وجهه ، وكان هانئ يدافع عن نفسه بقوّة فلم يستطع ، وأخيراً أصدر ابن زياد أوامره بحبس هانئ في إحدى غرف القصر .

ثمّ تسربت أخبار سجن هانئ إلى أوساط الناس ، فتطوّر الصراع ، والأوضاع في الكوفة أخذت تنذر بانفجار خطير ، وأخذ ازلام ابن زياد وجواسيسه ببث الإشاعات في كل أنحاء الكوفة ، وأخذوا يُخَوِّفُون الناس بأنّ هناك جيش جرّار قادم من الشام .

كما بدؤوا يُشيعون بين أوساط الناس روح التخاذل ، والدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار لغرض كسب الوقت ، وتفتيت قوى الثوار .

استمرت الأوضاع هكذا في الكوفة ، والناس تنصرف شيئاً فشيئاً عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) حتّى لم يبق مع مسلم إلاّ عشرة رجال ، صلّى بهم جماعة ، فلمّا انتهى التفت إلى خلفه فلم يجد أحداً منهم .

وبعد مواجهة هذا المنظر المروّع راح يسير في شوارع الكوفة حتّى يهتدي إلى حل أو طريق للخروج من الكوفة قبل إلقاء القبض عليه من قبل سلطات ابن زياد ، كي يُبلغ الإمام الحسين ( عليه السلام ) بانقلاب الأوضاع ، كي لا يقع في حبائل الغدر والخيانة .

ثمّ أصدر ابن زياد أوامره بتحرّي بيوت الكوفة بيتاً بيتاً وتفتيشها ، بحثاً عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، الذي كان قد اختبأ في بيت امرأة مجاهدة ومحبّة لآل البيت ( عليهم السلام ) اسمها طوعة .

فلمّا علم ابن زياد بمكانه ، أرسل له جيشاً إلى تلك الدار ، فقاتلهم مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) أشد قتال ، إلاّ أنّ الأقدار شاءت فوقع بأيدي قوات بن زياد .

ثمّ أرسلوه إلى القصر ، فدارت بينه وبين ابن زياد مشادّة كلامية غليظة ، حتّى انتهت بقول ابن زياد لمسلم ( عليه السلام ) : إنّك مقتول ، ثمّ أمر ابن زياد جلاوزته أن يصعدوا به أعلى القصر ، ويضربوا عنقه ويلقوا بجسده من أعلى القصر .

ثمّ انهال على مسلم ( عليه السلام ) سيف الغدر ، وحال بين رأسه وجسده ، ليلتحق بالشهداء والصديقين والنبيين الصالحين .

ثمّ جاء الجلاّدون بهانئ بن عروة ( رضوان الله عليه ) ، واقتيد مكتوف اليدين إلى سوق الغنم في مدينة الكوفة ، فقتل هناك واقتطع رأسه ، وقام ابن زياد بإرسال رأسيهما الشريفين إلى يزيد في التاسع من ذي الحجة 60 هـ .

وأما الجسدان الشريفان فقد شَدَّهُما الجلاّدون بالحبال وجُرّا في أزقة الكوفة وأسواقها .

العودة